مفهوم الشباب كمفهوم الثقافة من المفاهيم التي يصعب تعريفها أو تحديد معانيها بدقة. وفي هذا الإطار، لا يحق تجاوز أو إغفال أن الشباب من الفئات الاجتماعية العريضة في أي مجتمع. ومن الخطأ التعامل مع هذه الفئة على أنها وحدة متجانسة ومنسجمة ومتساوية. بل إنها كتلة تتباين من فئة لأخرى ومن مجتمع لآخر ، بحسب المستوى التعليمي والثقافي والوضع الاجتماعي والاقتصادي، ليس فقط بالنسبة لهؤلاء الشباب، ولكن أيضا، بالنسبة للمجتمع الذي يعيشون فيه. (1) أما فيما يعود لمفهوم الثقافة، فإن عددا كبيرا من الباحثين يعتبرون بأن الثقافة سلوك يكسبه الفرد عن طريق التعليم. إلا أن عالم الأنثروبولوجيا المشهور تايلور، كان يرى بأن الثقافة، إذا فهمت بالمعنى الإثنوغرافي الواسع، فهي: " ذلك الكل المعقد الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعرف، ومختلف القدرات التي يكتسبها الإنسان من المجتمع باعتباره عضوا فيه". ( 2 ) نستنتج مما سبق، أن مفهومي الشباب والثقافة يخضعان لمنطق التغير الذي يخضع له المجتمع ككل. وفي نفس الوقت، هناك من الأوجه، فيهما معا، ما يجعلهما يخضعان أيضا لمنطق الثبات والاستمرارية. وهذه هي الفرضيات الأساسية التي سنسعى، من خلال هذا المقال، التحقق منها وعرض مختلف ملابساتها. أولا: الشباب بين الثبات والتغير: عادة ما يطلق الكبار نعوتا وصفات على الشباب، وهم عندما يتداولون حول هذه الفئة الاجتماعية، فهم لا يرون فيها سوى الجوانب السلبية والقد حية. فهم لا يتحدثون إلا عن مشاكل الشباب وعن تمردهم وانفعالاتهم وعن أحلامهم الزائدة وطموحاتهم غير الواقعية، عن عنفهم وعدوانيتهم وانحرافهم، أو عن مخالفتهم للأعراف والتقاليد، وانتهاك القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية. هذا هو الخطاب السائد حول الشباب. لكن، كيف يمكن تناول هذه الفئة الاجتماعية بالدراسة والتحليل، دون السقوط في التبسيط أو في الخطاب الضحل والديماغوجي؟ خاصة وأنها، في نفس الوقت، ذات أهمية كبرى، والتي تعتبر بالنسبة للبعض الآخر، هي عماد المجتمع وآمال المستقبل. كما أن هذه المرحلة تمثل لكل واحد منا، تلك المرحلة المشرقة من عمرنا. لقد عشنا ولا يزال البعض منا يعيشها، بأحلامها وتخيلاتها، بمشاكلها ومعاناتها. وكل واحد منا، عندما يخلو بنفسه يردد قول الشاعر وبحسرة: " ألا ليت الشباب يعود يوما، لأخبره بما فعل المشيب". لقد مثل ولا زال يمثل لنا الشباب، تلك الصورة الجميلة التي كنا نرسم بها معالم المستقبل، ونخطط لتجاوز الواقع الذي لم نكن نقبل به أو نرتاح له؟ إن مرحلة الشباب ليست ثابتة ولا منسجمة، وهناك من يعتبرها مرحلة عائمة وغير واضحة: فمن حيث السن، نحن شبابا بالنسبة لمن هم أكبر منا سنا. وكبارا أو شيوخا بالنسبة لمن هم أصغر من سنا. وبالاعتماد على القوة البدنية، فنحن شبابا ما دمنا أقوياء بدنيا أصحاء جسديا، وكهولا أو شيوخا كلما لم تكتمل هذه القوة أو وهنت بفعل الكبر والتقدم في السن. أما من حيث الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية، فللشباب الأحلام والحب عدم تقدير المسؤوليات، وللكبار والشيوخ، الحكمة والنضج. وأما بالنسبة لتقسيم العمل: للشباب التكوين أو البطالة، وللكبار العمل وتقلد المسؤوليات. لكن، مهما يكن، تبقى للشباب قوة وجوده وفاعليته وأهميته على الكثير من الأصعدة، سنحاول في الفقرات التالية، إبراز أهمية هذه الفئة الاجتماعية ومختلف أدوارها ووظائفها في المجتمعات المعاصرة. 1-1 الشباب حقيقة واقعية، بيولوجيا واجتماعيا: لا يقدر أحد على نفي الوجود الواقعي للشباب. فهم يمثلون فئة عمرية واجتماعية بالغة الأهمية . اختلف كل من علماء النفس والاجتماع على تحديد هذه المرحلة، إلا أن الاتفاق يكاد يحصل على أن مرحلة الشباب تتحدد فيما بين سن الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وهنا من يمدد هذه المرحلة إلى أبعد من ذلك. كما أننا نجد من يخلط بين المراهقة والشباب، ويعتبرهما مرحلة واحدة، فالمراهق هو في نفس الوقت شاب.( 3 ) وتشهد بداية مرحلة الشباب، اقتراب شكل الجسم من آخر درجات النضج. وأما من ناحية النمو النفسي، فيكاد عمر الفرد العقلي يصل إلى ذروته. وهنا تظهر على الشاب ملامح النضج ويبدأ في الوعي بأنه لم يعد صغيرا، ويشرع في المطالبة بالتوقف عن اعتباره لا يزال طفلا. كما يتأكد اعتراف المحيطين به، بأنه لم يعد قاصرا، إن لم يعترفوا له بكامل رجولته. هذا وإن كان الاتفاق يكاد يكون عاما على ما ذكرنا بالنسبة لمرحلة الشباب، فإن ذلك لا ينطبق على قطاع واسع من شباب البوادي والأرياف، بل حتى على أبناء الطبقات الدنيا في المدن في كثير من الدول العربية أو غيرها من الدول النامية، حيث يتوقف هؤلاء الأبناء عن الدراسة ويلتحقون بأعمال دائمة أو مؤقتة في الحرف التقليدية والزراعة أو للعمل في أوراش النجارة والميكانيك وغيرها من المهن التي لا تتطلب مهارات وخبرة. لهذا إذا كان و لا بد من دراسة هذه الفئة، فإن واقعها الاجتماعي يحتم على المهتمين والدرسين، أن يهتموا بها ليس فقط كمرحلة عمرية تلي مرحلة الطفولة وتسبق مرحلة اكتمال النضج عند الإنسان، وإنما يجب الاهتمام بدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ينشأ فيها الشباب. ثم أيضا لا يجب الاهتمام بها ككتلة عمرية، بل يجب النظر إلى حيوية الشباب وحماسهم، إلى نشاطهم الفكري وسلوكهم الفاعل في المجتمع، إن الشباب لا يرتبط بمرحلة عمرية بقدر ما يرتبط بالعطاء والإبداع وروح الابتكار. ثم وهذا مهم أيضا، لا مناص من ربط مرحلة الشباب بما سبقها من مراحل، ولا بد من الأخذ بالاعتبار ما يلي من عوامل مؤثرة على مسارهم في المراحل اللاحقة. 1-2 تداخل الخصائص التي تميز الشباب عن غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى: إن الخصائص المميزة لمرحلة الشباب، مرتبطة ببعضها، وتتداخل فيما بينها. ويذهب علما الاجتماع المهتمين بدراسة قضايا الشباب إلى الاعتقاد، أنه إذا أردنا التعرف أكثر على هذه الفئة، يجب أن لا نعزلها عن المجتمع الذي تعيش وتتشكل فيه. كما لا يجب عزلها، بل لا بد من ربطها بمرحلة الطفولة التي سبقتها، واعتبار مرحلة الرشد اللاحقة بها. لقد ذهب علماء نفس النمو إلى تقسيم مراحل النمو عند الإنسان إلى مراحل محددة، وأظهروا لكل مرحلة خصائصها ومميزاتها وحددوا سماتها. وهكذا لكي يصل المرء إلى مرحلة الشباب فلا مناص له من المرور بمراحل أخرى، وكل مرحلة ستطبع هذا الكائن بمميزات وخصائص سترافقه في المراحل اللاحقة وسيكون لبعضها بالغ الأثر على نموه وإدراكه وقدرته على الاندماج والتكيف مع كل الإكراهات والصعوبات التي ستواجهه. وبما أن مراحل نمو الفرد متداخلة مع بعضها البعض، فإن التركيز على مرحلة الشباب بمعزل عن المراحل السابقة، وحتى اللاحقة سيكون صعبا، خاصة وأنه ليس هناك ما يمكن أن يفصل ما بين المراهقة والشباب، على سبيل المثال، أو ما بين مرحلة الشباب واكتمال النضج. وفي هذا الإطار جاء على لسان عالم النفس الفرنسي الكبير روني زازو قولته المعروفة:" بعد عشرين عاما من دراسة الخصائص المميزة للطفولة والمراهقة، أصبحت أفهم، إلى حد ما، الطفولة والمراهقة، إلا أنني إلى اليوم، لم أستطع التعرف على مرحلة النضج وعلى من هو الراشد"؟ 1-3 الشباب: الحركة والتجدد والتغير: عندما نتحدث عن الشباب، فالمسألة إذن، تتعلق بمرحلة النمو الجسدي والنفسي والعقلي والاجتماعي لهذه الفئة. إن الشباب يتميز بالحركة والتجدد والتغير، إلا أن كل هذا لا يمكن أن يتم في تجانس وانسجام. فالحركة قد تكون سريعة أو بطيئة، والتجدد قد يكون عميقا أو سطحيا، والتغير قد يكون شاملا أو جزئيا. وقد تختلف درجة كل ذلك، من عصر إلى عصر ومن جيل إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر. والشباب من الفئات الاجتماعية السريعة التأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية السائدة في المجتمع الذي يعيشون فيه، كما يتأثرون بما يقع في المجتمعات الأخرى القريبة أو البعيدة منه، بفعل آليات التأثير الكثيرة، والتي أصبح دورها قويا في العصر الحاضر. ومن أعمق التغيرات التي تهم شباب المجتمعات المعاصرة، إطالة مرحلة الشباب، تحت ضغط التحولات المورفولوجية وبفعل التحولات الثقافية. وهكذا فإن الدخول إلى مرحلة الإنتاج والاستقلال المادي، لا يباشرها الشباب اليوم، إلا في فترات متأخرة عما كان عليه الأمر في السابق.( 4 ) وتزيد هذه التغيرات عمقا، كلما اقتربنا من جنس الشاب، لأن الاختلاف يكون واضحا بين أن يكون الشاب ذكرا أو أنثى، من كونه ابنا لعائلة ميسورة أو لعائلة فقيرة. فمرحلة الشباب هذه قد تكون قصيرة، عند الفتيات من الشباب، وتكون أطول منها لدى الذكور. وهي قصيرة عند أبناء الطبقات الفقيرة وفي البوادي، وأطول منها لدى أبناء الطبقات الميسورة وفي المدن. 1 – 4 - الشباب: مكانة هامة وواقع غير مستقر: السباب المغربي نموذجا: يعتبر الشباب، دوليا، محليا، ودائما، الدعامة الرئيسية لإعادة إنتاج النخب الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية والعلمية. كما يشكل الركيزة الفعالة لاستثمار التراكمات بين الأجيال استثمارا أمثل، يقوي وسائل المناعة الداخلية ويضمن استمرارية متجانسة للأنظمة الحضارية الوطنية. وتطرح اليوم، هذه الإشكالية في ظل مناخ تتعدد فيه المصاعب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وقد أدى هذا المناخ إلى زعزعة منطق الحقوق المضمونة على صعيد كل الفئات الاجتماعية وكل الأجيال. وفي هذا الإطار، تعتبر بطالة الشباب من المعضلات الاجتماعية الأكثر إثارة للنقاش ، وتؤرق مسؤولي العديد من الدول وفعاليات المجتمع المدني، بالنظر لأهميتها الكمية وطبيعتها التي أصبحت دائمة بالنسبة لبعض هذه الدول في الوقت الراهن. هذا الواقع الجديد، أصبح يمس، ولو بدرجات متفاوتة، كل مكونات المنظومة الدولية، مساعدا بذلك على توسيع رقعة الفقر والتهميش والهشاشة الاجتماعية، مهددا بذلك استقرار الأنظمة الاجتماعية، بدول الجنوب وحتى بدول الشمال، من خلال الهجرة، المشروعة وغير المشروعة، مما يضع صانعي القرار والخبراء والباحثين، أيضا، أمام تحديات حقيقية، على الرغم من تنوع السياسات الاقتصادية التي تم تجريبها إلى الآن. وهذا ربما، هو ما يبرر الطبيعة المعقدة لهذه الفئة، وما يدفع إلى نهج سلوك أكثر تواضعا على صعيد التفكير والتدخل في هذا المجال، ويشجع على بلورة استراتيجيات مندمجة ومتنوعة لإدماج الشباب وللتفكير الجدي والمتجدد لقضاياهم. وإذا ما أردنا معرفة هذا الواقع غير المستقر للشباب بالمغرب، فإن النتائج ستكون على الشكل التالي: يشكل الشباب من 15 إلى 24 سنة، حسب آخر إحصاء عام للسكان والسكنى بالمغرب، ما يناهز 8،21 بالمائة ضمن مجموع سكان المغرب الذين يتجاوز عددهم 34 مليون نسمة. 6،21 بالمائة ذكور و 9،20 بالمائة إناث. وحسب مكان الإقامة، نجد بأن نسبة الشباب من هذه الفئة العمرية، من ساكنة الحواضر تصل إلى 2،23 بالمائة ، مقابل 2،19 بالمائة من ساكنة البوادي والأرياف. ويتميز واقع الشباب من هذه الفئة، بتعدد مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، وبعدم الاستقرار. وتشكل التربية والتكوين والتشغيل، إحدى السمات البارزة لهذه القضايا. وجاء في أحد البحوث المنجزة من طرف المندوبية السامية للتخطيط، حول مستوى المعيشة، أنه من ضمن 100 شاب من فئة 15-24 سنة، هناك 38 فقط يحسنون القراءة والكتابة، مقابل 55 على الصعيد الوطني. وعندما ننظر إلى هذا العدد من حيث جنس الشباب، فإن هذه النسبة تصل إلى 5،51 بالنسبة للإناث، و 22 بالنسبة للذكور، مقابل 68 و40 على التوالي، على الصعيد الوطني. وقد أظهرت لنا المعطيات المستقاة من هذه المصادر الرسمية، أن الوسط القروي، يوجد في وضعية أكثر هشاشة وأكثر عرضة للأمية، وخاصة بالنسبة للإناث، حيث تصل نسبة هؤلاء 79 فتاة قروية لا تعرف القراءة والكتابة من مجموع 100 فتاة بالوسط القروي. وعلى صعيد سوق الشغل، نستقي من نفس المصادر، أن نسبة النشاط لهذه الفئة العمرية قدرت ب 3،50 بالمائة، 3،34 بالمائة بالنسبة للإناث و3،68 بالمائة بالنسبة للذكور. وهذا يعني، بصيغة أخرى، أن أكثر من 50 بالمائة من هذه الفئة من الشباب إما في حالة بطالة تامة أو في وضعية البحث عن العمل. أما عندما ننظر إلى الحالة الاجتماعية لهذه الفئة من الشباب نجد بأن 9،83 بالمائة منهم غير متزوجين. 9،79 بالمائة في الوسط القروي ، و 8،87 بالمائة في الوسط الحضري. 1-5 الشباب خزان هام لخلق ثروات جديدة: على الرغم من كل المعطيات التي سبق أن وقفنا عندها في الفقرة السالفة، فلا مناص لنا من التفاؤل، ولو بقدر يسير، وفي هذا الإطار، نحن نؤمن بأن الشباب من الممكن أن يتحول إلى خزان هام لخلق ثروات جديدة، وسيتحقق ذلك من خلال العوامل التالية: 1-5-1 إن العجز الذي يعرفه المغرب في ميادين التجهيزات الأساسية، والخدمات الاجتماعية، والخدمات الموجهة للأسر، والمقاولات في عدة ميادين، تشكل في رأينا، مجالات حقيقية وواعدة لخلق أنشطة جديدة. وبالتالي، خلق فرص حقيقية، عديدة ومتنوعة، للإدماج المهني للشباب، سواء في الوسط الحضري أو في الوسط القروي. 1-5-2 إن طاقة خلق الأنشطة الاقتصادية في الوسط القروي، خاصة الأنشطة غير الزراعية، مستغلة بنسبة لا تفوق 20 بالمائة. ويشمل هذا الواقع، جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية للقطاع الفلاحي وللعالم القروي. وهكذا يمكن اعتبار الأنشطة غير الفلاحية في الوسط القروي، من أهم مجالات الاستثمار، والاستيعاب المنتج للشباب المؤهل، القروي والحضري على حد سواء. 1-5-3 حسب تقديرات المجلس الوطني للشباب والمستقبل، فإن إمكانيات خلق الأنشطة الاقتصادية في قطاعي الصناعة والخدمات، وإمكانيات خلق المقاولات بصفة عامة، يمكن أن تتضاعف عشر مرات لتنتقل من خلق 3000 منصب شغل إلى 30000 منصب شغل في السنة. لكن، للوصول إلى تحقيق هذه الغايات، يتطلب المر وضع إستراتيجية واضحة، قوامها عناصر أربعة أساسية: أ – تحسين المناخ الإنتاجي في الوسطين الحضري والقروي، ونقصد بذالك، المناخ الإداري والعقاري والمالي والتكوين المهني والتجهيز، حتى يتمكن الاقتصاد الوطني من توفير الإمكانيات الضرورية لإنعاش المبادرات الخاصة، الفردية والجماعية، محليا، جهويا ووطنيا. ب – ضرورة التوفر على نظام تربوي وتعليمي ناجع، وتكوين مهني ملائم. ج – خلق مناخ اقتصادي يوفر للفاعلين الاقتصاديين إمكانية قراءة مستقبلية لوضعية الأسواق ويحفز على المخاطرة، ويشجع على أخذ المبادرة في أفق الادماح الذاتي. د – إنعاش المبادرات اللاممركزة، والتنمية في إطار مؤسسي، قوامه الرفع من قيمة المنافسة والابتكار. لكن، ومهما يكن، فإن أولى الأولويات هو ترسيخ ثقافة جديدة مبنية على الإيمان الفعلي بإمكانيات الشباب وقدراتهم على رفع التحديات من أجل التنمية والفوز في معركة البحث عن التشغيل في عالم تطبعه المنافسة الشرسة، وتهيمن عليه روح البقاء للأصلح والأقوى والأجود. 1 – 6 سوء الفهم أم سوء التفاهم؟ سنثير هنا قضية ذات أهمية قصوى. تكمن بالأساس في التساؤل التالي: هل العلاقة بين الشباب والكبار، هي علاقة سوء فهم أم علاقة سوء تفاهم؟ أين يكمن سر التناقض الحاصل بين طموحات الشباب وتطلعاتهم وأحلامهم المبالغ فيه أحيانا، وبين ما يراه الكبار ويحكمون عليه أنه تهور واندفاع وعدم الواقعية في طرح الأمور؟ يتساءل الشباب دائما وفي كل المجتمعات عن قضايا تشغل بالهم على الدواء، وما فتئوا يبحثون لها عن إجابات صريحة ومقنعة. ومن أهم هذه الأسئلة: - لماذا يوجد الشباب، غالبا، في وضعية اجتماعية غير قارة؟ - كيف يمكن تبرير النسبة العالية من العاطلين لا تكون إل من الشباب؟ - ما هو سر تواجد السلطة والقرار والنفوذ والجاه، دائما بين أيدي الكبار؟ - هناك حضور دائم لأزمة الثقة بين الكبار والشباب. فالكبار لا يثقون في الشباب. كما أن هناك اعتقاد راسخ عند الكبار بأن الشباب، هم كالأطفال تلزمهم الرعاية والتوجيه. فهم في رأيهم، لا يحسنون تدبير أمور الحياة، ويبذرون بدون حساب، ومندفعون عاطفيا، ومتهورون أخلاقيا، وغير ناضجين فكريا...الخ. هذه القضايا هي التي تؤرق الشباب في كل المجتمعات، والتي لا تتوصل بالإجابات الصريحة عنها، وهي التي أحدثت شرخا عميقا في العلاقة الممكنة بين هذه الفئة وبين جيل الكبار. فبالنسبة للشباب، إن الكبار هم الذين لا يستطيعون التخلي عن الامتيازات التي يتوفرون عليها ويستفيدون من عائداتها، كما لا يريدون الاعتراف بأخطاء مخططاتهم وبرامجهم الخاصة بإدماج الشباب، والرفع من مستوياته على كل الأصعدة، وخاصة فيما يعود إلى وضع سياسة واضحة لخدمة قضايا الشباب ومشاكلهم. وغير مستعدين للاعتراف بفشل وإفلاس برامجهم التي وضعوها للشباب في شتى الميادين: كالدراسة والتكوين أو العمل والترفيه مثلا. إن التطور الاقتصادي والاجتماعي والانفتاح الثقافي غير كثيرا عقليات الشباب في المجتمعات المعاصرة ، بما فيها المجتمعات المغاربية. والشباب لهم دور فعال في التّأثير على هذا التطور، وهو ما يستوجب اعتراف الكبار بذلك، وإفساح المجال لهم للمشاركة في بناء مجتمعاتهم والكشف عن كفاءاتهم ومواهبهم وقدراتهم التي قد تضاهي قدرات ومواهب وكفاءات أصحاب السلطة والنفوذ من الكبار. لا يمكن أن يخامرنا شك في أن شباب اليوم أصبح واعيا إلى حد كبير بكل القضايا التي تهمه، ويتجسد هذا الوعي في القضايا التي أصبح ينادي بها ويعمل على إخراجها للوجود ودفع الكبار للاعتراف بها. ويتمثل ذلك في القضايا الأساسية التي كانت الجمعية العامة للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو )، قد صاغتها في تقرير لها أثنا انعقاد دورتها الخامسة عشرة في أكتوبر من سنة 1968 ، مباشرة بعد أحداث مايو 1968 في الجامعات الفرنسية، والتي كان أبطالها طلاب وشباب ذلك الوقت. وهي كالآتي: - إرادة الشباب للتحرر من التبعية والوصاية. - الرغبة الملحة للمشاركة في الحياة العامة للمجتمع. - المشاركة في البحث لإيجاد حلول لمشاكلهم. - الرغبة في المشاركة في الحياة الدولية. وهذه مطالب تبرهن على تقدم كبير، ووعي عميق، عند الشباب. وهي تعبر أيضا عن ثقافة جديدة يريد الشباب ترسيخها في دواليب المجتمعات الراهنة. وهو ما سيفضي بنا إلى تفحص القضية الثانية في هذا المقال، ويتعلق الأمر بطبيعة الحال، ب "الشباب ثقافة". ثانيا: الشباب ثقافة: الكثير من الناس قد يستغربون من هذا المفهوم المركب، " الشباب ثقافة". وقد يتساءل البعض، الشباب، نعم، وقد بدأنا نعرف من هم؟ والثقافة أيضا، على الرغم من التعاريف الكثيرة، والمتناقضة أحيانا، التي عرفت بها الثقافة، لكن، في نهاية المطاف، قد نقتنع بإحداها؟ لكن أن نعتبر الشباب ثقافة، فهذا ربما يدخل في سياق اللعب بالكلمات، وتركيب ما لا يجب تركيبه؟ وبالتال، ما هي الفوارق الممكنة بين "الشباب كثقافة" و "ثقافة الشباب"؟ إننا هنا، قد يكون لنا رأي آخر، وذلك لإيماننا فعليا وعلميا وعمليا، بان الشباب أيضا ثقافة. لكنها: 2-1 ثقافة من جنس مختلف. 2-2 إنها ثقافة فرعية. 2-3 وهي أخيرا، ثقافة مضادة. 2 – 1 الشباب ثقافة، لكنها من جنس مختلف: هناك اعتقاد سائد لدى عموم شباب مجتمعات هذا العصر، بأنهم مقصيون ومهمشون، لا احد يتكلم معهم لغة مباشرة واضحة وصريحة، لا أحد أيضا، يريد أن يفهم خطابهم ومواقفهم وسلوكياتهم. كل ذلك يتم تأويله تأويلا خاطئا أو مجانبا لما يسعون إلى تحقيقه. ليس هناك، في اعتقادهم، من يساعدهم على بناء أو التخطيط للمستقبل، أو يعمل إلى جانبهم من أجل إثبات ذواتهم والتعبير عن طموحاتهم وأفكارهم. هناك عراقيل كثيرة وحواجز منيعة تكبل تحررهم وممارسة حرياتهم. إنهم بالتالي، يريدون ألا يحسوا بكونهم مهملون ولا أحد يهتم بهم. لديهم رغبة في أخذ أمورهم بأيديهم وأن يكون القرار قراهم أو على الأقل مشتركون في صنعه. هذه بعض معالم هذه الثقافة، وهي تدل على أن الثقافة عند الشباب لها مدلول مختلف. فهي ليست خطابا ولا نظريات جامدة، بل إن الثقافة عند الشباب ممارسة والتزام، وهي تعبير صريح وواضح وقابل للتجسيد على أرضية الواقع. إن الثقافة عند الشباب هي عدم مسايرة التيار، أو التهليل لما يريده الكبار، بقدر ما هي العمل على تغيير مجرى التيار وإعادة رسم مساره من جديد. وقد عبر عن هذه الرؤية بحس فلسفي كبير، الدكتور زكريا إبراهيم، عندما اعتبر أن فكر الشباب: " فكر حر، ولكنه فكر ملتزم" ( 7 ) . كثير من الناس، وخاصة الكبار، يتهمون الشباب بأنهم لا يفكرون. قد يكون ذلك صحيحا، بمقدار، وفي ذلك هم معذورون، لأن أحدا لم يعلمهم كيف يفكرون. إن الأنظمة التعليمية في مجتمعاتنا، لا تعتمد على التمرين الذهني ولا على تعليم التلاميذ والطلاب، كيف يفكرون؟ بل تعتمد على التلقين والتقليد والحفظ، حتى بدون فهم. والغاية من التعليم والتدريس ليس هو تلقين الأفكار وحشو الأدمغة بها، فحسب، بل الغاية من التدريس والتلقين، كما كان يردد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: " إن مهمة المدرس الأساسية هي أن يعلم طلبته كيف يفكرون". (8) إن الشباب في مجتمعاتنا العربية، ليسوا في حاجة إلى مجموعة من الأفكار ، التي قد لا تستجيب ، في الغالب من الأوقات، مع ما ينتظرونه، بقدر ما هم في حاجة إلى وسيلة يتعلمون بها كيف يسلكون، وكيف يواجهون تحديات العولمة، والأزمات المختلفة التي تضرب مجتمعاتهم، وتصعب عليهم الاندماج فيه، والانتقال السلس إلى مصاف المجتمعات الراقية، التي تستقطب كفاءاتهم وتستفيد من ذكائهم وتكوينهم العالي. تلك المجتمعات والدول التي يرون فيها فردوسهم المبحوث عنه، لكي يحققوا فيه أحلامهم المجهضة والتي لم يستطيعوا تحقيقها في مجتمعاتهم الأصلية. إن شباب اليوم، أصبح ، بنسبة عالية، يتوفرون على وعي متقدم، وعلى أفكار سابقة على عصرها، لكنهم يشعرون بأنهم مكبلون ومقيدون ومهيمن علهم، لذا ارتأوا أن تكون ثقافتهم مختلفة عن سائر الثقافات السائدة في مجتمعاتهم، ومختلفة عما يتبناه الكبار ويدافعون عليه من مبادئ ونظريات، لأنها، حسب قناعاتهم، لا تتوافق مع انتظارا تهم. إنهم لا يريدون إتباع طريقة العجائز في التفكير، ولا كيف يعرف هؤلاء واقعهم، وكيف ينظرون إلى المستقبل. إنهم باختصار، يريدون فكرا ملتزما، يضع نصب عينيه المسؤولية والنزعة نحو التجدد والابتكار واستباق الأحداث. 2 – 3 إنها ثقافة فرعية: لا نحتاج إلى التذكير بأن الاستعمال المبكر لمفهوم الثقافة الفرعية، في علم الاجتماع، يعود إلى كل من ماك لانغ لي، وجوردون، للتعبير عن جزء فرعي من الثقافة القومية، " تهدف تأكيد أثر التنشئة الاجتماعية داخل الأقسام الفرعية للمجتمع ألتعددي".( 9 ) ويذهب علماء الاجتماع إلى أن الثقافة سلوك مكتسب. وفي هذا السياق، تعتبر الثقافة الفرعية جزءا من الثقافة العامة. ذلك لأنه في كل مجتمع معقد، قد توجد جماعات فرعية مختلفة، ذات ثقافات فرعية تناضل من أجل إثبات شرعية سلوكيات أفرادها، وأسلوب حياتهم وقيمهم، في مواجهة الثقافة السائدة للطبقات المهيمنة. وفي هذا الإطار يدخل علماء الاجتماع، مواقف الأقليات ونضالا تهم ولغاتهم ومعتقداتهم، وبالتالي ثقافاتهم. انطلاقا من هذا التحليل، يمكن اعتبار الشباب ثقافة فرعية، لأنهم يناضلون من أجل ترسيخ هوياتهم وإثبات تميزهم عن الكبار. إنهم يريدون القول للكبار: لكم ثقافتكم ولنا ثقافتنا، لكم فهمكم الخاص للمجتمع، ولنا فهمنا الخاص بقضايا عصرنا. إن مشاكلنا تختلف عن مشاكلكم وطموحاتنا مغايرة لطموحاتكم، اعترفتم بذلك أم لا، أقررتم بذلك أم العكس. وعلى هذا الأساس، كان ميللر مثلا، يصف الثقافة الفرعية على أنها: " مجالات للاهتمام بقضايا لها انتشار ملحوظ ودرجة عالية من الاحتواء أو الاندماج العاطفي ". ( 10 ) وقد نجد من الباحثين في الثقافة الفرعية، من يميز بين الثقافات الفرعية التي تظهر كاستجابة لمطالب البنيات الاجتماعية والثقافية، من قبيل الثقافة الفرعية المهنية، وبين تلك التي تنشأ كاستجابة سلبية لهذه البنيات، مثل الثقافة الفرعية الانحرافية. ويرتبط الشباب كثقافة، بأسلوب الحياة وبنمط التفكير، وبمظاهر السلوك وطريقة التخاطب والحوار. وهم في ذلك يبحثون عن التميز والتمييز والاختلاف. لقد وقفنا في هذا الصدد، على نموذج لهذا التعبير المختلف لهذه الثقافة الفرعية لدى الشباب المغربي، في بحث طريف لباحث سوسيولوجي مغربي، بعنوان: "لغة الشباب والتمثيل السياسي"، توصل فيه الباحث، إلى أن لغة الشباب بالمغرب، وبصفة خاصة في المدن المغربية الكبرى، أصبحت حقيقة اجتماعية لا مراء فيها، تستمد مصادرها من لغات ولهجات متعددة، عربية وأجنبية، محلية ووطنية. إنها ظاهرة اجتماعية فرضت نفسها، وبصفة خاصة، للتعبير عن بعض القضايا السياسية، أو من أجل اتخاذ موقف من العمل والممارسة السياسية أو غير السياسية. ( 11 ) إن شباب المدن الكبرى المغربية، لا يشكلون فقط شريحة اجتماعية، ولكن، وبالأساس، هم تعبير عن وجود ثقافي متميز ومختلف. ( 12 )ولهذا يكون من الصعب وضع التعبير اللغوي والسلوك الثقافي للشباب في سياق الثقافة العامة السائدة في المجتمع. وهذا ما لاحظه الباحث رشيد بكاج، فيما يتعلق بالتعبير السياسي لهؤلاء الشباب، حول بعض القضايا السياسية. فخطاب الشباب ولغته المستعملة في هذا الموضوع، ليس بالضرورة ما تعمل الدولة، من خلال أجهزتها، العمل على تعميمه ونشره بين عامة المواطنين. لذلك، من الممكن أن تأخذ هذه المواقف والتعابير الثقافية للشباب مستويين من التحليل: + فهي إما تصنف على أنها ثقافة فرعية، بدليل أنها تشترك مع اللغة السائدة والثقافة المهيمنة، في بعض العناصر، وتستمد منها بعض التعابير والمفردات. + أو قد تصنف على أنها ثقافة مضادة، تكشف عن رغبتها في الاستقلال التام عن الثقافة السائدة واللغة المتداولة. وتعبر بصيغة أخرى، عن الرفض الصريح لما يتم تداوله في النسق الثقافي العام. وقد نجد من بين الشباب المغربي، كما يمكن أن نجد ذلك أيضا لدى شباب آخرين في مجتمعات كثيرة، من يصرح علانية أنهم بصدد نحت " هوية لغوية خاصة" من خلال عدم التزامهم بالقواعد اللغوية السائدة، ولا بالقيم التي تحتويها ثقافة المجتمع. ويتمثل ذلك بكل وضوح في اللغة ووسائل التخاطب بين الشباب عند استعمالهم للهاتف النقال مثلا، أو عبر الانترنيت في نوادي الحوار و"الشات"، وغيرها من أساليب التواصل الحديثة في المجتمعات الراهنة. 2- 3 إنها ثقافة مضادة: في سنة 1970 من القرن الماضي، صدر للكاتب الأمريكي تيودور روزاك، كتاب بعنوان " نحو ثقافة مضادة"، ذهب فيه إلى الاعتقاد بأن الشباب، في ذلك الوقت، وفي أي زمن آخر، وفي كل مجتمعات العالم، يتحملون مسؤولية إنقاذ العالم، من خلال الاتجاهات الفكرية والثقافية التي كانوا يتبنونها ودافعون عنها. ويعتبر روزاك من الأوائل الذين استعملوا مفهوم " الثقافة المضادة ". وكان يقصد بهذا المفهوم ثقافة الشباب وحركاتهم المناهضة للأفكار المحافظة، ولثقافة الطبقات البرجوازية، التي كانت مسيطرة على العالم، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. وجعل من الثقافة المضادة، حركة اجتماعية وثقافية، اعتمدها الشباب لفرض قيم وسلوكيات جديدة، وللدفاع عن مجتمع جديد يسود فيه الانفتاح والحرية والحوار والحب والفن. كما تقف هذه الثقافة ضد سلطة التكنوقراط، وضد المعرفة التي تدعي امتلاك الحقيقة وامتلاك مفاتيح كل الأزمات.( 14 ) والثقافة المضادة:" ليست فقط تعبيرا عن الرفض والاحتجاج، ولكنها رغبة في التغيير وتعبيرا عن الطموحات والآمال التي يراد تحقيقها في المستقبل"، حسب تعبير الأنثروبولوجي المصري أحمد أبو زيد.( 15 )