مساهمة منا في النقاش الذي افتتحه عبد السلام انويكة و عبد الإله بسكمار حول موضوع الثقافة بإقليمنا، ننشر هذا النص آملين أن يساهم كتبة أخرى بدلوهم في الموضوع، ليس فقط لإغناء النقاش، بل إيمانا بنا بضرورة الثورات الثقافية الهادئة، الواعية، المسؤولة و السلمية في تغيير العقليات و المرور من مرحلة سلبية نتفرج فيها أكثر مما نطبق و ننقد فيها أكثر مما نثور و نُحَمل مسؤولية التغيير الهادف الآخرين دون أن يكون لنا استعداد للتشمير على سواعدنا للمساهمة الفعلية، لأن التغيير نحو الأحسن هو مسؤولية جماعية في عرفنا، و إلا نسقط جميعا في لغة الخشب دون تغيير و لو ميلمتر في الواقع. قد يكون من تحصيل الحاصل الإعتراف منذ البدء بأننا في صميم إشكالية الحداثة، لأن الموضوع الذي نود نقاشه هو موضوع حداثي من الطراز الأول على مستويات عدة، سأركز في عجالة على أهمها. يتلخص المستوى الأول في كون مفهوم الثقافة لم يعرف هذه الأهمية التي نعرفها له إلا في العصور الحديثة، بدء من الثورة الصناعية إلى عصر "صراع الحضارات". و الثقافة بهذا المعنى ليست فائض إنتاج و لا ترفيه، بل مقوم أساسي في تاريخ شعب ما أو حضارة ما. إنها ركيزة أساسية في هوية الشعوب و الأمم، لأنها هي التي تضمن استمرارية المخيل الجماعي، سواء أكان هذا الأخير عقلي أم أسطوري، موضوعي أو ذاتي. أما المستوى الثاني فيكمن في كون هذا المفهوم يتضمن سيميائيا معان كثيرة و يتأسس على مضامين مختلفة و في ميادين شتى. بمعنى أن المفهوم في فردانيته يوحي بتعدديته، فهناك الثقافة الشعبية و الثقافة الدينية و الثقافة الدنيوية و ثقافة المدينة و نظيرتها البدوية إلخ. إذا اكتفينا بهذين المستويين فإنه يظهر لنا بأننا قد دخلنا باب الحداثة من بابه الواسع و من حقنا، بل من واجبنا طرق هذا الباب ما دام مبتغانا هو بدء تنمية حداثية ثقافية، تعتبر في نظر الكثير من الباحثين، و خاصة في نظر أستاذنا الجليل سبيلا، أهم ميادين الحداثة التي على العرب و المسلمين ولوجه، بل اقتحامه، لأنه هو الممر الصعب الذي ينتظرنا في مشوارنا التنموي الطويل. سوف لن أمر إلى شيء آخر قبل تأمل هذه الكلمة العجيبة: تنمية. خمسة حروف سحرية تعتبر بمثابة الميغناطيس الذي يجذب شعوبا بأكملها و توقظ مضجعها محدثة هزات في البعض منها و شرخ في الأخرى و موجات رد الفعل العنيف عند أخرى بل حتى الثورات. و توحي الكلمة بالمرور من مرحلة إلى أخرى و من حالة إلى أخرى، أي من نقطة زمنية ما إلى أخرى يفترض عموما أن تكون النقطة اللاحقة أفضل من نقطة البداية و هكذا دواليك. و بما أنني بدوي التربية و الطبع فإنني اخترت بعض الأمثلة من بيئتي. نقول نمى الحمل ليصبح خروفا، و نمى هذا الأخير ليصبح كبشا. و نمى الزرع و الشجر. النمو إذن هو انتقال من حال لحال، شريطة أن تكون الظروف مواتية. و هو قبل كل شيء نمو عضوي بيولوجي و فيزيقي عندما نكون نتحدث عن الأشياء الحية في الطبيعة. أما فيما يتعلق بالإنسان، فإن النمو لا يقتصر فقط على الجانب العضوي و النفسي، بل يتعداه ليشمل الجانب الإجتماعي و الإقتصادي و السياسي إلخ. و لهذه الإشارة أهمية قصوى فيما يتعلق بموضوعنا: ماذا نقصد عندما نربط التنمية بالثقافة و بالحداثة؟ ماذا نريد أن ننمي أو ماذا نريد أن نثقف أو ماذا نريد أن نحدث؟ قد نختصر كل الإحتمالات الممكنة في هذا الباب و نكتفي باحتمال واحد: قد يكون المطلوب منا هو اختيار طريق حداثي في الثقافة يمكننا من تنمية شاملة على جميع الأصعدة. و إذا صح هذا الإحتمال فلابد منذ البداية أن نمعن النظر في سبل الوصول إلى هذا المبتغى. و للإشارة، فإن ما نود الحديث عنه هو الحداثة الثقافية و ليس ثقافة الحداثة، لأن تغيير مكان المفردات قد يغير مضمون ما نود قوله. و سأركز على المحاور التالية: • مقومات الحداثة الثقافية • الثقافة كتحدي تنموي • أمثلة على تنمية حداثية للثقافية و سبلها 1. مقومات الحداثة الثقافية: قد أكون سبقت الأحداث و تطاولت على ميدان الأستاذ سبيلا ، شيخ الحداثة العربية. أعتذر إذا لمست بعض النقط التي سيتحدث عنها، و أنبه منذ البداية بأنني سوف لن أستفيظ في هذه النقطة، بل سأهتم فقط ببعض الجوانب المحدودة. ظهرت الحداثة الثقافية في خضم تغييرات راديكالية حدثت في معظم الدوائر الثقافية الغربية قبيل الثورة الصناعية. و بهذا المعنى فإنها نتاج تراكمات ضخمة عبر العصور و لم تعلن عن نفسها إلا في المرحلة التي كان عليها المرور من مستوى الثقافة النظرية إلى مستوى الثقافة المجتمعية. يعني المرور بالمصطلح من معناه الإغريقي-الروماني-المسيحي إلى معناه الحديث، أي جعل الثقافة مسألة اجتماعية في المقام الأول. و هنا نلمس المقوم الأساسي الأول للثقافة، يعني التخلي عن الإنتاج الثقافي النظري و حصر الثقافة في فئة دون غيرها. كما تعلمون فقد كان اليونان القدامى مثلا يحتقرون ذاك الجانب في الثقافة الذي كان يهتم بالمعارف التطبيقية في مقابل الإنتاج النظري التأملي. و بما أن الحداثة في شموليتها هي البنت الشرعية للعقلانية، فإن المقوم المهم للحداثة الثقافية هو ممارسة العقل في ميدان الثقافة بكل ما يعنيه ذلك من نتائج في هذا الحقل. و لا يجب فهم العقلانية هنا في مضمونها الفلسفي و الفكري، بل في معناها التجريبي البراغماتي. أصبحت الثقافة أداة لتغييرات، بل لهزات اجتماعية، و ظهرت إنتاجات ثقافية في ميادين مختلفة: أدب، شعر، مسرح، موسيقى، فكر ... محشوة بأفكار الأنوار. استطاعت الحداثة الثقافية أيضا، و هذا من المقومات البديهية لها، التحرر التدريجي من هيمنة الثقافة الكنسية الكهنوتية و قامت كحركة تحررية ضد هيمنة الثقافة الظلامية الجبرية. و بهذا المعنى فقد استطاعت الحداثة الثقافية إعادة إنزال الثقافة من السماء إلى الأرض، و أتاحت للإنسان ليس فقط إستهلاكها، لكن أيضا إنتاجها. و لا داعي للتذكير هنا بكل الصراعات الدموية التي دارت رحاها بين زعماء الكنيسة و ممثلي الحداثة الثقافية الغربية. و على اعتبار أن الحداثة الثقافية انغمست في هموم الشعوب و معاشاتها اليومية و تجاربها، فإنها أصبحت في قلب الإهتمامات السياسية لزمانها. و من تم بداية اهتمام سياسي بالثقافة و العكس صحيح. و في هذه الجدلية المعقدة بين الإثنين نلمس مقوم آخر للحداثة الثقافية. لم تعد الثقافة ترفا محصورا على نخبة بعينها، بل أصبحت توقظ مضجع السياسيين و الحاكمين، و أصبح من المهم إعطاء أهمية في أساليب الحكم لطبيعة الثقافات التي تعيش في حضن مجتمع ما. يقود هذا الإستنتاج حتما إلى ذكر جوهر الحداثة الثقافية ألا و هي مسألة التعددية. فمفهوم التعددية الثقافية هو مفهوم حداثي، لأن الهدف الأساسي لثقافات العصر الوسيط مثلا كان هو المحافظة على أحادية الثقافة، لأن التعددية كانت تعتبر بمثابة تهديد داخلي رهيب. و التعددية تعني فيما تعنيه إعطاء الثقافات الفرعية مجالا لتحقيق ذاتها، لأنها تعبير عن أقلية ما في المجتمع. و تفرض علينا التعددية الثقافية فسح المجال لديناميكية ثقافية محكومة بصيرورة بعينها داخل الثقافة الكبيرة لشعب ما و داخل ثقافاته الفرعية. و يخلق هذا المقوم حركية مطبوعة في غالب الأحيان بمنطق التنافس الحاد، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، و الذي يضمن وفرة في الإنتاج الثقافي. و هنا بالضبط نلمس ما نسميه بالتنمية الثقافية التي ستقودنا إلى ذكر مقوم أخير للحداثة الثقافية ألا و هو المقوم الإقتصادي. قادت الحداثة الثقافية في تطورها التاريخي إلى الإهتمام بالجانب الإقتصادي للثقافة، ليس من منطق الربح المادي المباشر الذي قد ينتج عن عمل ثقافي ما، بل عن طريق ما قد يتسبب فيه نشاط ثقافي ما في الدفع بالعجلة الإقتصادية في بلد ما أو منطقة ما أو مدينة ما. بمعنى أن الفهم السياسي للثقافة لم يغب عنه توظيف الثقافة كاستثمار، كرأس مال تكون عائداته غير المباشرة مربحة بالنسبة للدولة. لنتصور، إذا أخذنا مثالا من الصناعة السينمائية في بداياتها الأولى، كم أنفقت الحكومات الغربية لتمويل بعض مشاريع أفلام و كيف استقلت هذه الصناعة بذاتها في شركات لتصبح بدورها مصدر رزق للحكومات التي دعمتها في البدء على شكل ضرائب و مصدر تشغيل إلخ. سأقف عند هذا الحد في سرد مقومات الحداثة الثقافية الكثيرة و المتعددة، و لا يعتبر هذا التوقف اختزالا، بل سببه ضيق الوقت. 2. الثقافة كتحدي تنموي: كيف يمكن أن تصبح الثقافة تحديا تنمويا؟ ما هي الشروط الذاتية و الموضوعية التي يجب أن تتوفر لتلعب الثقافة هذا الدور التنموي المنتظر منها؟ هل بإمكانها القيام بهذا الدور؟ أسئلة لا حصر لها تتبادر إلى الذهن عندما يمعن المرء النظر في هذه المسألة. و هي أسئلة جوهرية لابد من وعيها، لأن فيها يكمن كل السر الذي تواجهنا به الثقافة كبلد في طريق النمو ما دمنا لم نعد نرض بنعت بلد متأخر. لا جدال في كون المغرب من الدول العريقة ثقافيا و حضاريا. و لا جدال في كون الثقافات الفرعية في المغرب لعبت و تلعب دورا مهما في النسيج الثقافي العام بغناها و تنوعها و عراقتها. و لا جدال كذلك في كون المغرب محاصر من كل الجهات بثقافات تحاول بلع ما يمكن أن تبلعه منه و فيه. و التحدي الكبير الذي نواجهه هو بالضبط خلق مناخ ثقافي عام تنصهر فيه مقوماتنا الثقافية التقليدية مع مقومات ثقافية رافدة من الخارج. كنا نوهم أنفسنا في الماضي القريب، في إشكالية الأصالة و المعاصرة التي شغلتنا قرونا طويلة و أنهكتنا و أخذت منا طاقات هائلة دون أن نعثر لها على حل، بمسألة ما إذا كان علينا البقاء أوفياء للتراث أو القطع معه و الإرتماء في مغامرات جديدة أو انتقاء ما يليق بنا من المعاصرة. و بينما نحن منشغلون في مساجلات كلامية، كانت تصل في بعض الحالات إلى مناقشات سفسطائية، إذ بأعاصير تهب علينا لم نكن نتوقعها و لم نكن نتصورها بالمرة، قلبت رأسا على عقب بيوتنا و عاداتنا و تقاليدنا و أفراحنا و علاقتنا ببعضنا البعض و علاقتنا بالعالم إلخ. لم نكن مستعدين لهذا الحمام البارد الذي رمتنا فيه المعاصرة و نحن في صقيع تخلفنا و انكماشنا على ذواتنا، لم نشبع من تمجيد الماضي، بل و تقديسه و بناء أسوار عالية من حواليه، دون الإنتباه بأن الضربة ستأتي من الفوق كصاعقة متمثلة في الصحون المقعرة و الأقمار الإصطناعية و كل هذه الثورة المعلوماتية التي نعيشها. و ها نحن الآن نعيش سكرات إما الموت المؤكد أو الصحوة المنتظرة. و لعمري أننا في المغرب، و كل المؤشرات تدل على ذلك، لحسن الحظ، نعيش مخاض أشياء جديدة عودنا عليها تاريخ هذا البلد الآمن تتمثل في كوننا فهمنا أن الحياة لا تعاش في الماضي، بل في الحاضر و في المستقبل، و بأن هويتنا الثقافية محصنة بكل الفيتامينات الضرورية التي تسمح لنا استثمار هذا الرأسمال من أجل تنمية حداثية واعية و مسؤولة، و ترك الثقافة تلعب دورها في هذه التنمية. و من أجل بلوغ هذا الغرض، لابد من ذكر و لو بتركيز الميادين التي نلمس فيها ضرورة التنبيه إلى بعض الهفوات التي علينا أن نأخذها في عين الإعتبار إذا كنا نريد إنتاج ثقافة حداثية تنموية: أ. الدفاع القوي على خضرمتنا: ورثنا ثقافة مخضرمة، أي ملقحة من جذور مختلفة: إغريقية، يهودية، مسيحية، مسلمة، عربية، بربرية، أوروبية إلخ. و تعتبر هذه الخضرمة البنيوية في ثقافتنا بمثابة رأس مال من واجبنا الدفاع عنه و تنميته، لأنه يطابق روح العصر و يتمشى و التعددية الثقافية. هذا الإختلاط الصحي أنتج ثقافة مغربية مزخرفة، لها مقوماتها و مبادئها. و الميزة الأساسية لهذه الزخرفة هو تعايش كل العناصر الثقافية المغربية في رحاب بلد شاسع. في حركية التنافس الطبيعي في رحم هذه الزخرفة الثقافية، لابد لنا أن نحتاط من خطرين: خطر بلع الثقافات الفرعية الواحدة للأخرى. و يكمن الإحتماء من هذا الخطر في فتح المجال لكل هذه الثقافات للتعبير عن نفسها و دعمها بطريقة عادلة لكي نحافظ على التوازن الداخلي لثقافتنا. خطر البقاء في مرحلة الحنين لعصر كانت فيه ثقافة الأسلاف زاخرة و الإنعكاف على إعادة بناء أنفسنا داخليا ثقافيا للإندماج في العالم المعاصر دون فقدان هويتنا الثقافية. و لا يتسنى ذلك إلا إذا انخرطنا في الثقافة العالمية و قدمنا مساهماتنا و انفتحنا على العالم بالكف عن مطالبة هذا الأخير الإنفتاح علينا. ب. التفكير في الرأسمال الثقافي المهاجر: إذا كانت الأرقام التي سمعت عن عدد المغاربة الذين يعيشون خارج الوطن صحيحة، و هي أرقام تأخذ في عين الإعتبار الجيل الثاني و الثالث و لربما الرابع ممن لهم جنسيات أجنبية، فإن ما يناهز خمسة ملايين مغربي و مغربية يمثلون رصيدا هائلا يؤثر مباشرة في ثقافتنا. و لم نهتم إلى حد الساعة بدراسة طبيعة هذا التأثير لا على سلوكنا و لا على عاداتنا و لا على طريقة تفكيرنا، بل نكتفي في غالب الأحيان بترديد و اجترار بعض النماذج الجاهزة لتفسيرات متسرعة، فضفاضة و غير دقيقة. فالهجرة رافدا ثقافيا مهما يؤثر علينا أردنا هذا أم أبينا، و من واجبنا أن نجد سبيلا للتعامل معه بجدية و مرونة و أن نعيه بما فيه الكفاية لكي نستفيد منه و نفيده، فقد يكون البوابة الكبيرة التي تسمح لنا بالفعل من التأثير المباشر و غير المباشر في الثقافة العالمية. ج. فهم هذا السيل الهادر للثقافة المعاصرة: إذا وعينا مسألة وجودية من الأهمية بمكان تكمن في كوننا نعيش مرحلة انتقالية مزدوجة: واحدة داخلية و أخرى عالمية. الأولى تهمنا مباشرة ما دمنا شعبا يصبو إلى تحديث قواعده و بنياته على كل المستويات و ما يرافق هذه المرحلة الإنتقالية من خدوش في هويتنا و نظرتنا للعالم و فهمنا للطبيعة. و الثانية عالمية تكمن في ما سمي عن حق أو دون حق المرور في التاريخ البشري من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، بكل ما يحمله هذا المرور من سلبيات و إجابيات. في بحر هذا الإنتقال نجد أنفسنا فرادى و جماعات، أي على مستوى الوعي الفردي و الوعي الجماعي، في ثنائية وجودية اتجاه الثقافة المعاصرة: من جهة هناك تمجيد لهذه الأخيرة، و من جهة أخرى هناك نقد و رفض لها. و لا نجد هذه الثنائية إكلنيكيا فقط عند ما قد نسميهم الذين يفرشون و يتغطون بالتراث للإحتماء من العصر، بل كذلك عند الكثير من المتنورين و المنفتحين على العصر. المطلوب هو أخذ موقف ليس من ثقافة العصر، بل من العصر برمته: إما أن نعيشه و إما أن يعيشنا! ليس هناك طريق ثان! المطلوب إذن هو وعي هذه الثنائية في ذواتنا و الكف عن مقارنة الداخلي و الخارجي فيما نستهلكه ثقافيا و إطلاق أحكام قيمة على ما نستهلكه. الثقافة، أية ثقافة، لا تنمو بأحكام قيمية، بل بأحكام موضوعية، تتمثل في درجة تطوير محيطها و توسيع دائرته و فتحه على مصادر ثقافية أخرى. د. إعادة النظر في طبقيتنا الثقافية: تعبر الثقافة على الفئات المجتمعية التي تكون بلدا ما. و إذا كانت معظم الدول المتقدمة قد قلصت التجاوزات في نسيجها الإجتماعي، الذي تبعه تقليص في طبقية الثقافة و أصبح الإنتاج و الإستهلاك الثقافيين يقدمان لفئات واسعة، فإننا نلاحظ بأن هناك دائما طبقية ثقافية في الدول النامية. هذه الطبقية لا تخدم بحال من الأحوال النمو، بل على العكس من ذلك. و مشكل الطبقية هذا هو مشكل جد معقد في عمقه يتمظهر في أشكال جد معقدة بدورها. و الطبقية التي نعني هنا هي طبقية بنيوية، هيكلية. و تجد هذه الطبقية ذروتها في الفصل بين ثقافة المدينة و ثقافة البادية. نجد أنفسنا إذن وجها لوجه أمام تحديات ثقافية لا حصر لها، لابد من أخذها في عين الإعتبار لأنها هي سبيل لتنميتنا ثقافيا داخليا. و لكي لا أبقى على مستوى نظري صرف، سأحاول في النقطة الأخيرة لعرضي هذا إعطاء بعض الأمثلة على إمكانيات تحديث التنمية الثقافية، و لا بأس أن أبقى على مستوى محلي. 3. أمثلة على تنمية حداثية للثقافية: لاحظ علي صديقي و أستاذي سبيلا مرة و نحن نتبادل أطراف الحديث على قمة جبل من جبال الألب النمساوية كوني غادرت الفكر و التفكير النظري و اخترت طريقا غير معتاد في الساحة الثقافية العربية عموما مفاده أنني أمشي بين النظرية و التطبيق. و كان جوابي بالإيجاب، لأنني لم أعد أثق إلا بالفكر الذي يمكن أن يتحول لواقع أو يحول الواقع أو يتحولا معا في صيرورة معينة. بحكم مهنتي كسيكلوجي و ممارستي اليومية كبيداغوجي و بحكم احتكاكي المباشر بواقع ثقافي و حضاري مغاير تماما لواقعنا، تربت لي قناعة عميقة تكمن في كون الفكر الرصين و الأصيل هو الذي يترجم في السلوك الشخصي و الممارسة اليومية. لا يفيدني و لا يفيدكم في شيء أن أصدح بكل ما يمكن أن أصدح به أمامكم هنا فيما يتعلق بموضوعنا دون محاولة ربط ما قلته بما يمكن عمله في الواقع. و أصرح منذ البداية بأن التنمية المتوخاة من الثقافة كرأسمال بشري و مادي و حضاري هي تنمية جد بطيئة و بأنها تتطلب الكثير من التضحيات، الفردية منها و الجماعية و التحلي بشجاعة أدبية و التخلي عن شيء جد مهم: عدم إلقاء اللوم على الآخر و الإستغناء التام و الواعي عن تحميل مسؤولية التنمية الثقافية أو الثقافة التنموية للدولة و للسلطات فقط. الثقافة مسؤولية الجميع، و الجميع مكون من أفراد و مجموعات و تكتلات. تتطلب تنمية الثقافة بناء هياكل يمكن أن يعول عليها في المجتمع المدني و تتطلب أول ما تتطلبه نكران الذات و التطوعية و الإلتزام بقضايا بعينها. أ. الإهتمام بالأساس: لا يجب فهم تجريد الدولة و السلطات من أية مسؤولية عن التنمية الثقافية فهما خاطئا. مسؤولية الدولة في المجتمعات الحديثة فيما يتعلق بالثقافة هو تهييئ إطار مادي عام لأنشطة ثقافية، يتمثل هذا الإطار في غالب الأحيان في توفير بنية تحتية و معدات لمزاولة الجمعيات و المبادرات الثقافية أنشطتها. هذه مسؤولية ضرورية في التنمية الثقافية في بداية مشوارها. يعني لابد من دعم مادي رسمي واع لكي تحدث حركية ثقافية. سبقتنا الأمم المتحضرة الحديثة إلى تجربة المراكز الثقافية من أجل تأسيس ثقافة حديثة و دور هذه المراكز إلى حد الآن هو إتاحة الفرصة للقاعدة الثقافية كي تتطور. إذا لم نطور هذه القاعدة، فإن تطوير الثقافة سوف يكون أبطأ من السلحفاة. و المركز الثقافي في حاجة لتصور جيد دقيق. لنأخذ مثال مدينة تازة الجميلة، و لنتصور بأن كل الظروف مواتية لإقامة مركز ثقافي عصري. أول الأسئلة التي يجب أن تطرح هي موقع المركز و دائرة إشعاعه. هل ينتظر من المركز أن يركز على مدينة تازة فقط أو هل المبتغى هو إضاءة الواجهات الخلفية في مجموع الإقليم؟ هل تريد المدينة بنية ثقافية تأخذ في عين الإعتبار المقومات الأصيلة فقط أم تريد ثقافة عصرية؟ هل تريد إنتاجات ثقافية أكاديمية: مسرح هادف، شعر، أدب إلخ، أم خليط بين الأكاديمي و العامي؟ ماذا يمكن أن تستفيده الثقافة العصرية التازية من هذا الغنى الهائل لثقافتها الشعبية لبناء ثقافة عصرية؟ أسئلة لا حصر لها تطرح، و يجب أن يجد المرء أجوبة لها، لأن بناء الأساس يتطلب كل هذا. من طبيعة الحال، ليس في جعبتي أجوبة و لا حتى اقتراحات، فأهل تازة أدرى بثقافاتها. ما أود التركيز عليه هنا هو أن بناء هذا الأساس لا يتأتى إلا بإشراك كل الفاعلين الحيويين من أبناء و بنات تازة الأبرار. التنمية الثقافية الحديثة تنمو و تترعرع في ظل ديمقراطية شفافة تأخذ بعين الإعتبار رغبة الأغلبية. ب. التفكير في محطات ثقافية سنوية: سبقنا الأجداد إلى الإحتفال بالكثير من المناسبات، التي تعبر في العمق عن غنى ثقافي لا نظير له. كانت للبوادي احتفالات الحرث و الدرس مثلا و للمدن المواسم و زيارة قبور الأولياء و الصالحين. كان لعيد الأضحى مثلا نكهة خاصة في قرى إقليمتازة، من منا لا يتذكر "سونة" ظهر يوم العيد أو ليلة عاشوراء و نيرانها الملتهبة. أصبحت مثل هذه المناسبات الثقافية تتقلص في تضخمها و أصبحت أمسية 31 دجنبر أهم من موسم سيدي احمد (إذا كان هناك موسم من هذا القبيل بضواحي تازة). انتبهت المدن المغربية الكبرى إلى هذا الفراغ المهول الذي خلفه هذا "الإستغناء" عن هذه المحطات و بادرت الكثير منها إلى خلق تقلعات جديدة: المهرجانات. لكل مدينة تقريبا مهرجانها، و يعز على نفسي ألا يكون لمدينتي مهرجانها: مهرجان الزيتون مثلا أو الموز أو الشعير أو القمح أو الفن الشعبي أو شيء من هذا القبيل. فكرة المهرجان في الدول المصنعة هي فكرة اقتصادية محضة، هي توظيف للثقافي من أجل الإقتصادي. و ليس في هذا عيب ما دام المبتغى هو تحريك عجلة اقتصاد منطقة أو مدينة ما. و كما هو الشأن بالنسبة للأساس، فإن فكرة المهرجان لابد أن تفكر في نفسها بما فيه الكفاية، و إلا انزلقت إلى صف الفولكلوري البسيط. أساس فكرة المهرجان هي الوصول إلى أكبر عدد من الناس و خلق حركية ثقافية موسمية تساهم في تنمية الثقافة و تنمية الإقتصاد على حد سواء. ج. دعم ثقافة الشباب: للشباب كفئة اجتماعية بعينها ثقافته الخاصة. فحتى و إن كان يقاسم الراشدين بعض الأشياء الثقافية فإنه يطور ثقافته الخاصة، و بهذا يمكن اعتبار الشباب عنصرا مهما في تنمية الثقافية. هناك طبيعيا مناطق التقاء بينه و بين الراشد و لابد أن تكون هناك مناطق افتراق إذا أرادت أمة ما ضمان تطورها ثقافيا. إذا اجتر الشباب ثقافة الآباء و الأجداد فقط، فإنه يتخلى على مسؤوليتهم الثقافية و عن هذه الإمكانيات الهائلة التي يتوفر عليها للدفع بالثقافة قدما. و إذا لم يكن هناك توثر ثقافي بين الراشد و الشاب، إذا لم يحاول الشاب الذهاب أبعد من أبيه و جده، فإنه لن يفلح من التخلص من عقدة أوديب الثقافية. قتل الأب الرمزي و بناء طوطيم يكون نقطة البدء بالنسبة لجيل ما، هو السبيل الوحيد لتنمية ثقافية واعية و مسؤولة. يمكن أن يكون الإجتهاد في التراث ذاته و عوض أن يرقص أحيدوس بالطريقة التي نعرفها يمكن أن يرقص بطريقة أخرى. فقد كانت تجربة جيل جيلالة و المشاهب مثلا فريدة من نوعها لتطوير الأغنية الشعبية و إلحاقها بروح العصر. سأكتفي بهذا القدر نظرا لضيق الوقت و أختم بالتأكيد على أن التنمية هي سلوك ثقافي حداثي لا يمكن أن تقوم في مجتمع ما دون مراعات شروط كثيرة. و هي مطلب حضاري و اجتماعي ملح بالنسبة لنا كمجتمع تواق للخروج من هذه المرحلة الإنتقالية ليس فقط بأسرع وقت، بل بأقل الخدوش في ماهيتنا الثقافية بالإنغماس، أقول الإنغماس و ليس السقوط، في المحيط الثقافي الكوني أخذا و عطاء. الثقافة شرط ضروري لهذه التنمية و يجب فهمها كرأس مال تكون عائداته البشرية و المادية غير مباشرة. لا يمكن مطالبة الثقافة بمردودية مادية مباشرة، لأنها استثمار مجتمعي و سياسي يقود ببطئ، لكن بالتأكيد إلى تنمية متينة تكون في صالح الكل في آخر المطاف! هامش: 1- محاضرة ألقيت بتازة يوم 16 يونيو 2006 بالكلية المتعددة التخصصات بحضور الفيلسوف محمد سبيلا و بتنظيم مشترك من طرف المجلس البلدي و الكلية و كان الدينامو المنظم هو السيد بلهيسي محمد، مندوب الثقافة.