جرى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان تعديلًا وزاريًّا طال عددًا كبيرًا من وزراء حكومته، بعد أن وردت أسماء أربعة منهم في التحقيقات في قضايا فساد، منها ما هو مرتبط ببنك "خلق" الذي يجرى من خلاله تسديد قيمة مشتريات تركيا من النفط والغاز الإيراني، والذي تنتقده الإدارة الأميركية منذ فترة وتعدُّه حالةً من كسْر الحصار على إيران. ويتهم أردوغان رجلَ الدين فتح الله غولن، المقيم في الولاياتالمتحدة والمعروف بعلاقاته المتشعبة هناك، رئيس حركة "خدمة" التي يناهز عدد أتباعها المليون، بينهم مسؤولون كبار في الشرطة والقضاء، بتدبير هذه "المؤامرة" لإسقاط حكومته، بالتنسيق مع قوى أجنبية غير راضية عن السياسات الخارجية التركية من مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وكانت جماعة غولن تُعَدُّ حتى وقت قريب حليفًا وثيقًا لحكومة حزب العدالة والتنمية التي يقودها أردوغان، وكانت قد صوَّتت لها في جميع الانتخابات التي جرت منذ عام 2002. فما الذي أدَّى إلى تحوّل الجماعة ضدّ الحكومة وأدخل تركيا في واحدة من أخطر أزماتها السياسية منذ الانقلاب الذي أطاح حكومة نجم الدين أربكان عام 1997؟ وكيف ستؤثر هذه المواجهة في المشهد السياسي التركي مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المقرَّر في 30 آذار / مارس المقبل، وخصوصًا أنّ جماعة غولن تملك وسائلَ إعلام نافذةً ولديها أتباع ومؤيّدون في أوساط الأعمال والوظائف العامَّة. من التحالف إلى العداء نتيجة تشدد النظام العلماني التركي في التعامل مع الأحزاب والتيارات ذات التوجهات الإسلامية، بخاصة خلال العقود الأولى من نشأة الجمهورية، عملت معظم التيارات الدينية تحت قانون الجمعيات الخيرية، أو الحركات الصوفية التي سُمح لها بالنشاط في عهد حكومة عدنان مندريس التي فازت بانتخابات عام 1950، لتنهيَ سيطرة حزب الشعب الجمهوري العلماني المتطرف الذي أنشأه أتاتورك وانفرد بالسلطة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. بيد أنّ نشاط الجمعيات الخيرية والدينية لم يعدْ يقتصر، بمرور الوقت، على النشاطات الخدمية والتربوية. بل امتدَّ إلى المجال السياسي عبر إنشاء تحالفات مع الأحزاب والقوى السياسية، وخصوصًا في مواسم الانتخابات؛ إذ تحثّ هذه الجمعيات أعضاءها والمتعاطفين معها على التصويت لأحزاب معينة، مقابل حصولها على تسهيلات وخدمات مختلفة في حال وصول هذه الأحزاب إلى الحكم. وكان من أبرز هذه التحالفات ما قام بين حزب العدالة والتنمية وحركة "خدمة". فعندما قام أردوغان ورفاقه بتأسيس العدالة والتنمية، بعد إطاحة حُكم أستاذهم أربكان، وفق برنامج سياسي يحترم الدستور العلماني ويتجنَّب الصدام مع المؤسّسة العسكرية، كان فتح الله غولن وتلامذته من المباركِين لهذه الخطوة، وخصوصًا أنّ استطلاعات الرأي حينها كانت تشير إلى أنّ حزب العدالة والتنمية سوف يفوز في الانتخابات في ظلّ وضْع سياسي واقتصادي معقَّد، ثبت خلاله فشل الأحزاب العلمانية وانكشف فسادها. ويمكن القول إنّ جماعة غولن عاشت عصرها الذهبي في ظلِّ حكومة أردوغان التي فتحت لها آفاق العمل والنشاط في جميع قطاعات الدولة، بما فيها تلك التي لم يكن ممكنًا لها العمل فيها من قبل، ولا سيما وزارات التربية والتعليم، والداخلية ومديريات الأمن والاستخبارات، ووزاراتي الخارجية والعدل. كما ذهب أردوغان إلى حدّ الترويج للجماعة في الخارج، عندما توسّط بينها وبين مختلف الزعماء والرؤساء؛ للحصول على أراضٍ في بلدانهم تقيم الجماعة عليها مدرسةً، أو رخصٍ تقيم بموجبها مشروعًا. وفي المقابل دعمت الحركة الحزب في جميع الانتخابات التي فاز بها منذ وصوله إلى السلطة. وقد ساعد النجاح الداخلي والخارجي الذي حقَّقه حزب العدالة والتنمية بين عامي 2002 و2010 في استمرار هذا التحالف. بيد أنّ التحديات التي بدأت تواجهها تركيا، سواء على صعيد علاقاتها الخارجية نتيجة التحولات الكبيرة التي حصلت في محيطها الإقليمي ودفعتها إلى الاصطدام بالعديد من دول الجوار الفاعلة، أو على صعيد مشاكلها الداخلية المرتبطة ببعض القضايا؛ مثل المسألة الكردية، جعلت بعض المتحالفين مع حزب العدالة والتنمية يختلفون معه، وكان من بين هؤلاء حركة فتح الله غولن. خلافات على المستوى الخارجي والداخلي بدأت الخلافات بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية نتيجة اختلافات في تحديد المصالح الخارجية التركية وقراءتها أساسًا. فمنذ حادثة سفينة "مافي مرمرة"، في أيار / مايو 2010، بدأ فتح الله غولن يوجِّه انتقادًا لاذعًا إلى الحكومة التركية، مدَّعيًا أنها سمحت للسفينة بالإبحار من دون أخْذ إذنٍ من الحكومة الإسرائيلية. وفي مفارقة أثارت استغراب الكثيرين، حمَّل غولن رئيسَ الحكومة أردوغان مسؤولية الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية الذي أدَّى إلى مقتل تسعة أتراك. وقد مثَّلت هذه التصريحات حينئذٍ صدمةً داخل تركيا وخارجها. ولم يكن الخلاف المتعلق بقضية سفينة مرمرة، التي لم تبادر حكومة أردوغان أصلا الى إرسالها إلا مؤشِّرًا على رفْض غولن سياسات أردوغان المنحازة إلى العرب في نقدها للسياسة الإسرائيلية؛ إذ يمثّل غولن في هذا الموضوع تحديدًا وجهة نظر مختلفة كليًّا، فهو لا يُبدي حرصًا شديدًا على بناء علاقات ممتازة بالولاياتالمتحدة فحسب، بل إنه حريص على ذلك مع إسرائيل أيضًا. وهكذا ظهر غولن معارضًا لسياسات حزب العدالة والتنمية في الخارج، قبل أن يظهر معارضًا لها في الداخل. لقد ظهر الخلاف المتعلِّق بقضايا داخلية بين غولن وأردوغان، أوَّل ما ظهر، عندما أسّست حكومة العدالة والتنمية المحاكم الخاصة للنظر في قضيَّة الأرغينيكون، وهي قضية اتهمت فيها الحكومة عشرات الضباط من المؤسّسة العسكرية بالتدبير لانقلاب عليها عام 2007[1]. لكنّ أمد المحاكمات طال من دون حسمٍ، كما أخذت الاتهامات تمسُّ قياداتٍ عسكريةً عملت حتى وقت قريب بجانب أردوغان الذي جعل يُبدي استياءً واضحًا من بُطْء سير المحاكمات، ومن اقترابها من قيادات عسكرية تعدُّ قريبة إليه؛ ما أشعر أردوغان بأنّ جهازي الشرطة والقضاء اللذين أمسيا في قبضة جماعة غولن باتا يشكِّلان تحديًا كبيرًا له. أمّا الخلاف الداخلي الثاني فقد ظهر عندما جرى الكشف عن تسجيلات صوتية لمفاوضات سرِّية في أوسلو مع حزب العمال الكردستاني، تحت إشراف رئيس جهاز الاستخبارات، في إطار مسعى الحكومة لحلّ القضية الكردية. غير أنّ جماعة غولن التي لها امتداد ونفوذ في المناطق الكردية كان لها رأي في الحلّ يختلف في التفاصيل مع رأي أردوغان؛ ما جعل المدّعي العامّ "صدر الدين صاريقايا"، المحسوب على جماعة غولن يقوم في فبراير / شباط 2012 باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات "هاكان فيدان" للمساءلة القانونية، إذ وجه إليه تهمًا بالتفاوض مع أعداء الوطن وتجاوز صلاحياته، فترتَّب على ذلك تدخُّل من رئيس الوزراء أردوغان الذي عدَّ المسألة خارجةً عن نطاق الخلاف السياسي إلى الاستهداف الشخصي له، عبْر استدعاء صديقه فيدان للتحقيق. وقد ذهبت الشكوك إلى أنّ جماعة غولن هي التي قامت بتسريب التسجيلات الصوتية لرئيس جهاز الاستخبارات في أوسلو. وأشارت بعض الصحف إلى أنّ عناصر من جماعة غولن في جهاز الشرطة هي التي كانت وراء التقاعس الأمني الذي أدَّى إلى تفجيرات الريحانية في شهر أيار / مايو 2013؛ ما أوقع الحكومة في حرجٍ داخلي وخارجي كبير[2]. وبلغ الخلاف بين الحكومة والجماعة أوجَه عندما أيَّد غولن - ضمنيًّا - الاحتجاجات التي جرت في ساحة تقسيم، في حزيران / يونيو 2013، على خلفية قضية حديقة غازي[3]. وقامت، من جهة، وسائل إعلام تابعة للجماعة بتوجيه انتقاد حادٍّ لأردوغان، ولطريقة تعامل حكومته مع الأحداث. وتولَّت، من جهة أخرى، صحيفة تودايز زمان الناطقة بالإنكليزية مهمّة "تشويه" صورة حزب العدالة والتنمية على المستوى الدولي. أمّا القضية التي فجَّرت الخلاف على نحوٍ علني ومفتوح، فكانت قيام عناصر في الشرطة تدين بالولاء لغولن بحملة اعتقالات طالت أبناء وزراء في حكومة أردوغان بتُهم فسادٍ - من دون عِلم السلطات العليا - بمن فيهم وزير الداخلية؛ وذلك بهدف إحراج الحكومة عبْر رميها بتُهم الفساد المالي والأخلاقي، قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات البلدية؛ ما اضطر رئيس الحكومة أردوغان إلى أن يطلب من ثلاثة وزراء - وهم وزراء الداخلية والاقتصاد والبيئة - تقديم استقالاتهم، بعد سجن أبنائهم على ذمة قضايا فساد، حتى يتسنَّى للقضاء التركي التحقيق في التُّهم من دون التأثر بمناصب آبائهم، أو مكانتهم السياسية في الحكومة. وفي مقابل كلّ خطوة عدائية كانت تقوم بها جماعة غولن، كانت الحكومة ترُدُّ بإجراء عقابي، فتمَّ إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي كانت جماعة غولن تملك 25% منها في البلاد، ردًّا على موقف الجماعة من أحداث ساحة تقسيم. وتذهب بعض القراءات إلى أنّ الحملة الأخيرة من الشرطة ضدّ الفساد لم تكن إلا ردًّا من حركة غولن على قيام الحكومة بإغلاق مدارسها. لكنّ الحكومة قامت بالردّ على الردّ عبْر طرْد العشرات من ضباط الشرطة والموظفين العموميين المحسوبين على الجماعة، من بينهم رئيس شرطة إسطنبول[4]. معارضة من داخل التيار الإسلامي هذه المواقف المتعارضة بين حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولن جعلت المعارضة الرئيسة للحكومة التركية تأتي من داخل شبكة مصالح تجمع بين الصوفية والبراغماتية السياسية، وقد عُدَّت بحق، أو بغير حقّ، محسوبةً على التيار الإسلامي، لا على المعارضة العلمانية، ليبراليةً كانت أو قوميةً. وهذا تطور في ساحة الإسلام السياسي التركي لافت للنظر. بل إنّ غولن أخذ يَنشُد تحالفاتٍ مع الأحزاب العلمانية المعارضة لحكومة العدالة والتنمية، وكأنه يسير على النهج نفسه الذي تعامل به مع نجم الدين أربكان عندما ترأَّس الحكومة خلال العام الممتدّ بين 1996 و1997؛ إذ جعل من نفسه خصمًا عنيدا لأربكان ولحركته ملّي غروش "رأي الأمة"، من داخل تيار الإسلام السياسي التركي. وهذا يعني أنّ غولن أخذ يتبنَّى برنامجًا واضحًا لمعارضة حكومة العدالة والتنمية، وأنّ الأمر ليس اختلافًا مع مواقفها من القضايا الداخلية والخارجية فحسب. وقد يشير قيامه بمغازلة المؤسّسة العسكرية وادعاء استعداده للتخلّي عن كلّ ممتلكات الجماعة للعسكر التركي، إلى أنّ كولن ربما يسعى لإسقاط حكومة العدالة والتنمية، لكن من دون أن يقدم نفسه بديلًا منها. هذا التحول الكبير في موقف فتح الله غولن من حلفاء الأمس يثير تساؤلاتٍ عديدةً متعلقةً بالأسباب التي دعت إليه، فهل يشي ذلك بأنّ الجماعة أصبحت من القوة والتأثير والنفوذ ما يجعلها في غنًى عن الاستمرار في التحالف مع حكومة العدالة والتنمية التي فتحت لها كلّ الأبواب؟ أم هل أنّ غولن يشعر بأنّ نجم أردوغان بدأ بالأفول وأنّ حظوظه في الاستمرار في الحكم بدأت تقلُّ نتيجة الصعوبات التي أخذ يواجهها في السنتين الأخيرتين سواء داخليًّا أو خارجيًّا، ولذلك بدأ يعمل منذ الآن على بناء جسور مع من سيخلف حكم العدالة والتنمية، بخاصة أنّ غولن معروف بحسن قراءته للمتغيرات الدولية وقدرته على استثمار المعادلات السياسية الداخلية، وأنه يريد أن يكرر تجربته مع حزب العدالة والتنمية، ولكن مع أحزاب أخرى؟ لا شكَّ في أنّ الانتخابات البلدية المقبلة سوف تكون الامتحان الأبرز لحزب العدالة والتنمية، كما أنها ستعطي مؤشراتٍ متعلقةً بهذه الأزمة إن كانت أثَّرت فعلًا في شعبيته بين الناخبين الأتراك. ويبدو حتى الآن أنّ الحزب مطمئن إلى غياب معارضة سياسية حزبية قوية له، فجميع الأحزاب العلمانية ثبت فشلها، وعدم قدرتها حتى على استثمار متاعبه كما حصل في أحداث تقسيم وغيرها. إضافةً إلى ذلك يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية مطمئن إلى أنّ الأتراك، خلال الانتخابات البلدية المقبلة، لن يصوِّتوا لأجندة سياسية، بل لمصلحة أجندة خدمية. وفي هذا المجال يدرك الحزب الحاكم أنّ الآخرين غير قادرين على منافسته؛ فمنذ وصوله إلى السلطة عام 2002 لم يستطع حزب سياسي تركي منافسة العدالة والتنمية في المحليات، ولا حتى في الانتخابات البرلمانية. وعلى الرّغم من ذلك فإنّ حركةً اجتماعيةً وجمعيةَ خدمةٍ خيرية ذات علاقات متشعبة بما فيها الولاياتالمتحدة، مثل جماعة غولن، قد تُلحق بالحزب الحاكم ضررًا أكبر ممّا تستطيع أن تلحقه به أحزاب المعارضة العلمانية مجتمعةً. فهذه المعارضة لن تستطيع أبدًا أن تُقدِّم نفسها بديلًا من حزب العدالة والتنمية الذي خاض الانتخابات بكلّ أنواعها، والذي يعرف كيف يديرها ببرنامج له وزنه في الشارع التركي. [1] أرغينيكون هو اسم واد أسطوري في آسيا الوسطى تعود أصول الأتراك العرقية إليه، وهي منظمة سرِّية، تأسست عام 1999، تقول إنّ هدفها المحافظة على العلمانية في تركيا، وتُتهم بالقيام باغتيالات وتفجيرات في عدد من المدن التركية، ومحاولة الانقلاب على الحكومة. استُهلت القضية عام 2007 مع اكتشاف مخبأ للأسلحة في إسطنبول، جرى على إثره اعتقال عشرات المتهمين بينهم جنرالات وصحافيون وزعماء عصابات إجرامية يحاكمون منذ تشرين الأول / أكتوبر 2008. وقد باتت القضية رمزًا للصراع بين الحكومة الإسلامية المحافظة وبين المؤسسات العلمانية في البلاد. وضمن أخطر القضايا التي يتآمر فيها الجنرالات الأتراك في تاريخ الجمهورية التركية وأكبرها، قضت محكمة إسطنبول بقبول النظر في قضية باليوز؛ وهي اسم المخطط الذي وضعه الجنرالات الأتراك للانقلاب على الحكومة، ومن بين المتهمين قائد الأركان السَّابق الجنرال إيلكر باشبوغ الذي قاد الجيش التركي بين عام 2008 وعام 2010. وبلغ عدد المتهمين في هذه القضية ثلاثمئة متَّهم. [2] حول تفجيرات الريحانية وموقف الحكومة التركية انظر: "أردوغان: منفِّذي تفجيرات الريحانية ساعدوا وفد المعارضة التركية في لقاء الأسد"، الحياة، 24 أيار / مايو 2013، على الرابط: http://alhayat.com/Details/516950 [3] بشأن هذا الموضوع، انظر "ميدان تقسيم... اقتلاع شجرة يولد احتجاجات"، الجزيرة نت، 3 حزيران / يونيو 2013، http://www.aljazeera.net/news/pages/c8c233f8-6991-48f4-881c-ff8ef342d1fe [4] انظر: "حملة تطهير جديدة في صفوف الشرطة التركية بسبب فضيحة فساد"، الحياة، 23 كانون الأول / ديسمبر 2013، على الرَّابط: http://alhayat.com/Details/585101