مع الصعود السياسي للتيارات الإسلامية في عدد من الدول العربية، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، بفضل ثورات التحرر التي انطلقت في مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية، انبرى عدد من الكتَّاب والإعلاميين العلمانيين، ومعظم هؤلاء من فلول اليسار وبقايا الماركسية ومدعي الليبرالية، للتعبير عن مخاوفهم وهواجسهم من احتمالات تراجع مساحة الحرية والإبداع في مجال الثقافة والفن. وأثار هؤلاء الكثير من اللغط والتشويش حول مستقبل الفن والإبداع في ظل حكم الإسلاميين، وصوروا للناس، زوراً وبهتاناً على غير الحقيقة والواقع، أن التيارات الإسلامية (الظلامية!) سوف تقطع دابر الفن والإبداع، وأنهم سيفرضون بالقوة ثقافتهم (المتخلّفة!) على المجتمع. ظن بعض هؤلاء العلمانيين أن تشويه الصورة وتضليل الناس من خلال الحديث عن نهاية عصر الفن والإبداع؛ هي البوابة الخطيرة والمثيرة التي يواجهون من خلالها التيارات الإسلامية، لكنهم لم يتوقعوا أن هذه الحجة الباهتة سوف تنقلب إلى العكس تماماً، لسببين؛ الأول: أن الفن الذي يقدم الآن، سواء في السينما أو في المسرح أو حتى في المسلسلات التلفزيونية، لا يلقى قبولاً لدى معظم فئات المجتمع، ولا يكاد يأسى عليه أحد، ناهيك عن الدفاع عنه، والسبب الثاني: أن الإخوان المسلمين كانت لهم تجربة عملية رائدة بالفعل في مجال صناعة الفن الهادف، امتدت لأكثر من 15 عاماً في زمن الإمام المؤسس حسن البنا، وهي تجربة مهمة في عالم المسرح بالذات؛ لابد من الحديث عنها عندما نتعرض لرؤية الإخوان لهذا الفن. في أول لقاء بين حسن البنا والفنان أنور وجدي يروي الخبير الاقتصادي د. محمود عساف، عميد كلية التجارة بجامعة المنصورة سابقاً، في أحد كتبه، موقفاً تاريخياً له دلالته، حدث في صيف عام 1945م. بين حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان وبين الفنان المعروف أنور وجدي، عندما التقيا في مكتب مدير أحد البنوك المصرية، وبمجرد دخول الأستاذ البنا مكتب المدير صاح الأخير قائلاً: حسن البنا عندنا.. يا مرحباً، مما لفت انتباه الفنان أنور وجدي، الذي استدار وسلم على الأستاذ البنا وجلس بجانبه، وقال له: أعرفك بنفسي، أنا أنور وجدي، «المشخصاتي» كما تقولون، أنا ممثل، وطبعاً أنا من وجهة نظرك كافر، مع أني والله أقرأ القرآن وأصلي. فقال البنا: «يا أخ أنور، أنتم لستم كفرة أو عصاة بحكم عملكم، ونحن لا نقول هذا، فالتمثيل ليس حراماً في ذاته، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراماً، وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام، إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل إنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعاظ وأئمة المساجد. ويذكر التاريخ أن الفنان أنور وجدي، وقد كان فتى السينما الأول في ذلك الوقت مع زوجته الفنانة ليلى مراد، قدم للسينما المصرية بعد هذه المقابلة، فيلم «ليلى بنت الفقراء» عام 1945م، يناقش فيه مشكلات المجتمع المصري، من فقر وجهل ومرض، ويدعو إلى إصلاح المجتمع ونبذ الطبقية. ولم يقف الإمام الشهيد حسن البنا عند حدود هذه النظرة الفقهية الوسطية المجردة للفن والتمثيل، والتي تجلت في مقولته: «حلاله حلال وحرامه حرام»؛ أي ما كان حراماً في الحقيقة يحرم فعله تمثيلاً، وما كان حلالاً في الحقيقة يباح تمثيله، فإذا كان يحرم على المرأة أن تكشف عن جسدها للأجنبي عنها في الحقيقة، فإنه يحرم عليها ذلك أيضاً في مجال التمثيل، وهكذا. ولكنه كان إيجابياً في التعامل مع الفن والفنانين، وحثهم على تقديم الفن الملتزم بالقيم والأخلاق، مثلما رأينا في حواره مع الفنان أنور وجدي، وتذكيره بأن دوره ربما يكون أكثر تأثيراً في خدمة الإسلام والدعوة إلى الله تعالى، من دور الواعظ في المسجد أو العالم في الجامعة. صدمة الشاب المتدين وحكمة شيخ الأزهر ولعل القصة التالية تكشف إلى حد كبير، حقيقة فهم الإمام حسن البنا وإدراكه لخطورة دور وتأثير الفن عموماً، في إقناع الناس بما يريد أو صرفهم عما يرغب، فقد كنت أبحث في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي في مدى اهتمام حركة الإخوان بالفن، وخصوصاً فن المسرح، والتقيت بالشيخ عبدالرحمن شقيق حسن البنا (الشهير بالساعاتي)، وكان قد قارب الثمانين من عمره، وروى لي قصة شيقة ومثيرة. بينما كان يسير عبدالرحمن البنا في أحد شوارع وسط القاهرة، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، فوجئ بملصق على الحائط يعلن عن مسرحية جديدة تقدمها فرقة علي الكسار، عن القائد الفاتح عمرو ابن العاص رضي الله عنه، لم يصدق ما رأت عيناه وكأنه أصيب بصدمة، وتساءل في نفسه: كيف يجرؤ علي الكسار على ذلك؟ تخيل الشاب المتحمس أن الفنان علي الكسار سوف يؤدي دور البطولة في المسرحية باعتباره بطل الفرقة، فكيف يجرؤ على القيام بتمثيل دور الفاتح العظيم عمرو ابن العاص، وهو الممثل الكوميدي خفيف الظل، الذي يثير ضحك جماهير المسرح بطريقته الخاصة، فهل أصبح فاتح مصر العظيم مادة للضحك والسخرية؟! غلى الدم في عروق الشاب المتدين، وانطلق إلى مكتب فضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر في ذلك الوقت، وقد كانت بينهما صداقة، وروى له وهو غاضب قصة ما حدث، وطالبه بأن يتخذ موقفاً حاسماً، بحكم مسؤوليته الدينية، بأن يأمر بمنع عرض المسرحية، احتراماً للرموز والقيم والمقدسات الإسلامية، التي على وشك أن تمتهن على يد الفنان (المهرج) علي الكسار! كان شيخ الأزهر حصيفاً وذكياً وعملياً، فهدأ من ثورة الشاب الغاضب، وطلب منه أن يذهب بنفسه إلى مسرح علي الكسار، ويحضر عرض المسرحية الجديدة، ثم يكتب له تقريراً بما رأى من مخالفات شرعية، حتى يتخذ قراره المناسب بناء على الحقيقة، وليس على الظن. هدأ عبدالرحمن البنا قليلاً، واقتنع برأي الشيخ الأحمدي الظواهري، وذهب إلى المسرح وشاهد العرض كاملاً، وعاد بغير الرؤية التي ذهب بها.. لقد اكتشف أن بطل المسرحية، الذي قام بدور عمرو بن العاص رضي الله عنه، ليس هو علي الكسار صاحب الفرقة، وإنما أحد الممثلين غير المعروفين، وأن الكسار يؤدي دور خادم هذا الفاتح العظيم، وأن النص المسرحي مكتوب بشكل جيد إلى حد كبير. كان هذا درساً بليغاً من شيخ الأزهر للشاب المتحمس، مؤداه أن عليه أن يحكم بناء على المشاهدة والعلم والبينة، وليس على التخمين والظن والاحتمال، وما أن أبلغه بوقائع المسرحية وأدوار الممثلين فيها حتى ابتسم الشيخ الجليل، وكأنه يقول: «كنت أعلم بذلك، ولكني أحببت أن تجرب بنفسك، وأن تحكم بناء على العلم وحده». بين عبدالرحمن وحسن البنا نقل عبدالرحمن الصورة بكاملها إلى شقيقه حسن البنا، منذ أن رأى الإعلان عن المسرحية في أحد شوارع وسط القاهرة، إلى أن ذهب بنفسه لحضور عرضها على المسرح، وكيف تغير رأيه تماماً في الموضوع، ثم إدراكه أهمية هذا الميدان في الدعوة والتأطير، فقال له الأستاذ البنا: «يا عبدالرحمن، هذا ثغر من ثغور الإسلام، فاجتهد ألا يؤتى من قبلك». فوجئ الشاب المتحمس بهذا التكليف من أخيه الأكبر وقائده في الدعوة، وهو تكليف يعرف قيمته وأهميته، وبدأ بالفعل يستعد لدراسة ومعرفة فن التأليف المسرحي، وكتابة السيناريو، وتصميم المشاهد، وأدوار الممثلين، وشيئاً عن الإنتاج والإخراج والديكور والإضاءة، وكل ما يتصل بالعمل المسرحي. واختار عبدالرحمن قصة عربية شهيرة من قصص الحب والغرام، لتكون موضوعاً لأولى مسرحياته، وهي قصة «جميل بثينة»، حيث أنتجتها «لجنة تشجيع التمثيل»؛ التابعة لوزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن)، وأخرجتها على نفقتها الخاصة عام 1934م، يقول عبد الرحمن البنا:«لما وجدت فيها من معانٍ طيبة وقيم رفيعة»، ولاقت المسرحية نجاحاً لافتاً، وأصبحت موضع مقارنة مع درة أمير الشعراء مجنون ليلى. ورغم أن القصة الأساسية عاطفية، فإن الدافع الأساسي لاختيار هذه القصة كان الغيرة على الإسلام والعروبة! وجاءت رداً على مسرحية لفرقةً أوروبيةً عرضت على مسرح الأوبرا المصرية مسرحية تناولت ذكر النبي بما ينقص من قدرِه الشريف. وقد تساءل عبدالرحمن البنا في مقدمة المسرحية: «لماذا نستجدي من الغرب قصصَه وحوادثَه فنذكر روميو وجولييت ونحتفي بغادة الكاميليا، ولا نعود إلى شرقنا فنقتبس النور من إشراق سمائه ونعرف الحب من طهارة أبنائه؟! وهكذا بدأ اهتمام الإخوان عملياً بالمسرح بعد أقل من ست سنوات فقط من نشأة حركتهم. ثم يقول: «هذا جميل، وهذه بثينة، بطلا قصة حب شغلا عصرهما والأجيال بعدهما.. إنه يستنطق الصخر ويستبكي الحمام، وإنها تستصرخ العدالة وتطوع قلبها على الآلام...»، ثم يعود إلى القيمة الخُلُقية التي تحملها هذه القصة، وتفرد المجتمع العربي بقيمة الحب العذري، الذي لا يتنافى مع القيم الإسلامية، فيقول: «الجو فاتن لا يفتتنان.. والشباب جارف لا ينزلقان.. لأن لهما قلبين ثمنتهما العروبة وأنشأهما الإسلام..». ومن الممثلين الذين شاركوا في أداء أول مسرحية يكتبها المؤلف الجديد عبدالرحمن البنا: جورج أبيض وأحمد علام وعباس فارس وحسن البارودي وفتوح نشاطي ومحمود المليجي، ومن العناصر النسائية: عزيزة أمير وفاطمة رشدي (مع الضوابط الشرعية)، وهي بالطبع أسماء لا تزال لامعة في تاريخ الفن المسرحي والسينمائي المصري. إذن كانت رؤية عبدالرحمن البنا واضحة منذ البداية في أن التعرض للأعمال الفنية العاطفية ليس حراماً أو مرفوضاًًًً لذاته، ولكن الأمر يتوقف على المدخل المناسب للموضوع، النقطة الثانية أنه دخل إلى ميدان الاحتراف مباشرة، وقدم أولى مسرحياته إلى المختصين، وليس الهواة في هذا المجال، النقطة الثالثة أن العنصر النسائي كان موجوداً في أعماله منذ البداية، باعتباره جزءاً طبيعياً من المجتمع البشري، وجزءاً أصيلاً من حركة الحياة لا يجوز تجاهله أو استبعاده، ولكن يعمل وفق ضوابط شرعية وأخلاقية، ومن الطرائف التي رواها عبدالرحمن البنا في إحدى مقالاته أنه وجد حرجاً من ثياب الفنانة عزيزة أمير، حيث كانت ترتدي فستاناً بكُمٍّ طويل، لكنه واسع بدرجة تجعل ذراعيها تظهران أثناء الحركة، وحين لفت انتباهها لم تجد حرجاً في أن تربط الكم بخيط لتضيقه نزولاً على رغبة المؤلف! الغيرة على الإسلام ومن بين الأسباب التي ألهبت حماس البنا للتأليف المسرحي غيرته على دينه، فقد ذكر في أحد مقالاته أنه: «غار جداً حين قرأ في مجلة «الصباح» الأسبوعية، أن فرقة أوروبية عرضت عملاً فنياً على مسرح دار الأوبرا المصرية، تناولت فيه ذكر النبي محمد بما ينقص من قدره الشريف، فحاول كتابة مسرحية رداً على هذه الفرية، وإمعاناً في التحدي أراد لهذه المسرحية، أن تمثل على نفس خشبة هذا المسرح. تعامل عبدالرحمن البنا إذن مع الفن المسرحي بوصفه وسيلة شديدة الأهمية من وسائل الدعوة إلى الله، والدفاع عن القيم الأساسية للمجتمع العربي والإسلامي، مثلها مثل المسجد والمدرسة والجامعة، فاستعد لإجادته وإتقانه، وسعى في تأسيس «فرقة الإخوان المسلمين المسرحية»، ونجح في ذلك بالفعل في الثلاثينيات، وقامت الفرقة بتمثيل ثماني مسرحيات ألفها عبدالرحمن البنا منها: مسرحية «أبطال المنصورية»، وهي نثرية ركز فيها على حال الفاطميين في المغرب، ومدى قوتهم وتطلعهم إلى دخول مصر، والمنصورية هي إحدى مدن تونس. ثم مسرحية «المعز لدين الله الفاطمي»، وهي تاريخية من فصل واحد، تتحدث عن دخول المعز لدين الله مصر، ثم مسرحية «بنت الإخشيد» التي انتهى من كتابتها في عام 1939م. بمناسبة مرور ألف عام هجري على إنشاء القاهرة وبناء الجامع الأزهر، وهي مسرحية نثرية من ثلاثة فصول، وقد ملأها المؤلف بالحديث عن القيم الإسلامية، وحذر من استغلال الخلافات المذهبية في إضعاف شوكة الأمة وتفريق كلمتها. وكتب عبدالرحمن البنا مسرحية «غزوة بدر»، ثم مسرحية «الهجرة»، التي تم عرضها على مسرح الأزبكية في نوفمبر 1947م، ونقلتها الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة لأول مرة، وهو ما أدى إلى توافد منتجي السينما على الفرقة للاتفاق على إخراجها سينمائياً، وفي مايو 1948م عرضت دار الأوبرا مسرحية «صلاح الدين الأيوبي»، وبثتها الإذاعة المصرية، ولأن ذلك كان في أثناء حرب فلسطين عام 1948م. والإعلان عن قيام الكيان الصهيوني الغاصب، غير أن بعض الدول الأجنبية ضغطت على الحكومة المصرية لإيقاف بث المسرحية على الهواء، ونجحت بالفعل في ذلك. مرحلة مزدهرة في تاريخ الإخوان المسرحي يمكن القول: إن مسرحية «صلاح الدين الأيوبي» ساهمت بقوة في لفت أنظار المصريين إلى ما يجري على أرض فلسطين على يد الصهاينة؛ من إرهاب وقتل وعدوان. قال المؤلف في مقدمة المسرحية: «أهدي هذا العمل إلى شهداء فلسطين الأبرار، وإلى أبطال الجهاد المقدس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض، وإلى المهاجرين والمشردين من إخوان العقيدة والإسلام أهل فلسطين المجاهدة، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.. إليكم أهدي هذه المسرحية، التي أعدت لتعمل عملها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات، لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف». والطريف أن الإعلان عن المسرحية أشار إلى أن ثلاثة من أعضاء «فرقة الإخوان المسلمين المسرحية» اعتذروا عن المشاركة في العمل، لوجودهم في ميدان القتال في فلسطين، وهم: إبراهيم الشامي، وفطين عبدالحميد، وإبراهيم القرش. عرض في دار الأوبرا ويروي الأستاذ عبدالرحمن البنا أنه عندما أراد عرض مسرحية «صلاح الدين الأيوبي» على مسرح دار الأوبرا، وقد كان أهم مسرح مصري وقتها، اكتشف أن دار الأوبرا بدأت إجازتها السنوية! ومعنى ذلك أنه سوف يتم تأجيل عرض المسرحية عدة أشهر، لحين عودة العمال والموظفين من الإجازة، لكنه تحدث مع صديقه مدير الأوبرا وقتها، وكان هو الأستاذ شكري راغب (وهو مسيحي)، الذي وافق على استدعاء كافة العاملين والموظفين وقطع الإجازة، لتسهيل تقديم العرض المسرحي، وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها فتح دار الأوبرا في غير مواعيد العمل الرسمية. وفي مقابل هذا السلوك الكريم من مدير الأوبرا، تنازل البنا عن أجره كاملاً في المسرحية، لصالح العاملين في الأوبرا، لكن المسرحية لم يستمر عرضها طويلاً بسبب الضغوط السياسية. كانت تلك مرحلة مزدهرة في تاريخ مسرح الإخوان المسلمين، امتدت لأربعة عشر عاماً، ولم يقتصر النشاط على القاهرة، بل امتد إلى شُعب الجماعة في المحافظات، وحين تأسست «الفرقة القومية المصرية» عام 1935م. بقيادة خليل مطران، أوفدت البعثة الأولى من الطلاب إلى أوروبا لدراسة الفن هناك، وقد تكونت من عدد ممن عملوا في مسرحيات عبد الرحمن البنا مثل: فتوح نشاطي، ومحمد متولي، وسراج منير، وحسن حلمي، ومحمد السبع. وكان عبدالرحمن البنا حريصاً على تنمية قدرات فرقته، فوجه شباب الفريق الذين أتموا دراستهم الثانوية، إلى دراسة الفن المسرحي بمعهد التمثيل العالي، ومنهم: محمد السبع، وعبدالبديع العربي، وإبراهيم الشامي. واتخذ عبد الرحمن البنا لنفسه أسلوباً في الكتابة المسرحية، يعتمد على اللغة العربية الفصحى، ولم يكتب بالعامية المصرية، وقد كانت هناك في تلك الفترة دعوات لإحلال العامية محل العربية، بل والدعوة إلى هجر الحرف العربي والكتابة بالحرف اللاتيني، وقاد هذه الدعوة سلامة موسى، ولويس عوض، وغيرهما، وبالتالي لم يكن أمامه إلا التأكيد على الالتزام بالفصحى، تنفيذاً للمبدأ الذي دعا إليه حسن البنا: «اجتهد أن تتكلم العربية الفصحى، فإن ذلك من شعائر الإسلام». مرحلة الصدام لم تستمر أنشطة الإخوان المسلمين المسرحية طويلاً، بسبب دخول الجماعة في مرحلة الصدام والأزمات قبل أن ينتهي عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وسرعان ما تم حل الجماعة في عهد رئيس الوزراء «محمود فهمي النقراشي» في 8 ديسمبر عام 1948م. والذي تعرض للاغتيال في 25 من نفس الشهر، وبعد شهر ونصف الشهر تم اغتيال الإمام حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، في 12 فبراير عام 1949م، لتدخل جماعة الإخوان بعدها، ولفترة طويلة في مرحلة المحن والاضطهاد والاعتقالات المستمرة. ظهور أديب كبير وفي فترة الخمسينيات والستينيات، ظهر واحد من كبار الأدباء والروائيين الإسلاميين، وهو د. نجيب الكيلاني، أحد رجالات الإخوان، الذي قدم أولى رواياته «الطريق الطويل» في عام 1956م، ونالت جائزة وزارة التربية والتعليم في عام 1957م، وقررت الوزارة تدريسها لطلاب المرحلة الثانوية في عام 1959م، ثم نشر العديد من رواياته بعد ذلك، ومنها: «اليوم الموعود»، «في الظلام»، «قاتل حمزة»، «نور الله»، «ليل وقضبان»، «مواكب الأحرار»، «عمر يظهر في القدس»، «رحلة إلى الله»، إضافة إلى 16 قصة أخرى. ولقد ظهرت روايات الأديب الكبير نجيب الكيلاني في فترات المحن التي عاش فيها الإخوان في الستينيات والسبعينيات، فلم تلقَ الاهتمام الكافي من النقاد والأدباء والفنانين، كما لم تجد من يسعى إلى الاستفادة منها، سواء في المسرح أو السينما أو في التلفزيون، لكنها الآن متاحة لمن شاء أن يبدأ مشواراً جاداً، لإحياء فن المسرح الإسلامي، وفن السينما الملتزمة من جديد. كانت فترات المحن كابوساً مظلماً أثر على الفن الملتزم، ولو تخيلنا استمرار نمو المسرح الإسلامي بأشكاله وتياراته المتعددة، ونضجه وتطوره وتمدده إلى كامل ربوع مصر، بل وانطلاقه إلى كافة أقطار الوطن العربي والإسلامي، نعتقد أن الصورة كانت ستكون مختلفة عما هي عليه الآن، وأن التدهور القيمي والأخلاقي الذي نلمسه في بعض الأعمال الفنية، كان سيبقى محاصراً بدرجة كبيرة، ولا تتسع الساحة الفنية والأدبية بشكل عام إلى هذا الغث الذي يسيطر عليها حاليا. ومع بداية التسعينيات من القرن الماضي، بدأت تظهر بعض الفرق المسرحية من شباب الهواة، التي استفادت من نشاط وتواجد الإخوان في عدد من النقابات المهنية، ومنها النقابة العامة للمهندسين ونقابة الأطباء، وقدمت عدة مسرحيات ناجحة، منها: «شقلبة» التي جذبت جمهوراً كبيراً من شباب التيار الإسلامي وقتها، وبنفس القوة جاءت مسرحية «اصحوا يا بشر»، ثم تلتها مسرحية «فيتنام 2»، وغيرها. كان هناك تجاوب واضح من جمهور التيار الإسلامي، الذي بدأت أعداده تتزايد بكثرة، وتظهر في المجتمع المصري منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، مع هذا النوع الجاد والراقي من الفن المسرحي، الذي يحترم عقلية وقيم المشاهد، ويقدم له في الوقت نفسه الفن الجميل والهادف، الذي يخلو من الكلمات المسفة، والحركات الخادشة للحياء، والنكات البذيئة، ويقدم في الوقت ذاته فكراً ورؤية في إطار فني جميل ومشوق. البديل الفني الإسلامي كان الإسلاميون بحاجة إلى «البديل الفني الإسلامي»، الذي يمنح مشاهديه المتعة الفنية (السمعية والبصرية والذوقية)، والترفيه الراقي، ووضوح الرؤية السياسية والاجتماعية والإنسانية، لتعويض ما يرفضونه من ابتذال وسقوط أخلاقي وسلوكي وقيمي في بعض وسائل الإعلام والمسارح ودور السينما، ولقيت هذه الأعمال الفنية، على الرغم من بساطة إمكاناتها وضعف الإنفاق عليها، نجاحاً كبيراً وإقبالاً جيداً. لكن سيطرة أجهزة أمن الدولة، والعقلية البوليسية التي كانت تدير الوطن في العهد البائد، على كل منافذ العمل العام، ومنها بالطبع النقابات المهنية، أعاق كثيراًً من نمو وتطور وانتشار الحركة الفنية المسرحية لفناني التيار الإسلامي، على الرغم من ظهور مواهب متميزة وكفاءات واعدة في مجال الكتابة المسرحية، وفنون: التمثيل، والديكور، والملابس، والإضاءة، والخدع، والمؤثرات الموسيقية، والإخراج. غير أن الأجواء الآن تغيرت إلى الأفضل، والفرصة أصبحت متاحة بعد ثورة يناير، للانطلاق مجدداً في مجال إحياء فن المسرح الإسلامي الهادف، وتجديد هذا التراث العريق، وبناء مسرح اجتماعي وسياسي وترفيهي جاد، وإعداد كوادر وكفاءات فنية مدربة ومتخصصة، سواء في مجالات التأليف أو الإخراج أو الإنتاج أو التمثيل أو الديكور، وغيره من فنون المسرح. وهي دعوة نتمنى أن تجد صداها الإيجابي لدى المهتمين بمجال الفن الهادف عموماً، وأن نجد من بين شباب الإسلاميين من يسعى بجد، عن وعي والتزام ورؤية وموهبة فنية، للالتحاق بمعاهد وأكاديميات فنون: التمثيل والإخراج والتصوير والنقد المسرحي والسينمائي وغيرها، ونتمنى أيضاً أن تنشأ عشرات الفرق المسرحية الجادة، سواء المحلية أو المركزية، لتسد هذا الفراغ الفني الذي نحتاجه، وتشارك في تنمية الوعي العام، وتحقيق المتعة الفنية في الوقت نفسه. إن المؤمنين بالرؤية الإسلامية للفن قد تأخروا كثيراً في إعداد وتكوين ودعم الفنان المسلم الملتزم، الذي يقدم النموذج الصحيح لرؤية الإسلاميين للفن ودوره في بناء المجتمع. نحن إذن بحاجة ماسة إلى أن يفهم الفنان المسلم القيم العليا التي نادى بها الإسلام العظيم، وكيف يمكن للفن أن يكون في خدمة هذه القيم العليا، مثلما أننا بحاجة أيضاً إلى أن يفهم الدعاة والوعاظ وأبناء التيار الإسلامي، الدور المهم والخطير والمؤثر، الذي يقوم به العاملون في المجال الفني، في تغيير الأفكار والثقافات والاتجاهات، وكيفية إقامة جسر واسع من المحبة والثقة والتكامل بين الطرفين.