إن أي نهوض تاريخي لأية أمة، يستوجب توفير خمس أدوات للإنتاج الحضاري هي: الوطن والأمة والحكومة واللسان والرسالة ( المشروع الثقافي للنهضة). وغيابها أو تفككها في الزمان، يعني تفكك الحضارة وسقوط الأمة والعكس صحيح. فنظرة في تاريخ مصر وبلاد الرافضين والهند والصين وفي العصرين المقدوني والروماني وفي عصر الخلافة الإسلامية الزاهر، تؤكد تلازماً بين ميلاد الحضارة وميلاد أدوات الإنتاج الحضاري الخمس الكبرى. وإليك مثاليْن عن هذا التلازم: مثال عن تكوُّر الحضارة وانحطاطها في العصر الوسيط المسيحي، ومثال عن تطور الحضارة وارتقائها في العصر الوسيط الإسلامي. كانت أوروبا قبل العصر الوسيط قائدة للحضارة في العالم القديم. منذ عهد إسكندر المقدوني في أثينا إلى عهد القيصر الروماني في روما. لكنها ستدخل عصر الانحطاط الحضاري مع بداية العصر الوسيط في القرن الخامس للميلاد. قرن غزوات فرسان القبائل البربرية لأوروبا. وقرن اكتمال انتشار الديانة المسيحية في ربوع القارة الأوربية، وأدى تحالف الرهبان والفرسان إلى ميلاد ما يعرف بالنظام الإقطاعي في القارة. فكانت حصيلته العملية تقطيع الوطن الواحد إلى عشرات الإقطاعات المنفصل بعضها عن بعض، وتقسيم الشعب الواحد إلى عشرات المجوعات السكانية المنفصل بعضها عن بعض، تخضع كل واحدة لسلطة النبيل أو السيد الإقطاعي سواء كان من الفرسان أو الرهبان. وحصيلتها سقوط السلطة الحكومية للإمبراطورية الرومانية، ولم يعد اللسان اللاتيني لسان الحضارة بعد هذا السقوط. لقد تفككت أدوات الإنتاج الحضاري القديمة. تفكك الوطن والأمة والدولة واللسان، ولم يكن للمسيحية رسالة للنهضة. فهي عقيدة بدون شريعة. فكانت الحصيلة تكوّر حضاري في أوروبا دام لبداية العصر الحديث، عصر الحداثة الغربية. في العصر نفسه، كان الإسلام في الشرق يبني تجربة تاريخية تسير في الاتجاه المعاكس لتجربة المسيحية في الغرب، قبل ظهور الإسلام، عكس أوروبا، كانت الجزيرة العربية باستثناء نواة اللسان العربي، بلا وطن موحد، بل أقاليم مشتتة، ولا أمة، بل قبائل متناحرة، ولا دولة أو حكومة مركزية، بل كانت احتلالا فارسيا ورومانيا وحبشيا، ولا رسالة لنهضة الجزيرة. في أقل من ربع قرن من زمان النبوة تشكلت بالتمام النواة الصلبة لأدوات الإنتاج الحضاري الإسلامية. ففي العصر المكي وُلِدت أداتان للإنتاج هما ،اللسان العربي لسان العبادة والحضارة والإسلام باعتباره رسالة النهضة. وفي العصر المدني وُلِدت باقي أدوات الإنتاج الحضاري دفعة واحدة وهي الوطن والأمة والدولة أو السلطة الحكومية. هذه النواة ستتعمق وتتوسع في عصر ما بعد النبوة. فأصبح الوطن هو دار الإسلام العابر للأقاليم من حدود الصين إلى حدود الأندلس، وأصبحت الأمة عابرة للأقوام والشعوب من حدود الصين إلى حدود الأندلس، تتنقل فيه رؤوس الأموال والرجال والأفكار بلا تأشيرة مرور. واكتمل بنيان الدولة الإسلامية ذات الوحدة الدستورية. فرغم تعدد الكيانات السياسية لأكثر من خلافة واحدة، ومن مملكة وإمارة وإمبراطورية وسلطنة في العالم الإسلامي، فكل الحكام كانوا ملتزمين في إدارة شؤون الناس بمرجعية دستورية مكتوبة وهي الشريعة الإسلامية، باستثناء الكيانات الشيعية الفاطمية والصفوية ذات المرجعية المنحرفة. وأصبح اللسان العربي لسان الإنتاج الحضاري بلا منازع، إضافة إلى كونه لسان العبادة بلا منازع. فكانت لنا -نحن المسلمين- القيادة الحضارية لثمانية قرون من الزمان بلا منازع. لكننا مع الأسف والألم الشديديْن أعدنا اليوم كأمة إنتاج العصر الوسيط المسيحي فينا.عصرالتكوّر والانحطاط الحضاري.بسبب تفكك أدوات إنتاجنا الحضاري العملاقة. تفكك لسببين:جُوَّاني عنوانه الفساد والاستبداد الذي مارسه حكامنا الطغاة منذ قرون. وبَرَّاني، عدوان الغزاة المدمر من الغرب، فكانت النتيجة منذ أكثر من قرن من الزمان تفكك الوطن الإسلامي إلى أكثر من 56 إقليم، مغلقة الحدود فيما بينها، وزرع الكيان الصهيوني كجسم غريب في البوابة الشرقية للوطن العربي.غايته الحيلولة دون وحدة الجناحين. وتحولت الأمة إلى أشتات من الشعوب والأقوام والقبائل المتناحرة، وسقطت الدولة الإسلامية بسقوط الخلافة والشريعة دستور الأمة، ولم يعد اللسان العربي في وطننا العربي لسان الحضارة والإنتاج الحضاري، ولم يتبق لنا سوى الرسالة أي الإسلام. والغزاة مثابرون اليوم على إسقاط الرسالة وتفكيك المفكك، كما نشهد في السودان والعراق وغيره من مشاريع التقسيم في دار الإسلام القديمة. وكانت الحصيلة سقوط حضاري مدوي للمسلمين في العصر الحديث. ونهضتنا اليوم تفرض بالضرورة إعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري الإسلامي من جديد. أدوات إنتاج تستجيب بالضرورة لعصر ما بعد الحداثة المبني عالمياً على التديُّن والتكتل والديمقراطية. لا بد من رفع شعار ((السلطة للأمة والسيادة للشريعة)). فالسيادة للشريعة تعني بعث الوحدة الدستورية للأمة رغم تعدد الكيانات السياسية في العالم الإسلامي والعربي اليوم، أي إعادة الاعتبار عملياً لمبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، وهو أمر التزمت به تاريخياً، قبل إسقاط الشريعة في عصرنا هذا، الحكومات الإسلامية قديماً رغم تعدد كياناتها واستبداد بعض حكامها.والسلطة للأمة تعني الوعي قولاً واحداً وفعلاً واحداً بأن شعوبنا هي مصدر كل السلطات. سواء في تنصيب الحكام أو اختيار مشاريع النهضة والتنمية في أوطاننا.