كما أن الغرب مصاب بمرض الخوف من الإسلام و المسلمين، أو(الإسلاموفوبيا). فكذلك نحن المسلمون مصابون بالخوف المرضي من الغرب و حضارة الغرب أو(الغربوفوبيا).يبقى فقط أن الإسلاموفوبيا ليست له مبررات حقيقية، في حين أن الغربوفوبيا له مبررات حقيقية. فالغرب هو صانع المرضين معاً.لكن مع ذلك فالمسلمون مطالبون بعلاج أنفسهم من هذا المرض و الشفاء منه، لكونه ضار بنهضة أمتهم، و ضار بالحوار المثمر بين حضارة الغرب و حضارة المسلمين.فما هي أسباب هذا الخوف من الغرب؟ إنه التآمر الغربي. و محطات هذا التآمر ثلاث على الأقل. المحطة الأولى: موجات الحروب الصليبية المتتالية على قلب العالم الإسلامي في العصر الوسيط . فالمسلمون لم ينسوا بعد سيول دم المسلم في أزقة و شوارع القدس عند احتلالها في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي. دماء عشرات الآلاف من الرجال و النساء و الأطفال سفكت بسيف صليبي. المحطة الثانية: تدمير أركان هامة من بنياننا الحضاري إبان الغزوة الاستعمارية الأولى في العصر الحديث.لقد خسر المسلمون معها أربعة أخماس أدوات الإنتاج الحضاري على الأقل.و هي الوطن و الأمة و الدولة و اللسان. كنا وطناً إسلامياً ممتداً من قلب أفريقيا إلى قلب آسيا يسمى بدار الإسلام،لا حدود فيما بين أقاليمه، أو حواجز جمركية تمنع مرور الرجال والأموال و الأفكار. وكنا أيضاً أمة واحدة في هذا الوطن العظيم. لا فرق بين عربي و أمازيغي أو فارسي أو اندونيسي إلى بالتقوى.و كانت لنا كيانات سياسية متعددة لكن دستورها واحد هو الشريعة الإسلامية كمرجعية عليا لإدارة شأن الأمة من المحيط إلى المحيط. لكن الغرب العلماني في غزوته الأولى للمسلمين فكك دار الإسلام إلى 57 إقليم جديد، و فكك الأمة الإسلامية إلى 57 من الشعوب و الأقوام و القبائل، و اسقطوا دولة الخلافة سنة 1924 ميلادية. و أزالوا الشريعة كدستور للدولة و الأمة في بلاد المسلمين. وأبعدوا نصف النخبة المثقفة على رسالة الإسلام. و فككوا المجتمع الأهلي الإسلامي الزاهر في العصر الوسيط. فلم يعد لمؤسسة الحسبة أي دور أو فعل، و نفس الشيئ يقال على مؤسسة الفتوى و مؤسسة القضاء الإسلامي العظيمة و غيرها من مؤسسات المجتمع المدني الإسلامي.و تعرض اللسان العربي في قلب دار الإسلام لهجوم عنيف، فاستبدل بألسن غربية في ممارسة الوظائف العليا للسان في الإدارة و الاقتصاد و التعليم و البحث العلمي و جزئياً الإعلام. لقد خسر المسلمون جل رأسمالهم. إنها أكبر خسارة تاريخية و إنسانية للبشرية. وهذا لاشك سيحدث في نفوس المسلمين غضباً و عداءاً لمن دمر كيانهم. فالمسلمون يعتبرون ما جرى عدوان عظيم و إهانة عميقة لكرامة أمتهم.إن ميلاد إخوان المسلمين سنة1928 جاء مباشرة بعد كارثة سقوط الخلافة العثمانية سنة .1924 وانا لا أعتبر ذلك من باب الصدفة، بل تعبير عن رد فعل اتجاه ما حدث لنا من طرف الاستعمار الغربي. بل و ليس صدفة ايضاً أن تخرج من رحم الإخوان في الستينات الجماعة الإسلامية أو جماعة الهجرة و التكفير الإرهابية. بل هي أيضاً رد فعل غير راشد على التطرف العلماني الذي مارسه النظام المصري العلماني في عصر الناصرية و طغيان الفكر القومي دو التوجه العلماني المتطرف.لقد ولد الإرهاب في البداية من رحم مصر العلمانية و ليس من رحم السعودية الوهابية كما يروجون. المحطة الثالثة محاولة الغرب الغازي اليوم الإجهازعلى ما تبقى من مقومات الهوية الحضارية عند المسلمين. في كتابه (1999 نصر بلا حرب)قال نيكسون(( يجب على روسيا و أمريكا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية)).غزوة تريد اليوم تفكيك المفكك و تجزيء المجزأ، و تجهز على ما تبقى من أركان الهوية الإسلامية، و ما تبقى من أدوات إنتاجها الحضاري الخمس و هي الرسالة. أي دين الإسلام.بعد أن أجهزت على الدولة و الأمة و الوطن و اللسان. فبعد أن نجح الغزو في إبعاد الإسلام كشريعة من قلب الدولة و أجهزتها في الغزوة الأولى يريد الغزاة اليوم إبعاد الإسلام كعقيدة من قلب و عقل المسلم. والعملية تجري اليوم تحت شعار مزيد من العلمنة للمقررات التربوية في بلاد المسلمين و مزيد من العلمنة للحقل الثقافي و للمنظومة الحقوقية والقانونية المؤطرة للمجتمع المسلم، و مزيد من الحريات الفردية المتسيبة في ممارسة الشهوات التي تبغي نشر ثقافة الإباحية و الميوعة وسط الشباب و النساء.فالغرب الغازي اليوم لبلاد المسلمين يريد تحقيق هدفين كبيرين: الأول تعميم القيم الثقافية الغربية باعتبارها في زعمهم قيماً كونية، وما هي بالكونية في الواقع إلا في مساحة محددة. و الأمر الثاني تهجير صناعة القرار السياسي من الدولة القطرية إلى مؤسسات أجنبية أهمها صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و منظمة التجارة العالمية و الشركات العابرة للقارات و مجلس الأمن الدولي. إنها غزوة جماعية ضد بلادنا بامتياز. لكن ما السر في ممارسة الغرب للعنف على المسلمين المتعارض تماماً مع الحوار؟ و الذي تسبب في زرع الخوف من الغرب في قلوب المسلمين؟ هذا الخوف الذي لا يميز بين غرب عدواني و غرب إنساني؟ فسُدَّ بذلك باب الحوار الحضاري؟ في نظري أن السر كامن في المرجعية الثقافية و الفلسفية التي ينهل منه العقل السياسي الغربي القائد للحضارة اليوم، مرجعية قائمة على مبادئ صدامية وعدوانية، أهمها: مبدأ مكيافيل و الذي شعاره أن السياسة لا تخضع للأخلاق و أن الغاية تبرر الوسيلة حتى و إن كانت الوسيلة مرذولة . ومبدأ داروين و الذي شعاره البقاء للأقوى و الأصلح، و مبدأ ماركس الذي شعاره أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي. و مبدأ فرويد و نيتشه و الذي شعاره أن الغريزة أو الشهوة الجسدية هي محرك التاريخ.فهذه الأسس الصدامية للعقل الغربي تحولت إلى عدوان على البيئة الطبيعية و الحضارية. كان أهم ضحاياها المسلمين وحضارة المسلمين حتى اليوم.إنه السبب العميق في أزمة الحوار الحضاري بيننا و بين الغرب، و استمرار تفشي مرضيْ الإسلاموفوبيا و الغربوفوبيا.