الدريوش: قطاع الصيد سجل استثمارات فاقت 930 مليون درهم وخلق 126 ألف منصب شغل    حضور مغربي قوي في جوائز الكاف للسيدات    الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



امحمد الطلابي يكتب عن التعريب بين الوعي المُفَوَّت و الوعي المطابق
نشر في التجديد يوم 04 - 11 - 2010

كل نهوض حضاري حق، لأي أمة كانت، يستوجب توفر خمس أدوات كبرى للإنتاج الحضاري وهي: الرسالة والوطن والأمة و الدولة واللسان.
أقصد بالرسالة المشروع الثقافي للنهضة، والوطن الإقليم الجغرافي للأمة، والأمة أو الشعب ساكنة الإقليم الجغرافي، وأقصد بالدولة السلطة المركزية المنظمة للعلاقات بين الأمة والوطن وبين الأطراف المكونة للأمة. أما اللسان فهو الأداة اللغوية للتواصل بين أطراف الأمة الواحدة. واللسان أو المسألة اللغوية بالمغرب هي موضوع حديث بصمة هذا العدد من مجلة الفرقان.
لقد عقدت بالمغرب عدة ندوات وطنية و دولية حول المسألة اللغوية، وحول اللغة العربية وباقي مكونات الخريطة اللغوية بالمغرب. وجل تلك الندوات يشكك في إمكانية اللسان العربي أن يكون لسان حضارة وتنمية إلى جانب كونه لسان عبادة ببلادنا. فتنادت فئة من المثقفين المغاربة، قليلة العدد بالتأكيد، إلى ضرورة إبقاء الوظائف العليا للسان بالمغرب في حوزة اللسان الفرنسي أو استبدال اللسان العربي الفصيح باللهجات المحلية أو ما يسمى بالدارجة المغربية. والسؤال المركزي هو هل هذا الوعي اللغوي عند هذه الثلة من المغاربة هو وعي مطابق راشد أم هو وعي مفوَّت مختل؟ هل هو وعي تقدمي بالمعنى التاريخي الصحيح للكلمة، أم وعي شقي ورجعي بالمعنى التاريخي الصحيح للكلمة؟ وهل ظاهرة تطور اللغات في التاريخ والتاريخ الحديث الأوروبي بصفة خاصة قانون عام لتطور لغات كل الحضارات والأمم أم هو ظاهرة خاصة بتطور اللغات الأوروبية فقط؟ وهل ميلاد الأمة والقومية هو الأصل في ميلاد اللسان المعياري الجامع في تاريخ المجتمعات قديماً وحديثاً؟
وهل يمكن لشعوبنا العربية أن تنهض بدون لسان قومها؟ وماذا عن طبيعة اللسان القائد للحضارة في عصر العولمة الذي هو عصر التكتلات الكبرى؟ أليست الدعوة لاستبدال اللسان العربي باللهجات المحلية دعوة للتجزئة و تفتيت المفتت؟ أليست دعوة خارج العصر وخارج الوعي التاريخي الرشيد؟ وماذا عن التصاق بعض الفرانكفونيين بجلد اللسان الفرنسي كلسان قائد للتنمية ببلادنا؟ وماذا قدم لنا هذا اللسان من تنمية وثورة علمية وتكنولوجية ملموسة وهو يهيمن على الوظائف العليا للسان ببلاد المغرب منذ قرن من الزمن؟
ما قانون تطور اللغات؟
إن قانون تطور اللغات في تاريخ الحضارات بالأمس واليوم وغداً ليس على خط واحد بالتأكيد، ففيه الكثير من المشترك، وفيه الكثير من الاختلاف، باختلاف تجارب الأمم واختلاف الحضارات. لقد كانت اللغات الأوروبية، كالفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها، في بداية العصر الحديث لهجات محلية في بلدانها لغات دارجة. لكن في هذا العصر بالضبط ولدت أدوات الإنتاج الحضاري الغربي وهي الدولة أو السلطة المركزية والأمة أو الشعب والوطن أو الإقليم الجغرافي الموحد ورسالة النهضة و هي الثورة الإنسية والثورة الفكرية اللبيرالية، واللسان أو اللغة المعيارية باعتبارها أداة للنهضة والتنمية. إذن فميلاد اللغات الغربية الحديثة الحاضنة للعلم والتكنولوجية منذ زمان ليس عملية معزولة عن ميلاد وازدهار أدوات الإنتاج الحضاري الأخرى: الدولة والأمة والوطن والرسالة. فميلاد اللغات الغربية كألسن معيارية هو تعبير عن تجاوز شعوب أوروبا للعصر الإقطاعي الذي تفككت فيه الأوطان والشعوب إلى إقطاعيات متناثرة وتجزئة قاتلة تسببت في تكور حضاري في أوروبا منذ القرن الخامس الميلادي إلى عصر الثروة الفكرية والسياسية والصناعية في العصر الحديث. فوحدة الوطن والشعب والوحدة السياسية بدل التجزئة الإقطاعية فرضت وحدة اللسان واللغة، وبالتالي ضرورة تحول اللغة الدارجة الأقوى إلى لسان وطني مقعَّد للجميع لسان معياري لازم للنهضة والثورة الرأسمالية الكبرى عند شعوب الغرب في العصر الحديث.
إن وعي الأوروبيين في العصر الحديث بضرورة الخروج من عصر التكور الحضاري، الذي دام قرون مظلمة، إلى عصر التطور والأنوار فرض عليهم بناء أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة: الدولة والأمة والوطن والرسالة الحاملة للنهضة واللسان الموحد والحامل للنهضة والتنمية. ومن هنا كان ضروريا تحويل لهجة دارجة إلى لسان مقعّد ولغة معيارية لكل أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة والسلطة المركزية الواحدة ورسالة النهضة الواحدة. وهو ما شهدناه مع اللسان الفرنسي والألماني والإيطالي والانجليزي وغيره. وهو أمر معقول بمنظور الرؤية التاريخية الارتقائية أو التقدمية بمفهومها التاريخي و ليس بالمفهوم السياسي الدارج اليوم.
هذا القانون التاريخي في تطور الظاهرة اللغوية في الغرب الحديث هو نفسه القانون الذي حكم تطور الظاهرة اللغوية العربية في عصر النبوة و ما قبله و ما بعده في عصر الازدهار الإسلامي الكبير في العصر الوسيط. فاللسان العربي وما أنتجته كلماته ومفاهيمه من تراث عملاق في التاريخ يعطيه الحق في لقب ( اللسان العملاق). لكن السر في قوته كلسان قائد للحضارة في العصر الوسيط، إضافة إلى كونه لسان عبادة، هو السر نفسه في قوة الألسن الأوروبية اليوم في الإنتاج الحضاري وعلى رأسها اللسان الإنجليزي.
قوة اللغة العربية
لقد ولدت قوة اللغة العربية مع ميلاد أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة في التاريخ الإسلامي كما هو شان ميلاد اللغات الأوروبية الحديثة كما أسلفنا الذكر. فاللغة العربية الكلاسيكية والعصرية هي في الأصل إحدى اللهجات العربية للجزيرة العربية في القرون الخمسة الأولى للميلاد؛ هي دارجة قريش بالضبط. لقد كان المجتمع العربي قبيل الإسلام يعيش تكوراً حضارياً كما عاشته أوروبا في العصر الوسيط، وكان العرب قبل الإسلام مجتمعاً يفتقد لكل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة الخمس: فلم يكونوا أمة موحدة بل كانوا قبائل مفككة، ولم يكن لهم وطن موحد، إذ كانوا موزعين بين القبائل وبين الخضوع للاحتلال الروماني أو الفارسي أو الحبشي. ولم تكن لهم سلطة مركزية جامعة لأطراف الجزيرة العربية موطن العرب والعربية الأصلي. ولم تكن لهم رسالة أو مشروع ثقافي لنهضتهم، ولم تكن اللغة العربية القرشية إلا في بداية تحولها إلى لسان مقعّد يقود باقي اللهجات والدارجات في الجزيرة العربية. لكن مع هجرة الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) للمدينة المنورة ولدت كل أدوات الإنتاج الحضاري العملاقة: فإلى جانب الإسلام كرسالة للنهضة المنزل وحيا على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولدت بعد الهجرة الأمة؛ المسلمون واليهود وغيرهم.. كما جاء في دستور الصحيفة المكتوبة في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والوطن أي الإقليم الجغرافي للمدينة وما يحيط بها، وميلاد السلطة المركزية لهذه الأمة وهذا الوطن، فلم يعد محمد (صلى الله عليه وسلم) نبياً ورسولاً فقط، بل وحاكماً سياسياً للأمة الجديدة.فتوفرت كل الشروط لارتقاء حضاري عظيم للعرب والمسلمين في دار الإسلام الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى حدود فرنساً غرباً. قاد فيها المسلمون الحضارة لأكثر من ثمانية قرون. وقاد فيها اللسان العربي المبين الإنتاج والتواصل الحضاري المادي والمعنوي لقرون، إلى جانب كونه كان وما زال لسان عبادة أيضاً. والخلاصة أن الازدهار العظيم للسان واللغة العربية(إنجليزية للعصر الوسيط)، وازدهار اللغة الإنجليزية الغربية للعصر الحديث لم يكن لتطور ذاتي داخلي فقط، في بنية اللغة و قاموسها و مفاهيمها و أسلوبها وحرفها، بل سر الازدهار اللغوي في اللسانين هو الوجود لأربعة إخوة أشقاء يرعون أختهم اللغة ويسعون لازدهارها هم: الدولة والأمة والوطن والرسالة. لذا فمن يبحث جاداً على لسان يساعد على التنمية الشاملة ببلاد المغرب فعليه أيضاً البحث عن الإخوة الأربعة لهذه اللغة أو اللسان القائد للتنمية والنهضة.
هل الفرنسية و الدارجة المغربية بديل وحل للتنمية بالمغرب ؟
في ندوة بشهر يونيه المنصرم بكلية الطب بالبيضاء أجمع جل المتدخلين على أن اللغة العربية لسان كلاسيكي ولغة ميتة؟ وغير قادرة على مسايرة العصر؟ و أن البديل هو استبدالها بالدارجة المغربية؟؟ وأية دارجة فاللهجات متعددة؟ لا ندري.وهل اللغة العربية مسؤولة عن تخلفنا العلمي والتكنولوجي؟ أم أن سيطرة اللسان الفرنسي ببلاد الغرب الإسلامي عامل هام في تخلفنا العلمي والتكنولوجي؟ أم أن الدعوة لاستبدال اللغة العربية باللهجات المغربية الدارجة غايته المركزية ضمان استمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالبلاد؟ أتذكر في هذا المقام و المقال تجربتي كعضو في اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم التي تأسست تحت قبة البرلمان سنة 1995 .و أتذكر كوني كنت عضواً في لجنة صياغة المبادئ العشر ومنها مبدأ التعريب.وأتذكر ما قاله بنعمور في دفاعه عن اللغة الفرنسية ضداً على التعريب.وأذكر سؤالي له هل سيطرة الفرنسية على الوظائف العليا للسان بالمغرب أنتجت علماً و تكنولوجية و تنمية حقيقية بالمغرب ؟ فبُهِت.
إن دعوتنا للتعريب لا تعني تعريب الحياة العامة كما نادى بذلك الدكتور محمد عابد الجابري سابقاً. إن التعريب بالنسبة لنا هو تحكم اللغة العربية في الوظائف الخمس العليا للسان، بأن تكون اللغة الرسمية للقطاع العمومي وشبه العمومي و الخصوصي في كل من للتعليم والإعلام و الإدارة والاقتصاد والبحث العلمي.ونؤمن بمشاركة اللغة العربية باقي اللغات في الوظيفة الخامسة أي البحث العلمي. لكن عند تعميم اكتشافات العلم والخبرة العلمية المنتجة في المختبرات والبحوث العلمية التقنية والإنسانية لابد من تعميمها بلسان القوم وهو اللغة العربية وليس بلسان قوم أخر، وإلا فشلنا في تبليغ تلك المعرفة والخبرة للمجتمع المغربي المنتج، وبالتالي فشلنا في التنمية الحقة. لقد ظل اللسان الفرنسي يسيطر على جل الوظائف العليا للسان في المغرب لمدة تقارب القرن من الزمن، منذ .1912 ومع ذلك لم نتقدم في مجال التنمية بما يكفي لنهضتنا. والسر هو كون تعميم نتاج البحث والخبرة على المجتمع المغربي المنتج شبه مستحيل لكون الفرنسية ليست لسان المغاربة. وبالمناسبة فعلى المدافعين عن استمرار سيطرة اللسان الفرنسي على الوظائف العليا للسان أن يعرفوا أن نسبة مساهمة اللغة الفرنسية بين باقي اللغات في البحث العلمي العالمي لا تتعدى 5,2% اليوم.
فمن العبث ومن الوعي الشقي العمل على تنمية مجتمع ما وتعميم المعرفة العلمية عليه بلغة لا يفقهها إلا أقل من 10% من سكانه. أشيروا علي بأمة نهضت نهضة حق بدون لسان قومها ما عدا شبه القارة الهندية التي لم تجد عن الإنجليزية بديلاً لغوياً محلياً يجمع كل مكونات الأمة الهندية في لغة قومية واحدة؟؟؟ بل حتى اليهود اليوم أحيوا لغتهم الميتة لتكون لغة الوظائف العليا للسان بينهم. واستفادوا كثيراً من كيان اللغة العربية في تطوير كيانها اللغوي. لقد حكم التاريخ المعاصر في علاقة اللغة بالتنمية الحقة للشعوب بالفشل الذريع للخطاب الفرانكفوني ببلادنا والداعم بقوة لاستمرار سيطرة اللغة الفرنسية على الوظائف الحيوية للسان في الدولة والمجتمع المغربيين.
هذا الفشل التاريخي الكبير دفع الذئب الفرانكفوني الضاري، المتعطش لافتراس لغة الضاد، لغة القرآن ولغة العبادة مهما كلف الأمر، إلى تغيير إستراتيجيته بدون تغيير الهدف. فاستبدل فروته بفروة (حَمَلٍ) وديع للغاية يزعم أنه لصيق في شعاره بأمه المغرب. فلبس شعار:(الدارجة المغربية المفككة القواعد أفضل، ألف مرة للتنمية، من لسان عربي ميت رغم قواعده المكينة). قد يحاورني هذا الفرنكفوني ويقول لي (كما قلتَ فالتنمية لا تتم إلا بلسان القوم، نحن معك، لذا ندعو إلى اعتماد لسان المغاربة وهو الأمازيغية واللهجات العربية الدارجة كبديل لغوي للتنمية الشاملة ببلاد المغرب). قول ظاهره رحمة بشعبنا وباطنه عذاب، صائب بالمنطق الرياضي وخطأ قاتل بمنطق التاريخ و المستقبل، تقدمي بالمنطق السياسي الدارج، ورجعي حتى النخاع بمنطق السياسة الراشدة. فمن حيث المنطق الرياضي المجرد فكل اللغات القائدة في المجتمعات والشعوب هي في الأصل لهجة محلية اكتسبت صفة اللغة المعيارية وأصبحت بالتالي لغة وطنية متحكمة في الوظائف العليا للسان، هذا ما حدث للهجة قريش العربية مع الإسلام، وما حدث للهجة الفرنسية وغيرها مع عصر الحداثة الغربية. وسيقول غير (العربوفوني) الشرس في المغرب و غيره من الأقطار العربية أن اختيار إحدى اللهجات القطرية والارتفاع بها إلى درجة اللسان المقعد القائد للتنمية في كل قطر عربي على حده هو الموقف اللغوي الصائب للتنمية الشاملة، وغيره لغو وهراء وغوغاء في التاريخ.
أسر النمودج الأوربي
هؤلاء في العمق لا يصدرون في مواقفهم هذه إلا انطلاقاً من النموذج الأوروبي لتطور اللغات في العصر الحديث. فيريدون استنساخه في البيئة العربية الإسلامية بدون الانتباه إلى أن تعدد التجارب الحضارية يفضي إلى تعدد طرق تطور الظاهرة اللغوية في تاريخ البشرية الحديث بالخصوص. فتحالف الكنيسة والإقطاع أي الرهبان والفرسان في بداية العصر الوسيط ساهم في تفكك كل أدوات الإنتاج الحضاري التي وفرتها الإمبراطورية الرومانية في التاريخ القديم الأوروبي. لقد تفككت السلطة الرومانية المركزية في القرن الخامس، وتفكك الوطن الواحد في أوروبا إلى مجموعة أقاليم إقطاعية ينعزل بعضها عن بعض، وتفكك الشعب الواحد إلى مجموعات سكانية تحولوا إلى أقنان أو عبيد مملوكين للأسياد الإقطاعيين من الفرسان والرهبان معاً. كما افتقد هذا التحالف بين الكنيسة والإقطاع إلى أية رسالة للنهضة في العصر الوسيط الأوروبي، وسقط أيضاً لسان الحضارة والعمران؛ اللسان اللاتيني. وكانت نتيجة ذلك سقوط أوروبا في عصر سحيق من الانحطاط والظلمات. والحداثة هي تجربة ناجحة في القطع مع الماضي الأوروبي الوسيط المظلم. و الغرض من هذه القطيعة هو تمهيد السبل لإعادة بناء أدوات الإنتاج الحضاري الخمس الكبرى: الرسالة (بصياغة المشروع الثقافي الليبرالي) ووحدة الشعب و الوطن (السوق) والسلطة المركزية التي كانت موزعة بين الأسياد الذين كانوا حكاماً و قضاة ومشرعين لأفنانهم وليس لشعوبهم. إذ كانت الشعوب والأوطان مفككة و مجزأة قبل العصر الحديث، ووحدة اللسان أو اللغة باعتبارها ركنا من أركان الوحدة القومية وعاملا من عوامل التنمية الشاملة لأوروبا لعصر ما بعد الإقطاع، لكن عصر العولمة اليوم يؤكد يوماً بعد يوم أننا نتجه نحو عصر ما بعد الحداثة.
أي لسان للتنمية الشاملة في عصر العولمة ؟
يمثل ميلاد القوميات الأوروبية الحديثة والنجاح في بناء وحدة الشعب الواحد والوطن الواحد والسلطة السياسية الواحدة وبناء اللسان القومي الموحد، إنجازا كبيرا لفلسفة الحداثة كرسالة للنهضة. ولكن ميلاد القوميات في أوروبا بمنظورنا التاريخي اليوم وباستبصارنا للمستقبل غداً هو الشكل الجنيني لعصر التكتلات. لقد بنت الحداثة القومية باعتبارها في رأيي التكتل القزمي في التاريخ المعاصر..والحداثة اليوم كفلسفة و رسالة للنهوض الحضاري تتحول إلى شمعة تحترق من أجل عصر ما بعد الحداثة .
ومن الأمارات الكبرى لعصر ما بعد الحداثة اليوم أربع هجرات كبرى تحدث اليوم على صعيد كوكب الأرض كاملاً: بداية هجرة البشرية جمعاء نحو الله أو الصحوة الدينية العالمية، وبداية هجرة الشعوب نحو الحرية السياسية أوالصحوة الديمقراطية العالمية، وبداية هجرة الحضارة المادية من الغرب نحو الشرق. وبداية هجرة الدولة لمجالها القطري والقومي نحو الدولة العابرة للأقطار والقوميات. أي بداية ميلاد دولة التكتل الجهوي. وأحسن مثال على ذلك دولة الاتحاد الأوروبي، فهو البداية الجنينية للدولة العابرة للقوميات والأمة العابرة لأكثر من 25 شعبا، والوطن العابر لأكثر من 25 إقليما أو وطنا في القارة الأوروبية. والصين كتلة سياسية وبشرية وجغرافية والهند كذلك، و شمال القارة الأمريكية وجنوبها يسير نحو التكتل وهكذا. فاحتمال تصدر الصين للاقتصاد العالمي سنة 2030 واحتلال الهند المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة سره أن الفيل و التنين دول كتل بشرية و جغرافية وسياسية عملاقة.
إن اتجاه التطور في القرن 21 ينذرنا بأن لا حياة و لا مستقبل لأقزام الأقطار والدول والأمم منذ منتصف هذا القرن. فنحن في عصر العولمة وعصر ما بعد الحداثة أمام ميلاد جديد لأدوات الإنتاج الحضاري الكبرى: ميلاد الدولة العابرة للكيانات السياسية القطرية، ميلاد الأمة العابرة للشعوب، ميلاد الإقليم الجغرافي العابر للأوطان، ولربما ميلاد اللسان اللغوي العابر للألسن. وميلاد رسالة ثقافية وحضارية جديدة تستجيب لهجرة الأمم و الأفراد نحو الله، أي تستجيب للرغبة في التدين كسنة تاريخية عميقة اليوم.
كل هذا الحديث سقته لأطرح السؤال على التيار (الدارجي) أي التيار الداعي إلى استبدال اللسان العربي المقعّد باللغات الدارجة أو اللهجات المحلية بالمغرب الحبيب؟ فخبراء التنمية الشاملة وعلماء الاقتصاد يؤكدون اليوم أن لا نهضة شاملة لكيان تقل كتلته السكانية عن 100 مليون نسمة. ومن هنا نفهم قوة الصين والهند القادمة اليوم وغداً. أليست الدعوة لاستبدال اللغة العربية في الأقطار العربية باللغات المحلية هي دعوة تسير في اتجاه معاكس للتاريخ؟؟ اتجاه سينتهي ليس ببناء الدولة القطرية أو الدولة الوطنية ذات السيادة بل سينتهي لا محالة إلى بناء كيانات سياسية ما تحت وطنية فاقدة لأية سيادة لها على صناعة القرار السياسي الوطني المستقل، كيانات تجزئة لا كيانات تكتلات. باختصار إن تيار (الدارجيين) و التيار الفرنكفوني تيارا تجزئة بوعي أو بدون وعي. فهما تياران متخلفان ورجعيان بالمعنى السياسي الصحيح لمعنى رجعي.إنه الوعي الشقي بامتياز.والوعي اللا تاريخي بامتياز، والمراهقة التاريخية والسياسية بامتياز.
خلاصة
كما أن عصر العولمة هوعصر بناء الدولة والأمة و الوطن العابر للقوميات، فإنه أيضا سيحتاج إلى لسان عابر للهجات واللغات المحلية والقطرية، لأن اللسان أحد أدوات الإنتاج الحضاري الضرورية للتنمية الشاملة لأية أمة من الأمم كما أسلفنا. نحن المغاربة كمسلمين وعرب وأمازيغ في حاجة ماسة لبناء تكتل جهوي ضروري للنهضة و التنمية الشاملة للبلاد. في حاجة لبناء دولة عابرة لأقطار الغرب الإسلامي، وأمة عابرة لشعوب المغرب العربي الإسلامي، ولسان عابر للهجاته المحلية والقطرية، باعتبار ذلك من شروط النهضة الحقة في القرن 21؛ لسان أصيل في قواعده قادر على إعادة التنسيق المحكم بين كل اللغات الاصطلاحية واللهجات المحلية لهذا المجال في الغرب الإسلامي. والتنسيق معناه إعادة صياغة ما تنتجه اللغات الاصطلاحية ( لغة الفلسفة والصيدلة والحرف وغيرها كثير...) من مفاهيم علمية وعامية وفق قواعد اللسان المعياري. فما هي هذه اللغة القادرة على بناء تكتلات جهوية من الخليج إلى المحيط العربيين؟؟ إنها لغة كتلة بشرية تتجاوز400 مليون نسبة؟ كتلة تتجاوز ال100 مليون بأربع مرات، وهي العتبة الضرورية للتنمية الشاملة كما أسلفنا الذكر؟ إنها اللغة العربية. فهي لغة التكتلات العملاقة للقرن الواحد والعشرين وما يليه. إنها لغة التقدم والمستقبل. أما الدعوة للدارجة فهي رجوع لحطام الماضي؛ فهي التخلف بلا ريب، فالتعريب في بلاد العرب، وهي الدائرة الأولى في العالم الإسلامي ضرورة تنموية وضرورة مستقبلية وليس حنينا للماضي كما يتوهم أصحاب الوعي المفَوَّت( لجكفٌجم).فالتعريب أحد المداخل الكبرى لبناء التكتلات الجهوية وبناء كيان الدولة العابرة للأقطار كبديل راشد للدولة القطرية التي تتآكل سيادتها يوما بعد يوم في عصر العولمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.