ألف الإمام الدارقطني(385ه) رحمه الله كتابا سماه "التتبع"، انتقد فيه مجموعة من أحاديث البخاري ومسلم، قائلا بأن فيها عللا، غير مصرح بالوضع ولا متجاسر عليه، مع أنه قد نُعِت في زمانه بأنه أمير المؤمنين في الحديث، فلم يزد على قوله في كتابه المذكور ما نصه: "ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما بينت عللها والصواب منها". وحين تَتَبُّع نقده لا تجده يُعمل الاعتراض على المتن بتأويله، ولا ينتقي من المعاني ما يعارض مذهبه، بل يسوق الأحاديث المتنوعة التي لم يجمعها عنده إلا ما رآه فيها من علل حسب اجتهاده، وبهذا تعلم إخلاصه رحمه الله في النقد. ومجمل اعتراضاته مندرجة في دقيق الصنعة المُحْكَمة الدائرة على معرفة الرجال وطرق الحديث والرفع أو الوقف والإرسال وشبيه ذلك. وقد تصدى الحافظ ابن حجر(852ه) رحمه الله لانتقادات الدارقطني في مقدمة شرح فتح الباري المسمى "هدي الساري"، فقال: "فإذا عُرِف وتقرر أنهما لا يُخَرِّجان –أي البخاري ومسلم- من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غيرُ مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما، يكون قولُه معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة". ثم نبه رحمه الله أن أشد ما في كتاب الدارقطني من النقد هو تضعيف بعض رواتهما، ولم يقع ذلك إلا في حديثين، أو اتهام بعض رواتهما بالوهم، ثم تتبع الأحاديث المنتقدة وأجاب عما أعلّها به الدارقطني، وعقد فصلا للرواة المنتقَدين، مبينا فيه قاعدة نفيسة وهي أن البخاري ومسلم يقسمان ما يرويانه من الصحيح إلى أصول، وهي المستوعبة لشرطيهما، وإلى متابعات وشواهد تعضد تلك الأصول، ففي هذه المتابعات والشواهد قد يكتفيان من الرواة بالصدق وإن لم يبلغا الدرجة العليا في الضبط. فليت شعري هل يعلم المجترئون من أهل عصرنا هذه الدقائق في الكتابين. قال ابن حجر رحمه الله : "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كانَ، مقتضٍ لعدالته عنده وصحةِ ضبطه وعدمِ غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذُكر فيهما، هذا إذا خرّج له في الأصول، فإما إن خرّج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم". وإلى لقي آخر إن شاء الله.