ودعنا سنة من عمرنا، طوينا فيها مرحلة من مراحل حياتنا، واستقبلنا سنة أخرى.. كان الانتقال من سنة لأخرى أمرا عاديا استقبلناه استقبال الغافلين، فلم يظهر في واقع الناس اهتمام بوداع فكرة العمر الراحلة ولا استعداد لاستقبال فكرة العمر الجديدة. عام المسلمين الجديد هل علينا فلم يلق لنا اهتماما، دخل ونحن في غفلتنا مستمرون، كان حلوله علينا كحلول اليتيم على مأدبة اللئام.. مع أنه يحمل ذكرى من أجمل الذكريات، ذكرى وجودنا كأمة متميزة .. ذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.. ذكرى الاعتزاز بالعقيدة والاستعلاء بها على الجبروت والطغيان.. ذكرى انتصار الحق على الباطل المتفشي. كلما حل عام هجري جديد كلما عادت ذكرى الهجرة حية في قلوب المؤمنين تطرق على قلوبهم بعبرها، وتحملهم على مراجعة نفوسهم في أمر هذا الدين، وتحديد مواقفهم منه. في هذه المناسبة يستعرض المسلم جهاد رسول الله وصحبه في سبيل إقرار هذا الدين الكريم في الأرض، ويذكر ما تحمل عليه الصلاة والسلام وصحبه من أجل ذلك من مشاق وصعاب تمثلت في الغربة ونشر الإشاعات المغرضة عنهم قصد تشويه سمعتهم، وتعذيبهم وتجويعهم حتى صارت الحياة مستحيلة بالنسبة اليهم، ولم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يقدر على حمايتهم ومنهم مما هم فيه، اقترح عليهم هجرة بلاد الجحود والكفر والطغيان إلى بلاد أخرى يؤمنون فيها على دينهم وعقيدتهم، ويجدون فيها القدرة على التعبير في الحق الذي اعتنقوه، فهاجروا إلى أرض الحبشة. ولما تصلبت قريش في موقفها العدائي من المؤمنين، ورأى رسول الله أن لا أمل يرجى منهم، أذن لأصحابه في الهجرة من مكة إلى المدينة.. وكانت الهجرة فتنة وابتلاء في اختيار الدعة والراحة والتجلي في العقيدة أو التشبث بها وترك الوطن والمال والدار والمتاع.، وكذلك كانت جهادا في سبيل الله اختبر بها الله عقيدة المؤمنين ومحص صفهم، وقد برهن الصحابة عن صدقهم وإخلاصهم لربهم حين استجابوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركوا الأرض التي تربوا فوقها واستظلوا بسمائها وتركوا الأهل الذين آنسوا بهم، تروا كل ذلك من اجل أن يسلم لهم الدين، واستعاضوا عنه بأخوة العقيدة. وتباطأ بعض الناس عنها، فنزل قول تعالى يتهددهم بسوء العاقبة، فقال سبحانه في سورة التوبة « قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ « لأية رقم 24 من سورة التوبة بهذه الهجرة تغير حال المسلمين من ضعف إلى قوة، ومن خوف إلى أمن، وبها أصبح لهم كيان في الوجود، وذكرهم بين الأمم، بالهجرة تم نور الله رغم محاولات الكافرين لإطفائه « يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره لو كره الكافرين». بالهجرة تحقق وعد رسول الله للمسلمين بامتلاك أمر العرب العجم حين كان يقول « يا أيها الناس، قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم، وإذا أمنتم كنتم ملوكا في الجنة». كانت هجرة رسول الله احتجاجا صارخا على الظالمين وإنذارا صادحا على الظالمين، وإنذارا واقعيا للمعتدين، وتأنيبا واضحا للمقيمين على الباطل بعدما تبين لهم الحق، ودرسا لأولئك المتزعمين الذين يتخذون من فرض زعامتهم على الضعفاء سبيلا لإشباع رغباتهم، وهم قابعون في دورهم يتنعمون ويأكلون كما تأكل الأنعام. إن الهجرة لم يغلق بابها، ولن يغلق إلى إن برث الله الأرض ومن عليها، فكلما اضطهد المسلم في عقيدته في بلد من البلدان وتعسر عليه أن يعيش الحياة الإسلامية، وحيل بينه وبين أداء شعائره، ومنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان عاجزا عن وضع حد للجور والظلم المسلط عليه كان واجبا عليه أن يهجر إذا كان قادرا على ذلك، وكان هناك بلد يقيم فيه الإسلام، قال سبحانه « إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالو فيما كنتم..» «وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» النساء: 100. «الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ « . إن القضية التي نريدها أن تكون واضحة أبدا، إن الهجرة تعني أول ما تعني معرفة الحق، ومن ثم الارتحال إليه والالتزام به، والالتفات عليه، وهو طريق الرسل الذين يسيرون على دربهم، وثمرة الغيمان الطبيعية التي تقتضي التحرك به. الهجرة في الإسلام ليست هروبا من ساح المعركة، وليست طلبا للراحة والدعة، وإنما هي عملية تغيير للواقع، ولذلك وجب على مسلم اليوم أن يكون على بينة من هذه المعاني لأنه يعيش في العالم في ظروف تشبهه بظروف ميلا الإسلام، وذلك أن أعداء الله من يهود ونصارى ومن ولاهم من أبناء المسلمين يكيدون للإسلام ليل نهار، ويتآمرون على بلدان المسلمين، بجرهم إلى الانحلال والتفسخ وإيقاد نار العداوة والفرقة بينهم واستنزاف خيراتهم وشغلهم بالمعارك الهامشية وإلهائهم عن مصالحهم الحقيقية، وباختلاق الأكاذيب حول الدعاة وأهل الصلاح، وإلباسهم التهم الباطلة لتكميم أفواههم.