حُكم على رجل الأعمال الأميركي برنارد مادوف (71 عاما) بالسجن 150 عاما أمس في محكمة أميركية في نيويورك، وهي العقوبة القصوى التي طلبها الادعاء العام بحق المتهم في أكبر عملية احتيال، قيمتها 65 مليار دولار.وأعلن القاضي ديني شين الحُكم الذي لاقى الكثير من التصفيق والترحيب من حضور جلسة المحكمة، الذي اعتبر الحكم غير عادي، ونطق به بعد سماع شهادة العديد من الضحايا الذين وقعوا أمام الملياردير المحتال. وتوقع محامي الدفاع عن مادوف عقوبة أكثر ليونة من التي حُكم عليه بها عند 12 عاما فقط. وكان هذا الابن المدلل السابق للأوساط المالية الذي تلاعب لمدة 30 عاما بمليارات الدولارات التي عهدت بها إليه مصارف وأثرياء خواص ومنظمات خيرية، أقر بالتهم الموجهة إليه في 12 مارس (آذار) وعددهم إحدى عشرة تهمة وُجهت إليه بينها النصب والحنث باليمين وتبييض أموال والسرقة. وهو يقبع منذ ذلك التاريخ في السجن محروما من رفاهية شقته الفاخرة في شمال شرق مانهاتن. وطلب مادوف أمس أمام المحكمة الصفح من ضحاياه مؤكدا أنه «سيعيش مع الألم» ما تبقى من عمره.وفي مانهاتن بدأ تحالف الضحيتين هيلين ديفيز تشيتمان وبيرت روس، للدخول في صراع حول هوية الأفراد وحجم الأموال التي سيحصلون عليها من الوكالة المدعومة من الحكومة والتي تتولى تأمين عملاء شركات السمسرة المنهارة. وينتاب بعض المستثمرين شعور بالغضب حيال إمكانية تلقيهم معاملة أدنى من آخرين، بناء على حجم الأموال التي استثمروها مع مادوف على نحو مباشر أو غير مباشر عبر ما يطلق عليه الصناديق المغذية وحجم الأموال التي سحبوها قبل كشف النقاب عن مخطط الاحتيال. في هذا الصدد قالت جين ميرو بيرنيكر (32 عاما) التي تمثل الجيل الثاني بين عملاء مادوف والتي خسر والداها المتقاعدان مدخراتهما طيلة حياتهما عبر صندوق مغذٍّ، إن: «الأمر بات أشبه بقتال حقيقي. وأصبح كل شخص معنيا بنفسه فحسب الآن». في واقع الأمر، رغم أن العقوبة التي أعلنت بحق مادوف سترضي رغبة الضحايا في أن ينال جزاءه عن سرقته أموالهم، فإن الأمر سيستغرق شهورا، بل وربما سنوات، حتى تتسم تسوية مطالبهم المادية.وتتمثل المشكلة الرئيسة التي يدور الحديث عنها بين ضحايا مادوف في أن نسبة ضئيلة فقط من المبلغ المفقود والبالغ قرابة 65 مليار دولار تم استردادها. ورغم أن التأمين سيسد بعضا من هذه الفجوة، من الواضح أن الكثير من الأشخاص سيعجزون عن تعويض خسائرهم ما يعني أن ما تحصل عليه مجموعة من المستثمرين سيؤثر على حجم الأموال المتوافرة أمام مجموعة أخرى. وانطلاقا من إدراكها أن عملية التقدم بمطالب لاستعادة الأموال المفقودة تتسم فعليا بالمنافسة، تمارس بعض المجموعات من المستثمرين مناورات لضمان الحصول على معاملة مميزة من قبل «مؤسسة ضمان المستثمرين»، وهي وكالة تأمين حاصلة على تفويض حكومي.من جهتها، أبدت تشيتمان رفضها لأسلوب حساب إرفنغ إتش. بيكارد، الوصي الذي عينته الحكومة للإشراف على عملية التعامل مع المطالب المادية للضحايا، خسائر المستثمرين على أساس «صافي الاستثمارات»، أو ببساطة الفارق بين إجمالي المبلغ المستثمر في الصندوق وإجمالي الأموال التي تم سحبها قبل انهياره.وتصر تشيتمان، التي تمثل ما يزيد على 100 شخص آخر في دعوى قضائية تقدمت بها ضد بيكارد، على أنه ينبغي تعويضهم عن مجمل قيمة حساباتهم لدى مادوف، حتى ولو فاقت المبالغ التي سحبوها ودائعهم وحتى لو كانت الميزانيات التي تعكسها إقراراتهم تعتمد على عمليات تجارية زائفة.في هذا السياق، قالت تشيتمان إن «التعاملات التجارية الزائفة هي تحديدا ما سعت مؤسسة ضمان المستثمرين لحمايتنا منه، ومن سمسار غير أمين ينهب الأوراق المالية أو سمسار لا يشتري أوراقا مالية أبدا»، وذلك رغم تأكيدها أنها لم تحصل قط على أموال من حسابات لدى مادوف، وبالتالي يحق لها التقدم بطلب للتعويض طبقا للقواعد التي أقرها بيكارد.في المقابل، تثير حجتها بالنيابة عن الأشخاص الذين سحبوا أموالا قبل افتضاح مخطط الاحتيال الذي صاغه مادوف في ديسمبر (كانون الأول)، غضب روس، العمدة السابق لبلدة فورت لي في نيو جيرسي، والذي يؤكد أن مجمل خسائره بسبب مادوف تبلغ 5 ملايين دولار. وأعرب روس عن اعتقاده بأنه «من الناحية الأخلاقية، لا يعد هذا بالأمر المنصف. بالنسبة إلى من لم يحصلوا على أموال قط منا، يعتبر من حصلوا على أموال في وضع مميز، والآن يرغبون في الحصول على أموال مجددا». من جهته، دافع بيكارد عن أسلوب تقديره للأوضاع في إطار لقاء أجري معه الشهر الماضي، موضحا أن تقدير الخسائر على أساس تعاملات تجارية زائفة يعني «السماح للص بانتقاء الفائزين والخاسرين». الملاحظ أن التشاحن الداخلي بين بعض مجموعات المستثمرين أخذ في التصاعد قبل الموعد النهائي المحدد في 2 يوليو (تموز) للتقدم بطلبات الحصول على تعويض لدى «مؤسسة ضمان المستثمرين».وتجلّى التوتر خلال اجتماع حضره أكثر من 150 من ضحايا مادوف في 16 يونيو (حزيران) في بورت واشنطنبنيويورك. وخلال الاجتماع، وجّه ريتشارد فريدمان، محاسب وأحد ضحايا مادوف، حديثه إلى الجمهور مازحا وقال إنه نظرا إلى أن «مؤسسة ضمان المستثمرين» تحدثت عن «توزيع الألم»، فإنه سيمرر قائمة اشتراك لأي شخص يرغب في ضرب بيكارد. وضجت القاعة بالضحك.يُذكر أن الغالبية العظمى من الأفراد الذين استثمروا أموالهم لدى مادوف قاموا بذلك عبر وسيط مثل صندوق مغذٍّ، الأمر الذي جعلهم غير مؤهلين للحصول على حماية «مؤسسة ضمان المستثمرين». ومع ذلك، شجع بيكارد ضحايا هذه المجموعة على التقدم بطلبات للتعويض. وربما ستفصل في مصيرهم المحاكم في غضون سنوات من الآن. وأبدى بعض هؤلاء المستثمرين غير المباشرين سخطهم حيال تصارع المجموعات الاستثمارية الكبرى حول التعريف الذي وضعه بيكارد لصافي الاستثمارات دونما اعتبار لمن تم استثناؤهم تماما من عملية التقدم بطلبات للتعويض. وقالت بيرنيكر: «عندما نما إلى علمنا للمرة الأولى أن المستثمرين غير المباشرين لا تغطيهم العملية، راودني شعور بالتعرض للعدوان مجددا، وسيطر عليّ تساؤل: كم مرة سيتكرر هذا الأمر معي؟».وأكد العملاء غير المباشرين أنه يجري التعامل معهم كما لو كانوا من مرتبة أدنى، حيث توجه الكثيرون منهم إلى الصناديق المغذية لافتقارهم إلى مبلغ مليون دولار أو مليوني دولار تشكل الحد الأدنى اللازم للتعاون مباشرة مع مادوف. في بداية الأمر، ساد اعتقاد بأن من استثمروا أموالهم لدى مادوف عبر الصناديق المغذية الكبرى، مثل «غابرييل كابيتال» الذي يترأسه جيه. إزرا ميركين، و«صندوق فيرفيلد سنتري»، في وضع أفضل يمكّنهم من تعويض خسائرهم، ذلك أن هذه الشركات، على خلاف الحال مع مادوف، تتمتع على الأقل بوجود أصول يمكن رفع دعاوى قضائية حولها. بيد أن العديد من الصناديق المغذية ذاتها تواجه دعاوى قضائية ضدها من قبل بيكارد، ومن غير المحتمل أن تخرج من هذه الأزمة دون المساس بأموالها. الأسوأ من ذلك أن الذين استثمروا حسابات التقاعد الفردية الخاصة بهم لدى مادوف من خلال صناديق مغذية عجزوا عن الحصول على خصومات ضريبية لما تعرضوا له من سرقة في ما يتعلق بالضرائب الفيدرالية المفروضة عليهم. أيضا، جابهوا مشكلات في تعديل أقساط الرعاية الصحية التي تعتمد على الأرقام الخاصة بدخولهم التي باتوا يدركون الآن أنها مبالغ فيها بصورة زائفة.حتى اليوم، تواجه «مؤسسة ضمان المستثمرين» ثلاث شكاوى من ضحايا يدحضون صحة الأسلوب الذي ينتهجه بيكارد، إلا أن «مؤسسة ضمان المستثمرين» التي يجري تمويلها من جانب صناعة السمسرة، تتمتع بقدر وافر من الأموال يمكنها تسليمه على الفور إلى ضحايا مادوف. وحددت الوكالة حد أقصى للتعويض المسبق يتمثل في 500 ألف دولار لكل عميل مؤهل.وبينما سيحصل الكثيرون في نهاية الأمر على تعويضات تتجاوز 500 ألف دولار، فإن توقيت حدوث ذلك والمعدل الجزئي الخاص به يعتمد كلية على الدعاوى القضائية التي تقدم بها بيكارد للحصول على أكثر من 10 مليارات دولار من كبار المستثمرين الذين سحبوا أموالا قبل انهيار مخطط مادوف.حتى الآن، استعادت الوكالة 1.25 مليار دولار، بينها تسويات تم التوصل إليها مؤخرا مع اثنين من صناديق التحوط أوفشور. لكن هذا المبلغ يتجاوز بنسبة ضئيلة فقط 972 مليون دولار الذين وافقت الوكالة على دفعها كتعويضات حتى الأسبوع الماضي، وتتعلق ب441 طلبا للتعويض فقط.جدير بالذكر أنه بصورة إجمالية تم التقدم بقرابة 8800 طلب للتعويض. وحتى التقديرات المحافظة تشير إلى أن ضحايا مادوف يبلغون في مجملهم عشرات الآلاف.إلا أن هذه الأعداد الضخمة لم تحُلْ دون مطالبة بعض مجموعات المستثمرين بحصة أكبر من طلبات التعويض. وبرر بعضهم ذلك بتباينات اجتماعية واقتصادية. من ناحيتها، قالت شيري مورس، العضو النشط في العديد من مجموعات ضحايا مادوف والتي كانت أسرة زوجها من بين أوائل ضحايا مادوف، إنها شعرت بأن تفسير بيكارد لصافي الاستثمارات يرقى لكونه نمطا من التمييز الشعبوي الزائف بين الطبقات. وقالت: «تجري معاقبة الأشخاص الذين حصلوا على أموال لكونهم طبيعيين. لكن سواء كان لديك 10 دولارات أو 100 مليون دولار، فإن جني المال ليس بجريمة في أميركا. وبصورة ما، تَولّد اعتقاد لدى الجميع بأن الأثرياء فحسب هم من يحصلون على ما يستحقون». وقال روس عمدة فورت لي السابق الذي لم يسحب أموالا قبل انهيار مخطط مادوف، إن مورس وحلفاءها «إذا حصلوا على مزيد من الأموال من الوصي، فإن ذلك يعني أنه سيقسّم الكعكة إلى أجزاء أصغر بكثير بالنسبة إلينا جميعا». وقال روس، الذي تنقسم خسائره بين حساب مباشر مع مادوف وصندوق مغذٍّ، إنه توقف عن المشاركة في المناقشات التي تجري عبر شبكة الإنترنت حول فضيحة مادوف «لأنني بحاجة إلى خلق مسافة بيني وبين من يشعرون بأن لديهم الحق وبين من يشعرون بالغضب».وقال إنه حصل على شيك من «مؤسسة ضمان المستثمرين» بقيمة 500 ألف دولار استغله في سداد الأقساط المتراكمة عليه بسبب منزله.* «نيويورك تايمز»