يعتبر الحوار بين الحضارات والثقافات، من أهم التحديات الكونية الكبرى التي تواجه العالم المعاصر، ضمن انشغاله بضبط العلاقات السياسية والإقتصادية بين الدول، هذه العلاقات التي لايمكن أن تستقيم نحو أفق تحقيق السلم والإستقرار والتعايش، دون إعطاء البعد الثقافي في العلاقات الدولية مكانة دالة على أن أي تطور أو تقدم في المجال الإقتصادي والتقني والعلمي يجب أن يتم داخل القواعد والمبادئ الأساسية لمنظومة حقوق الإنسان . برز هذا التحدي في إطار الإهتمام العالمي بالبعد الثقافي للعلاقات الدولية، باعتبار أن خصائص ثقافة الشعوب، لها تأثير كبير في العلاقات بين الدول، وأن تحقيق التعاون الدولي يتطلب توظيف هذه الخصائص، بحكم الترابط بين السلوكات السياسية والإقتصادية من ناحية، والسلوكات الثقافية والإجتماعية من الناحية الأخرى .ورغم ما يقال بأن الحضارات والثقافات هي التي ستتحكم في المستقبل في الصراع الدولي، فإن ذلك سيبقى مجرد تخمين ومبرر لفرض الهيمنة وتعزيز النظام اللامتكافئ، ومن شأنه أن يزيد في تعميق الصراع . وهذا ما أصبح واضحا وبالخصوص بعد ما حدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية في شنبر 2001، وما تلى ذلك من حروب وويلات، وخيبة أمل حول مدى قدرة منظومة حقوق الإنسان وآليات المجتمع الدولي على ضبط التكافؤ والتوازن.وقبل ظهور هذا الحدس من خلال الإتجاهات المستقبلية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبالخصوص على لسان هنتنكتون الذي تحدث عن صراع الحضارات سنة 1993، فإن المؤتمر البرلماني الأول للأمن والتعاون في البحر المتوسط الذي عقد في "مالقا" سنة 1992، قبل نشر دراسة هنتنكتون، سبق أن أقدم على تحديد ثلاث مجالات للتعاون في البحر المتوسط، ومن ضمنها الحوار بين الحضارات الذي يندرج تحته التعاون الثقافي بجانب التعاون السياسي والأمني، والتعاون الإقتصادي، كما تم تخصيص الجزء الرابع من الإعلان النهائي لموضوع حوار الحضارات وحقوق الإنسان، حيث يتضمن الإشارة إلى المبادئ العالمية والقيم المشتركة للحضارة ومبادئ الفهم المتبادل، والتسامح والتعاون في مختلف الميادين الثقافية وحقوق الإنسان.فتحدث هذا الإعلان بشكل واضح عن حوار الحضارات ،باعتباره أساسيا لسد الفجوة بين شعوب العالم وأوربا ، مؤكدا على أن حوار الحضارات لابد أن يتأسس على القيم المشتركة مثل احترام الحياة الإنسانية، والحاجة إلى القيم الروحية والتضامن الإنساني وغيرها.إلا أن ما حصل خلال هذا العقد الأول من القرن الحالي من ظهور مخاطر الحرب، واندلاع النزاعات الإثنية ،والحروب الاهلية في عدة أماكن في العالم، والتزعزع الحاصل في المجال البيئي، والإختلالات المناخية، والندرة في الموارد الطبيعية ،وانتشار الفقر والهشاشة بجانب التزايد الديموغرافي والإخلالات الإقتصادية والمالية التي أصابت النظام الرأسمالي المهيمن، أدى إلى طرح سؤال مهم حول، كيف نتعايش ونعيش سويا كبني البشر ؟سؤال يشكل في حد ذاته تحدي سياسي واقتصادي وثقافي، وهو سؤال يمكن اعتباره شعار تحدي القرن الواحد والعشرين.وما دمنا نفكر في رصد أفق احترام حقوق الإنسان في الدول المتوسطية ،من خلال الحوار بين الحضارات والثقافات، ضمن أشغال اليوم المتوسطي الذي هو موضوع ندوتنا، فإنني سأحاول الحديث بعجالة عن ثلاث مسائل اعتبرها أساسية : المسألة الأولى تتعلق بضرورة العمل على تحقيق متطلبات النجاح لحوار الحضارات . المسألة الثانية تتعلق بالتربية والتعليم ونشر المعرفة. المسألة الثالثة تتعلق بإدماج الموارد الطبيعية والبيئية .1) إن أول إشكالية تثار حول حوار الحضارات تتعلق بغموض مفهوم الحضارات وصعوبة تحديد الحدود الفاصلة بينها، وإلى حد الآن لم يحصل أي اتفاق حول عدد الحضارات التي شهدها التاريخ البشري.كما أن الإشكالية الأساسية الأخرى تتعلق بتحديد من يمثل الحضارات في الحوار، هل هي النخب الحاكمة، أم أنه ينبغي أن يشمل النخب غير الحاكمة ومنظمات المجتمع المدني، وحالات تعدد التوجهات الفكرية داخل الحضارة الواحدة، وكيفية خلق تشكيلة من الإتجاهات الفكرية المتعددة والفئات المجتمعية المختلفة ؟.ثم هل الحوار بين الحضارات، يعني الحوار بين الدول أو الطبقات الحاكمة وبين الأديان ( الحوار بين الإسلام والغرب ، أو بين الإسلام واليابان ) باعتبار أن الإسلام هو تعبير عن الحضارة، بينما اليابان دولة والغرب دول متعددة، مع العلم أن الحوار لا يمكن أن يتم بين حضارة ودولة ؟ .ثم في الأخير هناك إشكالية انعدام التكافؤ في الحوار، فالحضارة الغربية تتسم بتفوقها العلمي والتكنولوجي على حضارة العالم أقل تقدما، ومن ثمة فهي قادرة على نسج السيطرة على أجندة الحوار، باعتبار أنها تملك التكنولوجيا وتقدم المساعدات.كل هذه الإشكاليات تجعل مسألة تحديد الشروط اللازمة لتفعيل الحوار بين الحضارات، ضمن المهام الأساسية لتفعيل الحوار واحترامه في العلاقات الدولية، وذلك من خلال تحديد منهجية الحوار، ونوع العلاقات التي تنشأ بين المتحاورين في إطار عملية إدارة الحوار وضمان نجاحه، بناء على الإعداد المنهجي الدقيق، باعتبار أن الحوار يجب أن يقوم بوظيفة الإقناع وطريقة التوصل إلى حلول مرضية حول القضايا الخلافية .ثم إن الحوار بين الحضارات لا يمكن أن يكون معزولا عن قواعد التعاون الإقتصادي والسياسي، باعتباره جزء من العلاقات الدولية يشمل أيضا الجوانب السياسية والإقتصادية، ثم الإقرار بضرورة الإلتزام بمفهوم التعددية الثقافية كعنصر أساسي للتنمية وتقوية الحوار بين الحضارات، باعتبار أن نجاح هذا الحوار يرتبط إلى حد كبير بتبني منظور التعددية الثقافية، والإعتراف بالثقافات والحضارات وتكافئها، وعدم سمو ثقافة على أخرى بالضرورة ، ومن خلاله يتحقق إنتاج معرفة جديدة اعتمادا على مدى النجاح في التعامل مع القضايا الراهنة التي تؤثر على العلاقات بين الحضارات المتحاورة .وهذا ما سيجنب استمرار استعداء التجارب التاريخية، ومحاولة إعادة نفسها وتقديمها بشكل يوحي بإيجابية العلاقات بين الحضارات عبر التاريخ، أو الإقتصار على التأكيد على أطراف الحوار لتفضيل حضارة بعضهم على حضارة البعض الآخر، وهو ما يؤدي إلى عجز الحوار عن الإستمرار وعقمه . كما أن تأطير الحوار بين الحضارات ومأسسته على كافة الواجهات، سيكون إيجابيا وفعالا إذا ما اتسم بالإرادة وروح التعاون والتآزر ، بحيث يتعين ألا يقتصر على اجتماعات طارئة، أو بمناسبة حوادث خطيرة. فسيكون من المهم أن يتم الإتفاق على وجود إطار مؤسسي دائم يهتم بالحوار، وأظن أن الآلية البرلمانية كأداة للحوار بين الحضارات تلعب دورا له أهمية قصوى، باعتبار أن الصفة التمثيلية الشعبية للمجالس البرلمانية، تعتبر من جملة الأجندة التي تمكن من استخلاص النتائج والمراقبة في تطبيقها .كما أن مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في الحوار الحضاري من شأنها أن تقوي الحوار، وأن تدفعه إلى إثارة قضايا شائكة والمساهمة في الحسم فيها، باعتبار أن الحوار كيفما كان مستواه وجودة نتائجه العملية ، فإنه سيبقى ناقصا إذا لم تشارك فيه الجماعات التي تتأثر بنتائجه .2) وحتى يبقى للحوار بين الحضارات دوره التاريخي في دعم وتقوية العلاقات بين الحضارات والأمم، وبين الدول والأديان ومختلف الثقافات، لابد أن تتوفر الأداة العلمية للتواصل والتحاور والفهم، وبناء مشاريع المستقبل على أسس من التقاسم في القيم والإشتراك في الأهداف .وهذه الآلية لايمكن إلا أن تكون آلية التربية والتعليم ونشر المعرفة، باعتبار أن عجز التعايش والعيش في سلام مع الآخرين أو رفض ذلك، يجد سببه الرئيسي في غياب الدور الذي تلعبه التربية في إطار الجهد الذي يجب أن يبذل من أجل تعلم كيفية التعايش مع الآخرين، مما يؤدي إلى انحلال روابط التسامح وحسن التوافق وتصور ردود الفعل، غالبا ما تكون عدمية أو رفضية إن لم تكن عنيفة .فالتربية هي المساعد الأساسي على الإستعداد للحياة سويا مع احترام حقوق وحرية الآخرين ، وهي مفتاح قبول قابلية اختلاف بني البشر، وفهم معاني الكرامة المرتبطة بالإختلاف الثقافي .هاته المفاهيم التي عجزت العولمة حتى الآن على وضعها وتقريرها، رغم ما تدعيه من أنها ترمي إلى تحقيق أهداف إنسانية في اتجاه الإختلاف اللساني والثقافي الذي يميز الكون.إن العولمة في حدودها الإقتصادية والتجارية لن تؤدي وظيفتها في مجال حقوق الإنسان والحوار بين الحضارات، إذا لم تساهم في تحقيق انتقال جوهري نحو مجتمع قائم على المعرفة، تحدد فيه المعارف والمعلومات كنماذج جديدة في التنمية والرخاء بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون الولوج إليها .ولكن ما مصير الملايين من بني البشر الذين ليس باستطاعتهم ذلك؟من هنا يبدو أن الهدف الأساسي المحيط بتفعيل وتقوية الحوار يكمن في المحيط التربوي وفي توفير الولوج إلى التربية بأحسن الطرق .ولقد عرف هذا المسعى اليوم وهذا ما استشعرناه في المغرب تطورا، بحيث أصبح الجميع واع بضرورة توفير للمجتمع ، تعلما دائما وفرصا عادلة للحصول على تربية ذات جودة ، تربية تستجيب بشكل فعال لمختلف تطلعات أشخاص القرن الواحد والعشرين وحاجياتهم المتطورة، تؤهل الجميع للمشاركة ،وتوظيف كل الطاقات، وهو أمر يتطلب أساسا تحقيق السلام ووقف التوترات، وإعطاء الأولوية للتربية والتكوين والمعرفة .3) إن تنمية الإنسان وتنمية قدراته على فهم محيطه وتوقع مستقبله، في جو من المسؤولية والمشاركة والحرية والمساواة وهي المبادئ التي أقيم عليها الحوار بين الحضارات لايمكن أن تتحقق إذا لم تكن مرتبطة بالفضاء العام والمناخ الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان، والمتعلق بالمؤهلات الطبيعية الأساسية كالماء والهواء والشمس وبقية مكونات الطبيعة .وهنا تظهر أهمية وقدرة العلوم التطبيقية والتقنية على لعب دور هام في تعزيز وتعميق الحوار بين الحضارات، بعد أن كانت هذه المهمة حكرا على العلوم الإنسانية، باعتبار أن مجال البحث العلمي لايخضع سوى إلى الحقائق المثبتة، فأصبح لها دور جوهري في التقريب بين الثقافات خارج نطاق الحوارات الفكرية والعقائدية التي تقدمها العلوم الإنسانية . فالتغييرات المناخية التي يعاني منها الكون ليست مشكلة محلية أو إقليمية ، وإنما هي مشكلة إنسانية، تتطلب التعاون بين الجميع من أجل وضع حلول مناسبة لها، ويتمثل هذا التعاون في مجال تقوية وتشجيع تقنية إنتاج الطاقات المتجددة، والتعاون في مجال الطاقة وتوزيعها، باعتبار أن مصادر الطاقة النفطية والفحمية يلعبان دورا كبيرا في انتشار ظاهرة الإحتباس الحراري.لذلك، لا مناص من العثور على مصادر بديلة.فإذا كانت قضية المناخ وندرة الموارد الطبيعية نالت اهتمام المجتمع الدولي من خال عدد من الإتفاقيات الدولية، فإن تدبير الموارد الطبيعية، وبالخصوص المائية، مازالت تتحكم فيها إرادة الدول اعتمادا على قوتها الإقتصادية ،إن لم نقل العسكرية.وكثير من الدول مازالت تتردد في وضع سياسة عمومية بيئية سليمة .فهل سننتظر سنة 2030 لنشاهد نصف ساكنة العالم تعيش في مناطق قلق مائي ؟وهل سننتظر المزيد من التأثرات الدولية التي كان سببها اختلاف حول اقتسام المياه ؟نظن أن ما تراكم من خلال الأبحاث وتقارير المنظمات الأممية، يحمل كثيرا من مؤشرات الخطر على حياة الإنسان في المستقبل، وحقوقه في التغذية والعيش السليم، إذا لم تحض مسألة المناخ وندرة الموارد الطبيعية وتعميم سياسات التدبير المحكم والرشيد، بحوار بين الحضارات والثقافات، لتجنب اتساع شقة الفوارق وتزايد الفقر والهشاشة والإقصاء .يتضح أن أفق الحوار بين الحضارات إذا بقي منغلقا في معالجة الإشكاليات المتبقية عن الماضي في جذورها الثقافية والفكرية والمذهبية والدينية، دون أن يدمج ضمن ندواته واهتمامه، مسألة مستقبل الحياة، وحماية الموارد وتقويتها وحسن تدبيرها ، سيبقى حوارا ذا طابع نخبوي بعيد عن تحقيق أهداف إقرار الإستقرار والسلم، والتعايش بين مختلف الأجناس والمجموعات والثقافات الإنسانية والبشرية .وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن ما تم إفرازه ونسجه من مفاهيم وأفكار ومحرمات، كمعاداة السامية، وتجريم النقد في الأديان كيفما كانت درجته، لن يؤدي إلا إلى التشويه في مبادئ وقواعد حقوق الإنسان، وتفتيت الجهد البشري نحو تفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات، وإقرار قواعد الإختلاف ومفهوم التعددية الثقافية الحقيقية.لذلك يتعين تشجيع الحوار ودعمه ، وبالخصوص بواسطة المؤسسات البرلمانية والشعبية ، باعتبار أن السلام في شتى أرجاء العالم سيبقى هشا إذا ما بقيت سلامته مهددة بالفقر والنزاعات، مما يعرض الكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية للمخاطر ، فيبقى بذلك الحفاظ على السلام في كل أبعاده وتجلياته ، تحدي دائم على المجتمع الدولي ، لاسيما في سياق العولمة .فأمام تحديات جديدة سيجد المجتمع الدولي نفسه مضطرا لإيجاد حلول ناجعة، وأكثر إنصافا وعدلا، سواء بين الشمال والجنوب، أو حتى داخل قطر واحد ، ولايمكن أن تكون هذه الحلول ناجعة، إلا إذا ارتكزت على قيم يتقاسمها العالم بأسره، مع الحفاظ على اختلاف الأشخاص والثقافات، واستهداف الحاجيات المستعجلة للمجتمعات وللمناطق المستضعفة .ويبقى الحوار وحده المتجذر بقوة في مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية ، هو الحل الأمثل لبلوغ هذا الهدف، وبواسطته يمكن الوصول إلى التفاهم والتصالح والسلام على المدى الطويل .