حتى لا أكرر مجموعة من المعطيات والحيثيات التي تؤكد محدودية المدخل الحقوقي في التعاطي مع موضوع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو على الأقل استنفاذ المدخل الحقوقي لجل إمكانياته في متابعة الموضوع المذكور، خاصة وتخلي أو تواضع أداء مجموعة من الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية المشاركة في المناظرة الوطنية الأولى حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، ودون أن يعني ذلك إنكار المجهودات الكبيرة التي قامت بها الهيئات الحقوقية ليحتل الموضوع المكانة التي يستحقها ضمن الأجندات الراهنة سواء بالنسبة للنظام المغربي أو الهيئات السياسية والجمعوية، لنرجع الى توصيات المناظرة الأولى للنظر في مدى تحققها أو تحقق بعضها، وذلك بعد مرور أزيد من سبع سنوات. وعدم تحقيق أو انتزاع هذه التوصيات وعلى المدى المذكور سيؤكد بدوره "محدودية المدخل الحقوقي". وبدء هذه توصيات المناظرة الأولى: توصيات الإصلاحات المؤسساتية والتدابير التشريعية والإدارية والتربوية توصي المناظرة ب: 1- على مستوى الالتزامات الدولية: الإسراع بالتصديق على البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبرفع التحفظات الخاصة بالمادة 20 والفقرة الأولى من المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب وبالاعتراف باللجنة المنصوص عليها في هذه الاتفاقية كآلية من آليات الإنصاف والتظلم، وبالتصديق على اتفاقية روما بشأن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. 2- على مستوى الدستور: التنصيص على أولوية المعاهدات والاتفاقيات الدولية المصدق عليها في مجال حقوق الإنسان على القوانين الوطنية، ومبدأ فصل السلط وضبط مدلوله وأحكامه، ومفهوم السلطة القضائية المستقلة، وتعزيز دور سلطات الوزير الأول ومأسستها، وتعزيز صلاحيات البرلمان في نطاق التقصي إزاء كل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإعادة النظر في المجلس الدستوري بما يعزز استقلاله ودوره الرقابي. 3- على مستوى المنظومة الجنائية: - تعزيز مبدأ قرينة البراءة وكل ضمانات حقوق الدفاع على مستوى الحراسة النظرية والتحقيق وسائر أطوار المحاكمة العادلة وإلغاء الامتياز القضائي وحصره فقط في فئة القضاة وبإلغاء عقوبة الإعدام. - إدماج التعريف الكامل للعناصر المادية والمعنوية المكونة لجرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وكل أشكال التعذيب، وعلى عقاب المتواطئين والمتورطين فيها ورفع حالات التذرع بالأوامر والتعليمات والظروف الاستثنائية واعتبار كل تلك الجرائم غير قابلة لأي تقادم، وعلى عدم استفادة مرتكبيها من الحصانة أو العفو أو التماس الرحمة. 4- على مستوى السلطة القضائية: - ضمان ممارسة عملها على نحو يعزز مبدأ الاستقلالية ويقطع مع سياسة التعليمات. - تفعيل الدور القضائي للمجلس الأعلى للقضاء على أساس النزاهة والشفافية. - إلغاء المحاكم الاستثنائية والخاصة. 5- على مستوى الحريات العامة: رفع كافة القيود على ممارستها ووضع حد لأية متابعة بسبب الانتماء أو الرأي أو التعبير أو المعتقد وبإلغاء العقوبات الحبسية في جنح الصحافة المرتبطة بالرأي وكذا مقتضيات الفصل 77 منه وبتخويل القضاء وحده اختصاص البث فيما يتعلق بالمخالفات والجنح الخاصة بالصحافة. 6- على مستوى التدابير الإدارية: التزام السلطات العمومية بالقواعد القانونية وأحكامها ووضع أنظمة مراقبة عصرية شفافة على مختلف الأجهزة الأمنية وإخضاعها لسلطة الحكومة. وتأهيل وتدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين على قيم ومبادئ حقوق الإنسان. 7- على مستوى التدابير التربوية وثقافة المواطنة: إدماج مبادئ وقيم ومفاهيم ومعايير حقوق الإنسان في الثقافة العامة والتربية النظامية وغير النظامية وفي البرامج التعليمية وعند مراجعة الكتب المدرسية وتنقيحها، واعتبار التقرير الذي ستصدره لجنة الحقيقة أداة مرجعية لقراءة التاريخ المغربي المعاصر وتعميمه على نطاق واسع في مختلف أسلاك التعليم ومعاهده ومؤسسات مساعدي العدالة والنهوض بالدور التنويري لوسائل الإعلام بمختلف أشكالها وبالمؤسسات الوطنية المتخصصة والمعنية بحقوق الإنسان، ووضع آلية للوساطة والتدخل الحمائي لتوثيق ولتعزيز رعاية وإنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. 8- على مستوى حماية نشطاء حقوق الإنسان: بالإعمال الفعلي للإعلان العالمي لحماية نشطاء حقوق الإنسان وتمكينهم من القيام بوظائفهم في نطاق دولة الحق والقانون. توصيات بشأن هيئة الحقيقة استنادا الى مقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان واجتهادات وفقه الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. استلهاما لبعض التجارب الوطنية عبر العالم في معالجة انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة المرتكبة في عهد سابق. وإيمانا منا بأن جبر الضرر عن تلك الانتهاكات لا ينحصر في بعده المادي فقط بل يشمل أيضا الاعتراف بالمسؤولية التي لحقت أشخاصا وعائلات ومجموعات من جراء ارتكاب جرائم معينة والتعسف في استعمال السلطة. الأمر الذي يستلزم بالضرورة الكشف عن الحقيقة وتحديد المسؤوليات حول تلك الانتهاكات. إن الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح تتمثل في الكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات وتوضيح الأحداث التي ارتكبت خلالها بهدف وضع حد للإنكار والتستر الذي انتهجته الدولة خلال عقود من الزمن، ولن يتحقق هذا إلا بإحداث لجنة مستقلة بنص قانوني يحدد الهدف من إنشائها واختصاصاتها وطريقة تشكيلها من بين شخصيات تتمتع بالنزاهة والالتزام بمبادئ وقيم حقوق الإنسان ومشهود لها بالكفاءة والاستقلالية عن أي جهة شخصا كانت أم مؤسسة، وأن توفر لها كافة الموارد المادية واللوجستيكية على أن تقوم بتحقيقات معمقة غير منحازة أو انتقائية بخصوص كل ملفات انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة على أن تستعين بوحدات متخصصة وفرق عمل من الخبراء ونشطاء حقوق الإنسان وأن تخول لها كل الصلاحيات للحصول على كل المعلومات الضرورية للبحث لدى كل جهة ارتأتها. استدعاء كل شخص يفترض ضلوعه في كل انتهاك سابق قصد الاستماع إليه وتحاط عملية الاستماع للضحايا والشهود بكافة الضمانات الحمائية وبخصوص استخراج الجثث والرفات تستعين اللجنة بأخصائيين أكفاء ونزهاء في الطب الشرعي ووفق التقنيات الطبية والعلمية بعد معاينتها وإثباتها رسميا وبحضور أولياء الضحايا وممثليهم. ولذلك توصي المناظرة بتشكيل هيئة وطنية للحقيقة قصد: - الكشف عن الحقيقة بخصوص الانتهاكات الجسيمة المرتكبة منذ الاستقلال من أجل: - البحث في الوقائع والأحداث وملابسات ارتكاب تلك الانتهاكات الجسيمة. - التحقيق والتثبت من مصادر هذه الانتهاكات وتحديد المسؤوليات وإصدار توصيات بشأنها. - إعداد تقرير بشأن أشغال ونتائج الهيئة ونشره. - إعداد توصيات بشأن التدابير والإجراءات المتعين اتخاذها لجبر الأضرار ورد الاعتبار للمجتمع وحفظ ذاكرته وكذا بشأن الإصلاحات المؤسساتية والتشريعية والتربوية والثقافية والإعلامية والحمائية الضرورية لتفادي تكرار ما حدث في الماضي. توصية التدابير المستعجلة تطالب المناظرة باستعجال السلطات العمومية والجهات المعنية ب: - تحمل مسؤوليتها تجاه الضحايا ذوي الحالات الصحية المستعجلة، وذلك بتقديم خدمات عالية الجودة طبيا ونفسيا. - إطلاق سراح من تبقى من المعتقلين السياسيين. - الكشف عن مصير باقي المختطفين. - تسليم رفات المختطفين المتوفين وتسوية المراكز القانونية لذويهم. - رفع كل القيود الإدارية المعيقة المتضمنة في السجلات العدلية للعديد من الضحايا قدماء المعتقلين السياسيين وتمكين من لم يستفد من قرار الإرجاع الى العمل من وظائف تكفل لهم سبل العيش الكريم وإدماج كافة الضحايا اجتماعيا وإعادة تأهيلهم. - تسوية أوضاع الذين لم يستفيدوا من قرار الإرجاع الى للعمل. - تمكين من لم يكن يتوفر على عمل من دخل مادي يمكنه من العيش الكريم. - رفع كل القيود المعرقلة لحق قدماء المعتقلين السياسيين والمنفيين في الحصول على جواز السفر ومغادرة التراب الوطني وإلغاء كل البطاقات التي تحتفظ بها أجهزة الأمن في نقط العبور في حقهم وفي حق النشطاء الحقوقيين والسياسيين. توصية التعويض وجبر الضرر والتأهيل والاسترداد تطالب المناظرة بأن تنبني عمليات تعويض الضحايا أو ذويهم ماديا ومعنويا على قواعد العدل والإنصاف وعلى ما فاتهم من فرص الكسب واسترجاع الحقوق الناتجة عن مصادرة الأملاك أو ضياعها عند الاقتضاء، وباستناد التأهيل على الخدمات القانونية والطبية والنفسية والاجتماعية ذات الجودة العالية. توصية الاعتذار العلني والرسمي اعتبارا لمسؤولية الدولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المترتبة عن تصرف أجهزتها وأفرادها، تطالب المناظرة الدولة بتقديم اعتذار علني ورسمي للضحايا والمجتمع عما جرى. توصية بشأن حفظ ذاكرة الأمة والمجتمع تطالب المناظرة باتخاذ كل التدابير والإجراءات الاجتماعية والثقافية والتربوية والرمزية للحفاظ على ذاكرة المجتمع والأمة وعلى رأس ذلك إنشاء مؤسسة وطنية لحفظ الذاكرة تصبح بمثابة مركز مرجعي ومصدر رئيسي لثقافة حقوق الإنسان، ووضع نصب تذكارية، وتحويل المراكز الكبرى للاختفاء القسري الى مراكز لحفظ الذاكرة. دعم وتوصية - تؤكد المناظرة دعمها المطلق لعائلة الشهيد المهدي بنبركة في استكمال تدابير وإجراءات البحث عن الحقيقة وتمكين العدالة من الاستماع الى الشهود. - تناشد الدولة المغربية والفرنسية والأمريكية بالعمل على رفع السرية على كافة الوثائق الممسوكة من طرف أجهزتها الأمنية بشأن اختطاف وتصفية الشهيد المهدي. توصية بشأن التربية على حقوق الإنسان تدعو المناظرة وزارة التربية الوطنية ووزارة التعليم العالي الى العمل على إدماج مفاهيم ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان في البرامج الدراسية، واعتماد آداب السجون في المقررات التعليمية من اجل التربية على حقوق الإنسان وحفظ ذاكرة الأمة والمجتمع. توصية بشأن المساءلة - توصي المناظرة الجهات الداعية الى صياغة تقرير تركيبي يتضمن كافة الآراء المعبر عنها أثناء المناقشات الحيوية والجادة التي تخللت أشغال ورشة "مسؤولية الدولة والمساءلة". - واعتبارا للغرض الذي حدد لهذه الورشة فإن المناظرة توصي لجنة المتابعة بتنظيم حوار وطني حول موضوع المساءلة تساهم فيه المكونات التي شاركت في المناظرة والأطراف التي تجاوبت وتفاعلت مع توصياتها ونتائجها وكافة الجهات المعنية. - توصي المناظرة لجنة المتابعة بالتقيد بالأهداف الخمسة الواردة في وثيقة الجهات الداعية. ماذا تحقق من هذه التوصيات؟ يتضح بالرجوع الى هذه التوصيات أن الأحوال في مجملها قد بقيت على ما كانت عليه قبل 2001، تاريخ انعقاد المناظرة الأولى. وليس في الأمر من غرابة إذا علمنا أن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، كهيئة رسمية بقيت هي الأخرى وخاصة في نقطها القوية بدون تطبيق. كما أن إسناد مسؤولية المتابعة الى الهيئات الحقوقية (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان والمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف) وكيفما كانت قوة هذه الهيئات، وكيفما كانت الآليات الديمقراطية التي خلصت الى ذلك، تقدير أو إجراء فيه الكثير من الإيحاءات ومن بينها عدم انسجام الهيئات السياسية المشاركة في المناظرة الأولى، بل وضعف إذا لم نقل غياب الرغبة لدى أغلبها في تناول هذا الموضوع بكل ما يستلزمه الأمر من تضحيات وحزم سياسي. والآن ورغم الواقع غير "المتفائل" بخصوص انخراط فعلي للهيئات السياسية في معركة ضحايا القمع السياسي، لا بد من تسمية الأشياء بمسمياتها، أي إحداث فرز في المشهد السياسي، والذي في عمقه سيكون فرزا على قاعدة المصالح الطبقية، من خلال رفع القوى السياسية الجذرية سقف أدائها السياسي وإعادة النظر في التحالفات ومواجهة التحديات بدون أوهام التوافقات المعيقة، بل والمناهضة لأي تطور سياسي من شأنه فتح آفاق التغيير الحقيقي ببلادنا. ولعل ما تستوجبه بعض الخلاصات مثل: "محدودية المدخل الحقوقي" و"الأحوال في مجملها قد بقيت على ما كانت عليه قبل 2001"...، هو في حده الأدنى تنظيم مناظرة سياسية حول ماضي وواقع القمع السياسي، من أجل النظر في نقطة واحدة هي تفعيل توصيات المناظرة الوطنية الأولى، وطبعا على ضوء المستجدات الراهنة. فلم يعد مقبولا بعد كل التضحيات التي قدمها ويقدمها الشعب المغربي أن نكرر نفس "السيناريوهات" التي أبانت عن عجزها عن فك بعض الألغاز السياسية، هذه الأخيرة التي لن تفك إلا سياسيا. والمرحلة في ظل التردي الاقتصادي والاجتماعي والتغييب المستمر للديمقراطية والانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان...، في حاجة الى المبادرات السياسية الجريئة التي قد تساهم في خلخلة الركود السياسي الحالي وفي طرح القضايا الساخنة كأولويات للنقاش والتداول. وأحذر من أن يؤدي المدخل الحقوقي أو المدخل بلبوس حقوقية الى التشويش على توصيات المناظرة الأولى والدخول في متاهات قد تساهم في خلط الأوراق مرة أخرى، وسيكون المستفيد الأول بدون شك هو النظام المغربي ومعسكره الذي يتحرك بخطى حثيثة نحو السيطرة على الحياة السياسية من جديد. ومن الأكيد أن تقدم الفعل السياسي وعلى مختلف الواجهات سيفسح المجال واسعا أمام الفعل الحقوقي وباقي أشكال الفعل النضالية وسيتصدى لهجومات زواحف النظام...