ليس بوسعنا الانحدار إلى سياق ردود الفعل الفجة التي تحيلنا إلى الحروب القديمة وفوضاها، وتستند بشراسة غير معهودة إلى أدبيات " التخوين" الرثة وإطلاق تهم طائشة من فصيلة "المخزنة" أو ما يليها، والتي لا تخفي في الواقع غير بوادر إرادة مبيتة في تكميم الأفواه والتضييق على حرية التعبير والممارسة النقابية و مصادرة حق الاختلاف، ولذلك نعتبر الانسياق وراء هذا المسلك إنما هو تكريس لجدل عقيم وأليم لن يضيف أمرا جديدا على الإطلاق.ما نتوخاه في هذه الإشارات هو محاولة دحض بعض المرتكزات التي يتم الانطلاق منها لتبرير وتسويغ التحول المفاجئ الذي حدث على مستوى نقابة التعليم العالي ببلادنا منذ 03 يونيو 2001، إذ يتبدى أن الأمر في الواقع لا يتعلق بسهو أو خطأ غير مقصود أو حتى خطأ أسود فوق حقل مغمور بالبياض لن يؤثر في طبيعة هويته وكيانه، ولا يريد أن يقول شيئا آخر بعيدا عن خصائصه.وفعل المقارنة بين صيغة القانون الأساسي لنقابة التعليم العالي قبل 03 يونيو 2001 وبعدها، يفيد بإصرار أن مهندس هذا القانون في 03 يونيو 2001 كان يمارس عمله انطلاقا من وعي مسبق وإدراك متميز لما ينتجه ولما ينهض به من مهمات في التوجه بالإطار النقابي إلى إطار الجمعية، وأنه كان محكوما بهذا النزوع، وعمد بموجبه إلى عزل كل العناصر أو المقتضيات التي تحيل للبعد النقابي وتعويضها بالبعد الجمعوي، مهما اكتست العملية نوعا من التعتيم ساهم في تغذية مظهر التمويه على تلك المقتضيات، وهو ما يجعلنا نستشعر بوضوح أن أبرز إفرازات قانون 03 يونيو 2001 هو بناؤه بشكل ماكر وملغوم بإشارات صارخة لإلغاء ونفي المرجعية النقابية للإطار.ودون تردد نقول إن هندسة القانون الأساسي بتلك المواصفات وتلك الصيغة كان الهدف منها هو إفراغ نقابة التعليم العالي من هويتها ونسف دورها التاريخي وسيرورتها النضالية، وقد توفقت الهندسة في أن تمرر معالمها على المؤتمر الاستثنائي وترسم خطا ووعيا جديدا لم يتأت الالتفات إلى خطورة أبعاده ودلالاته آنذاك. وسنحاول في ما يلي عرض بعض أوجه الاختلاف والائتلاف بين صيغتي القانون الأساسي قبل وبعد 03 يونيو 2001 لنقف على طبيعة ونوعية الخلفيات التي تحكمت فيهما، وانعكاساتها على أفق الممارسة النقابية بالجامعة المغربية وذلك عبر هذه النقط:1 في صيغة القانون الأساسي لما قبل يونيو 2001 ينص الفصل الأول على ما يلي :" تأسست طبقا لظهير 19 ذي الحجة 1376 ه، الموافق ل 17 يوليوز 1957 منظمة نقابية..." وفي ما بعد 03 يونيو 2001 تنص المادة الأولى من هذا القانون على الآتي:"تأسست طبقا للظهير الشريف المؤرخ في 3 جمادى الأولى 1378 ه،الموافق ل 15 نونبر 1958 كما تم تغييره وتتميمه بالظهير الشريف المؤرخ في 6 ربيع الأول 1393ه، الموافق ل 10 أبريل 1973 منظمة نقابية.."والمقارنة بين الصيغتين تكشف بوضوح كامل مجرى التحول أو الانقلاب الذي حدث على مستوى المرجعيات القانونية، وليس مستساغا ولا مقبولا ،على ضوء هذا ،القول بأن الأمر يتعلق بخطأ عابر أو سهو طارئ ، إذ أن وجها من الدقة يهيمن على سياق توظيف النصوص القانونية واستثمارها، وسنلاحظ أن الصيغة الأولى تحيل إلى الأساس القانوني لتأسيس النقابات المهنية وهو أمر طبيعي وسليم في هذه الحالة، بينما الصيغة الثانية تتجاوز وتتجاهل هذا الأفق إلى الأساس القانوني لتأسيس الجمعيات، وإضافة عبارة كما تم تغييره وتتميمه بظهير 10 أبريل 1973 لا تخلو من دلالة قاطعة في هذا الشأن. فهل يمكن أن يصل السهو إلى هذا المستوى من الخلط وعدم التمييز؟ إن وجهة الانقلاب على صعيد آخر يمكن التأكد من حضورها عبر توظيف كلمة "الظهير" ففي الإحالة إلى المرجعية النقابية توظف لفظة الظهير حافية غير مقرونة بصفة " الشريف"، بينما في الصيغة الثانية يتم التشديد على صفة " الشريف" مرتين، ويتم احترام نصية وحرفية المرجعية القانونية بما يحيل إلى بوادر التعبير عن طقوس الولاء والمهادنة، عكس ما يمكن أن توحي به الصيغة الأولى. وهذه الخطوة الأولى في المادة الأولى من الصيغة الثانية للقانون تفتح الباب أمام القول إن إرادة الفكاك أو الخلاص من المرجعية النقابية والإطار النقابي أكيدة وثابتة، ولا يشفع السياق في إخفائها أو التستر على آثارها. 2 في الباب الأول من صيغة القانون الأساسي قبل 03 يونيو 2001 يكون العنوان:" الأهداف والأسس والانتماء"، غير أن هذا العنوان في صيغة ما بعد يونيو 2001 تختزل في صيغة مغايرة هي:"الأسس و الأهداف" ويتم الاستغناء عن لفظة (الانتماء). وإلغاء أو إبعاد هذه اللفظة ليس بريئا تماما ما دامت حمولتها الدلالية تحيل إلى الحقل الفكري و السياسي والأيديولوجي، ففعل الانتماء يضفي على المنتمي هوية خاصة وطنية وفكرية وسياسية وأيديولوجي ونضالية، هي ما يوجه في النهاية اختيارات ومواقف النقابة، ويحدد موقعها في معترك الصراع الاجتماعي بكل مستوياته. وهروب صيغة ما بعد يونيو 2001 من تحديد الانتماء يعني هروبا مبيتا من الوجود النقابي والتحلل من كل مسؤولية أو قناعة تمت لهذا الوجود بصلة من الصلات. وهنا يولد شكل آخر من أشكال خذلان التقاليد النضالية للنقابة ، ليتم القذف بها في هاوية إطار بدون انتماء.3 في خانة الأهداف التي يحددها الفصل الثاني الباب الأول من القانون الأساسي قبل يونيو 2001 يتم رسم ستة أهداف تتحول إلى خمس في نص ما بعد يونيو 2001 ( المادة 04 ) ويتم إدخال تغييرات وتعديلات جوهرية على عمق هذه الأهداف، فالهدف المرتب ثانيا في الصيغة الأولى مثلا هو كالآتي:" العمل من أجل استقلال وتوحيد مؤسسات التعليم العالي ودمقرطة هياكلها لتلعب الدور المنوط بها في المجال العلمي ومن أجل إعداد الأطر الوطنية الكفأة لضمان التحرر الوطني"، غير أنه في الصيغة الثانية يصبح كالآتي:" العمل من أجل استقلال وتوحيد مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي ودمقرطة هياكلها لتلعب الدور المنوط بها في التنمية الشاملة لبلادنا". ويتم وفقا لهذا التغيير تجاوز إيقاع وأثر وشحنة عبارة " إعداد الأطر الوطنية لضمان التحرر الوطني" وتغييب دلالاتها، وهو اختيار يدعم عملية استئصال خانة الانتماء من سياقات هوية النقابة وحقيقتها ليتم تجريدها من كل عناصر وشروط وجودها الكامل، وتوظيف عبارة التنمية الشاملة لبلادنا لا يقودنا إلا إلى إدراك النقابة كفاعل جمعوي أو جمعية تساهم في تطوير اقتصاد البلاد عن طريق مبادراتها في مجال التنمية، ومحاربة الفقر والهشاشة وما إلى ذلك. هل يكون هذا الحرص المتألق في استثمار الألفاظ والدلالات مجرد سهو أيضا لا يحمل أية إشارات لإخراج المنظمة النقابية من سياقها الفعلي وإعطائها هوية جديدة، وعنوانا جديدا ومهام وأدوارا جديدة..أما الهدف الرابع في الصيغة الأولى فيحدد كما يلي:"توسيع مجال البحث العلمي والرفع من مستواه والجعل من الجامعات المغربية ومؤسسات التعليم العالي أداة فعالة لتقدم بلادنا وتحويل المجتمع المغربي على أسس ديمقراطية وتقدمية." وفي صيغة ما بعد 03 يونيو 2001 تغدو الصياغة مبتسرة وملتبسة وتأخذ هذا الشكل الفضفاض:" توسيع مجال البحث العلمي والرفع من مستواه"، ويتم التضحية بكل ما يرتبط بسياقات هذا الهدف، لسبب وحيد هو أن هذه السياقات المتممة ترشح بكثير من أبعاد الانتماء والاعتزاز بقيم المواطنة والانخراط في معركة التغيير الاجتماعي الممكن وتحويل المجتمع المغربي على أسس ديمقراطية وتقدمية، وهو ما يضع النقابة في موقعها الحقيقي والطبيعي. ولأن هذا العبء بدا ثقيلا ومزعجا لمهندس قانون 03 يونيو 2001 فقد تم إسقاطه وحذفه ليكون الإطار الجديد في حل من أمر اتخاذ أية مواقف لها أبعاد وتداعيات اجتماعية وسياسية وثقافية ووطنية.في هذا الإطار ذاته تم إلغاء الهدف الخامس في صيغة ما قبل 03 يونيو 2001 وهو :" بلورة ثقافة وطنية تقدمية أصيلة تكون أداة للتحرير وحفظ كيانها الثقافي"، حيث لا نجدله أثرا في صيغة ما بعد 2001، وهنا تتجلى كذلك مظاهر التراجع الخطير لنقابة التعليم العالي والإرادة المبيتة في تدجينها وجعلها هيكلا فارغا يلامس موته وخواءه في مواجهة القضايا المطلبية للأساتذة الباحثين.إن المتغيرات التي ألحقت بأهداف النقابة تعني في جوهرها موقفا محددا ورحلة إلى أقصى نقطة للابتعاد عن الإطار النقابي واستحضار مواصفات جمعية تغزو الإطار وتبتلع تاريخه، فما الذي يبرر محاولات الانعتاق والتحرر من كل القيم ذات البعد السياسي والنضالي والتقدمي في هوية النقابة وتقويضها، والمخاطرة بالاحتماء بظلال جمعية ستشكل خط التراجع الرهيب في مسار التاريخ النضالي المشرق للنقابة.4 في الفصل الثالث من صيغة ما قبل 03 يونيو 2001 وفي الفقرة الثانية منه يتم التنصيص أن على النقابة أن تسعى إلى وحدة نضالية للصف النقابي في بلادنا على أساس "المصلحة الفعلية للطبقة العاملة وسائر المأجورين" ويتم الاحتفاظ بهذه الفقرة في صيغة ما بعد يونيو 2001 غير أن آلية التغيير تطال لفظة "الطبقة العاملة" التي عوضت ب"الشغيلة" وهو إجراء تحويلي لا يحتاج إل تعليق، إذ أن لفظة الطبقة العاملة مخيفة ومرعبة وتحيل إلى قاموس وأدبيات توجه فكري وأيديولوجي وسياسي معلوم، لذلك تم الانقلاب عليها وتقديم الشغيلة قربانا وعربونا للولاءات الجديدة المحتملة، فهي على الأقل لفظة خفيفة الظل وليس في قعرها الدلالي ترسبات أو معاني ثورية أو نضالية يمكن أن تفسد خيوط الود الذي تبحث عنه النقابة في ثوبها الجمعوي المدني الجديد.5 تتضح أكثر معالم الاشتغال على إطار " الجمعية" في باب العضوية، ففي الفصل الخامس من الباب الثاني في صيغة ما قبل يونيو 2001 يتم تحديد العضوية بناء على ثلاثة عناصر: المصادقة على القانون الأساسي.. وتأدية واجب الاشتراك والالتزام بتنفيذ قرارات المنظمة..، وفي صيغة ما بعد يونيو 2001 يتم تغيير العنصر الثاني ليصبح هكذا "تأدية واجب الانخراط"( المادة الخامسة من الباب الثاني ).وقد يبدو الأمر عاديا وطبيعيا، ولا يتعدى وضع لفظة محل أخرى معادلة ومرادفة ومطابقة لها في الدلالة، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالمرجعيات القانونية تضع حدودا بين لفظتي "الاشتراك" و"الانخراط" فظهير 15 نونبر 1958 الذي ينظم حق تأسيس الجمعيات ينص في الفصل السادس على ما يلي:"كل جمعية مصرح بها بصفة قانونية يسوغ لها بدون إذن خاص أن تترافع أمام المحاكم وأن تقتني بعوض وتمتلك وتتصرف فيما سيذكر ما عدا الإعانات العمومية: 1 واجبات انخراط أعضائها..." وهو ما يؤكد بوضوح ما بعده وضوح أن توظيف(واجب الانخراط) إنما يحيل إلى الجمعية وليس إلى النقابة، إذ أن ظهير 16 يوليوز1957 بشأن النقابات المهنية في الفصل الثامن منه يوظف"واجب الاشتراك" ( الفقرة الأولى والثانية). ويتأكد عبر هذه المتغيرات التعبيرية أن قانون ما بعد 03 يونيو 2001 وفي الوفاء المطلق لإطار الجمعية، وحريص بكل احتراز على التوظيف السليم لكل المصطلحات أو الألفاظ القانونية التي نصت عليها المقتضيات التشريعية المتعلقة بتأسيس الجمعيات، والقفز من "الاشتراك" إلى " الانخراط" يؤكد أن هذا هو جوهر وحقيقة الإطار الذي خلق انطلاقا من يونيو 2001.هذا ما يتم اعتماده كذلك في باب مالية النقابة الوطنية للتعليم العالي، ففي صيغة ما قبل 03 يونيو 2001 (الباب الخامس. الفصل الثاني والثلاثون) يتم التنصيص أن مداخيل النقابة.و.ت.ع. تتكون من " الاشتراكات التي يؤديها المنخرطون، ومردود الأنشطة الثقافية التي يمكن أن تقوم بها المنظمة" وهذا التزام بحدود المرجعية النقابية، غير أن هذه المادة تتعرض لتغيير جذري في صيغة قانون ما بعد 03 يونيو 2001 ( الباب السابع. المادة49) التي تنص أن مداخيل النقابة تتكون من :"الانخراطات التي يؤديها المنخرطون، وموارد الأنشطة الثقافية، والإمدادات التي تقدمها السلطات العمومية، وكل الإمدادات التي لا يمنعها القانون".وبلا عناء فإن الصيغة هنا تحيل إلى إطار الجمعيات وليس النقابات إذ علاوة على توظيف لفظة " الانخراطات" يتم تدعيم باب موارد المالية بعناصر جديدة هي الإمدادات التي تقدمها السلطات العمومية والتي لا يمنعها القانون، وفي النصوص القانونية المتصلة بإطار النقابات المهنية لا نجد أثرا لأية إعانات أو إمدادات تقدمها السلطات العمومية، أو لا يمنعها القانون يمكن أن تتلقاها النقابات، فالفصول 11 و12 و 13 و 14 و 15 و16 و17 من ظهير 16 يوليوز 1957 لا تشير من قريب أو بعيد إلى أي من هذه الإمدادات، وهذا ما يعني أن الإطار المصوغ هنا ليس نقابة وإنما جمعية، إذ أن الفصل السادس من ظهير 15 نونبر 1958 هو الذي يشير إلى "الإعانات العمومية" ومنها اشتقت عبارة الإمدادات التي وظفت في الصيغة الجديدة للقانون الأساسي.6 يسود بالمناسبة منطق التباكي على وحدة رجال التعليم بشكل درامي، وهو لا يعدو أن يكون إجراء يغذي صيغ التعلق الساذج ببعض القيم المجردة التي تظل مجرد طلاء زخرفي لا ستدرار العطف، ويكفي أن نشير على سبيل المثال أن من بين مهام المكتب الوطني للنقابة.و.ت.ع. في صيغة ما قبل 03 يونيو 2001 كما يحددها الفصل الثاني عشر. (الباب الثالث):"اتخاذ التدابير اللازمة لتوسيع رقعة التنظيم وضمان وحدة رجال التعليم العالي" وقد تم إدخال تغيير على هذه المهمة في قانون ما بعد يونيو 2001 حيث اتخذ الشكل الآتي ( المادة 12 ):"اتخاذ التدابير اللازمة لتوسيع رقعة التنظيم والسهر على السير العادي لمختلف هياكل النقابة" حيث تم الاستغناء عن "ضمان وحدة رجال التعليم العالي" والتراجع عنها، وهو ما قد يفسر خيارات التجزيء والميز وضرب الأساتذة الباحثين بعضهم بالبعض، التي عالج بها المكتب الوطني قضايا الملف المطلبي خلال السنوات الأخيرة. الحصيلة أن قانون 03 يونيو 2001 يضعنا في كليته وبكل بنوده في إطار صريح هو إطار الجمعية، ويلغي من حسابه إطار النقابة تماما، وقد برع في تقنية التمويه وأبدع بمهارة نادرة في أن يلبس الجمعية لباسا نقابيا ويضعها موضعها، وهو أمر لا غبار عليه، وإنكار هذه الحقيقة ضرب من التمادي في الغي ومحاولة تغطية الشمس بالغربال. إعداد: زهير موين. كلية العلوم والتقنيات. بني ملال.