«وضرب بعض الحكماء مثلا للشهوة والعشق فقال : هما كالنحل يستميل القلوب بحلاوة عسله وربما قتل بسمه ، وذلك لأن الإنسان إما ذو عقل ملكي يتعقل الأشياء فينز جر أو نفس شهوانية ترى اللذات فتنهمك ،ومن ثم إذا وقع عن صدق جعل المتحابين كنفس واحدة» - داود الأنطاكي في : (تزيين الأسواق في أخبار العشاق ) الخبر الذي تناقله الإعلام المغربي حول زواج الرجال بالولي الصالح سيدي علي بنحمدوش بالمغرب ،يضعني مرة أخرى أمام المساءلة والبحث عن فهم معقول لأبعاد هذه الظاهرة الاجتماعية . الحكاية وما فيها هي أن مجموعة من المثليين اختاروا ضريح سيدي علي بن حمدوش الذي يقع عن بعد 30 كلم من مدينة مكناس، حيث يحج المغاربة للاحتفال بعيد المولد النبوي ،من أجل ممارسة طقوس مثلية والاحتفال بزواج رجلين . فالحدث يعد في عرف العديد متناقضا مع المقام المقدس ،بل دفع هذا الأمر المشرفين على الوالي إلى شجب هذه الممارسات نظرا لتاريخ الولي سيدي علي بن حمدوش الديني والصوفي ، لكن بين ما يقال و ما يمارس تكمن القضية! قد يكون الإقدام على طرح الهوامش الجنسية ضربا من المجازفة كما يقول الباحث مالك شابل ،لكن حب المغامرة وفضول البحث لهتك ستار الطابو يظل حافزا لبسط الرؤية على فضاء مقدس كسيدي علي بن حمدوش و مجال الجنس كتصور اجتماعي يتحكم فيه التراث الإسلامي بصفة عامة والذي لا يزال يشكل ألانا الأعلى للمجتمع . وبما أن المجال الجنسي محاط بكثير من الصمت المطلق ومعرض للردم والإلغاء كما يمارس في سرية مستمرة، بغض النظر عن تطور العقليات، والحركية الاجتماعية المواكبة لها.، فإن الظواهر مثل زواج الرجال بالولي المذكور تصبح متداولة و منتشرة بشكل أغرب من الظاهرة نفسها. ظاهرة المثليين أو ممارسة الجنس المماثل تستدعي الفهم من عدة أبعاد نفسية و اجتماعية و بيولوجية ...حتى تكون المقاربة شمولية. فالجنس المثلي وكما عبرت عن ذلك أكثر من مرة ،ظاهرة قديمة تفرض مقاربة بعيدة عن منطق الإبعاد و الإقصاء الذي لا يزيد إلا الطين بلة . التاريخ البشري، حسب الباحث إبراهيم محمود، يشهد بأن اللواط (الجنس المماثل )أقدم من الكتابة عنه، لأن العلاقات الجنسية يصعب الإلمام بها إن لم يكن ذلك مستحيلا. ولعل مجرد دخول هذه القارة المحرمة أحيانا و المسكوت عنها أحيانا أخرى، يعد ضربا من ضروب المغامرة المحفوفة بالكثير من المخاطر في ظل عقلية متجذرة تريد تسييد الممنوع وتوسيع رقعته، وهذا ينسجم أولا مع منطق المتعة التي يعتبرها رولان بارث غير قابلة لأن تقال indicible ، وثانيا مع فكرة المحلل النفسي جان لا كان الذي يؤطر المتعة بأنها محظورة على من يتكلم بكونه متكلما أو أنها لا يمكن أن تقال إلا فيما بين السطور. ومن أجل فهم ظاهرة انتشار الجنس المماثل بالمغرب ، لابد من التسلح بمنهجية تقطع أولا مع منطق المحظور وتعمل ثانيا على النبش التاريخي في مثل هذه الهوامش المرتبطة بالفضاء الاجتماعي للمتع والحاضرة تاريخيا منذ ما قبل مأدبة أفلاطون إلى ميشيل فوكو مرورا بالشيخ النفزاوي ، التيفاشي ، سيبويه و الشروحات و غيرها. البداية تنطلق من مساءلتنا اللغوية التي تحاول رفع الالتباس على بعض الأمور. فمنذ عقد من الزمن كانت وسائل الإعلام و جل المؤسسات العربية تنعت المثلي بالشاذ جنسيا، والذي لا يقاس عليه كما يقول الفقهاء. هذا التحديد التمييزي ينبذ المثلي ويحرمه من التواجد اجتماعيا بل يمارس عليه عقابا جمعيا بكل أنواعه مما يجعله خارج عن نظام المواطنة . وبما أن اللغة باختلاف معانيها وتعدد استعمالاتها تعتبر دالة على هوية الإنسان، فإن نعت شخص معين بالشاذ جنسيا، يعني أنه خارج النظام الجنسي داخل مجتمع معين، لكن تغير لفظة الشاذ بالمثلي حاليا يعد تحولا لغويا و سوسيولوجيا له مبرراته الحقوقية و السياسية. فمفهوم اللواط حضر مثلا في الأدبيات اليونانية، ولعل ميل الذكر لمثيله ،يعبر في رأي إبراهيم محمود ،عن عنصرية ذكورية مميزة في صفاتها الخَلقية و الخُلقية .فاللواط كنعت و كلفظ تداولته الألسن قسرا بالتكرار في إطار القاموس الديني ،ارتبط بقصة قوم لوط التي جاءت في التوراة قبل أن ترد في النص القرآني. هذا الأمر يستحضر بالضرورة ذلك التداخل الحاصل بين اللغة كمجال للتعبير و البنية الاجتماعية كفضاء للممارسة. فالفرق موجود بين اللواط كتأويل فقهي لقصة دينية و المعنى المتعلق بفعل لاط ، أي كأن نقول: لاط الحوض بالطين لوطا أي طينه وألتطاه. أما السحاق فعلاقته بفعل السحق تعري عنفه المغيب أو كما يقرأه البعض برجولة منزوعة القضيب. إن هذه الدلالات و أخرى قادرة على رسم حقيقة الالتباس الموجود بين ثلاثي اللغة، التفكير و المجتمع، ليكون من بين نتائجه التركيز في القراءة على تأويل ديني من بين تأويلات أخرى أكثر من الاعتماد موضوعيا على التحليل اللغوي التاريخي. فالرجوع إلى قراءات النص الديني عند الفقهاء و اللغويين كسيبويه ( خاصة الآية الموجودة بسورة البقرة والتي أسالت الكثير من الحبر:- نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم-) يعد كافيا لتقديم المعنى الشافي المبني على التعدد وليس على الأحادية و إن ذلك كان نسبيا. أما إذا انتقلنا إلى التحليل السوسيوسياسي لظاهرة المثليين في دول العالم العربي الإسلامي، فنلاحظ مثلا أن تحركات هذه الفئة الاجتماعية بدأت تطفو عل السطح من خلال حضورها بعدد من المراكز و المواقع الخاصة التي تحتضن أنصار الجنس المماثل، مثلا مقاهي، نوادي، أحياء و مواقع إلكترونية...إلخ بالرغم من كل الرقابة السياسية و الاجتماعية التي تطوق فعلهم اليومي. فالفاعلين الذين يدافعون عن المثليين يحاولون الخروج أكثر للتعبير عن ذواتهم بعيدا عن التكتم و الخوف من العقاب. والفهم العميق لهذا التحول ،يفترض أساسا الاستغناء عن لغة التحريم و التجريم التي أسست ولقرون عديدة ثقافة تجهيلية و إقصائية تكرس اللامبالاة والتهميش . لذلك، فكل الظواهر في عرف العلماء قابلة للقياس و التحليل من خلال مقاربات علمية دقيقة يمارسها المختصون ووسائل الإعلام في محيط سليم تغيب فيه الوصاية و أشكال الرقابة غير المسئولة داخل المجتمع.المثليون يمثلون حركة اجتماعية منذ عقود من الزمن ، أبينا أم كرهنا، تساهم وتؤثر في النسيج الاجتماعي من خلال فعلها السري و الظاهر، المادي و الرمزي الهادف إلى الإفلات من قبضة الإكراه. فحادثة سيدي علي بن حمدوش تؤكد بالملموس أن الفاعلين في هذه الحركة يدافعون تحت الطاولة و في أماكن تحقق حرية من نوع خاص عن حقهم في ممارسة الجنس المماثل و في الاستفادة من كل الحقوق التي يتمتع بها المواطن في إطار المساواة بين الجميع بل المشاركة في المؤسسات الاجتماعية و الدينية كمؤسسة الزواج. إنه انتصار رمزي للحركة المثلية إذا أخدنا بعين الاعتبار التسلسل الزمني للأحداث المطبوعة بزحف وبشكل ملفت للنظر للمثليين في العديد من البلدان العربية و الإسلامية، وهذا يضمر عدة أبعاد متعددة تستحق التحليل. المثليون يشكلون قوة اجتماعية تفرض على الحكومات العديد من التنازلات كما وقع بكندا و هولندا و غيرها من البلدان. إنهم تحولوا في الكثير من الحالات إلى ما يشبه اللوبي السياسي الضاغط الذي يمارس الصراع الاجتماعي بنفس منطق الحركات الاجتماعية والإيديولوجية الأخرى. ولذلك فوجوب التفحص في الأمور ضروري لسبر أغوار معاني هذا التوجه في إطار قراءة علمية و تاريخية تتوخى رصد الخلفيات والمرامي التي تؤسسها. أما في بلد كالمغرب، حيث المنظومة الاجتماعية والتاريخية و الدينية مختلفة، فالأمر يدفع إلى الكثير من الحيطة والحذر. المجتمع المغربي أصبح يعج بالكثير من الظواهر المتعددة والتي لا تكشف سوى عن أمراضه التي تنخر كيانه يوميا. و بما أن الغرابة هي سمة الظاهرة و خاصيتها الأساسية ، فإن هذا الوضع يدعو للتأمل. حكاية سيدي علي بن حمدوش يجب أن تفكَّك بعناية حتى نعري خلفيات المكان المقدس و أبعاده المدنسة . فالأولياء كانت و ما زالت تخدم السياسي و الاجتماعي، أما اليوم فقد أمست مجالا لممارسات جنسية يحرمها المجتمع و القانون. يعتبر ضريح سيدي علي بن حمدوش فضاء لممارسات ثقافية استثنائية وبالتالي فهي تخدم الفاعلين في هذه الظاهرة الجنسية. إن هذه التوطئة المقتضبة تريد القول بضرورة المعالجة العلمية لوضعية المثليين بالمغرب بنفس الطريقة التي يمكن من خلالها التعامل مع ظواهر مغايرة من حيث الطبيعة والدلالة كالدعارة، أطفال الشوارع و المحذرات الإرهاب ، الانتحار ، وغيرها، لأن ترك الظواهر كمسكوت عنها أو كمحرمة، لا يطالها الباحث والصحافي وغيره، يساهم في إنتاج آليات جديدة للانتشار و بالتالي تشكيل صوت اجتماعي جديد قد يعصف بالتوازن العام. إنها حالة مثيرة و تساهم في إنتاج القوالب و الأحكام الجاهزة و تضخيم الانا الأعلى التحريمية . وهذا يذكِّرني بما خلفه نشر مقال كتبته عن المثليين عندما كنت مقيما بكندا، حيث اعتبرني العديد من العرب مدافعا عن المثليين و محرضا على الفساد...وغيرها من النعوت التي لا تكشف إلا عن عقلية مازالت تقدس مواقف التحريم و الزجر و العنف الرمزي و المادي وهي متجذرة داخل المجتمعات العربية. هذه الأخيرة، ما زالت غير مستعدة لممارسة النقد على ذاتها عن طريق تشريح الجسد العربي و معرفة مكامن قوته و ضعفه بعيدا عن لغة الضحية و التستر وممارسة الانفصام اليومي. و بما أن الأنظمة العربية لا تهتم بمجال البحث العلمي فإن بديلها الآني هو استغناءها عن فهم الظواهر و تعويضها ذلك بالزجر و التبرير و محاولة الهروب إلى الأمام وترك الهوامش الاستثنائية دون معالجة شمولية للظواهر. فمجرد نظرة بسيطة للميزانيات المخصصة للبحث العلمي في بلداننا العربية كافية لتقديم دلالة واضحة عن البنية التحتية العلمية و دورها في التنمية الاجتماعية. وفي هذا السياق، يكفي أن نصل إلى حقيقة مفادها أن ما تنتجه أسبانيا من كتب علمية كل عام يفوق بكثير إنتاج كل الدول العربية مجتمعة لكي نستشف طبيعة المستقبل الذي ينتظر المجتمعات العربية.عموما، المهم ليس أن نتحدث عن تحريم اللواط أو الجنس المماثل أو الانزلاق وراء حكاية سيدي علي بن حمدوش ،بل الأهم هو الإقرار بالحضور الأزلي لتاريخ متعة محظورة بالفعل و القوة ،يستوجب التعامل معه بحس علمي و نقدي عوضا عن المنع والإكراه...و الذي لا يغذي سوى ما تبنيه مقولة : كل ممنوع مرغوب فيه . فالماضي يهدد الحاضر والمستقبل وعلينا أن نستحضر هذا الأمر في علاقتنا بالعالم.