هيمنت في الآونة الأخيرة على بعض أدبيات النقابة الوطنية للتعليم العالي صيغ إحالات إلى برزخ مقررات المؤتمر الثامن الذي انعقد أوائل شهر أبريل 2004، بشكل مشحون بإصرار صريح على رغبة الاحتماء بظلال هذه المقررات، والإستراتيجية التي رسمها المؤتمر لمواجهة تحديات التعليم العالي وقضايا الأساتذة الباحثين ببلادنا. وشكل الإحالة والإصرار المصاحب لها ذو أبعاد مضمرة وبارزة، لا تخلو من إسقاطات أو خلفيات ذات إيقاع سياسي، تحاول أن ترهن أفق النقابة الوطنية للتعليم العالي في نفق مسدود أو سياق محدد يوجه نبضها الفاعل وخفقانها المتنامي، ويستهدف كبح جماح حركيتها أو تطلعاتها النضالية، والعودة بها إلى منطقة الركود والجمود. وهي لهذا تستعير ثقل الآلية التنظيمية الحزبية المعروفة بالمركزية الديمقراطية التي تضمن صفة القداسة والإلزام المطلق لقرارات الهيئات العليا، والمؤتمر حسب الفصل الثلاثين من القانون الأساسي ل. ن. و. ت .ع . يعتبر الهيئة العليا، وقرارته ملزمة للجميع حسب ما ينص عليه الفصل الواحد والثلاثون. وكان من الممكن ألا تثيرنا هذه الإحالات لولا أنها تخبئ الكثير من الدلالات أو المواقف تحت سقف كلماتها وإيحاءاتها، وقد لا حظنا أن التلويح بضرورة الانضباط للمقررات المشار إليها إنما يوظف حين يتعلق الأمر بمطالب الأساتذة الباحثين حاملي دبلوم الدراسات العليا وما يعادله، وهذا أصل الغرابة في منحى هذه الإحالة، ولو أنها بدهية في سياق التطورات والمتغيرات التي شهدتها أوضاع التعليم العالي والأساتذة الباحثين خلال السنوات الأخيرة، وبعد المؤتمر، جراء إكراهات الإصلاح البيداغوجي وما واكبه من تداعيات وانعكاسات سلبية على العموم، كان لها أثرها العميق في ميلاد ما يمكن أن نسميه فقدان السيطرة على مستقبل الجامعة المغربية، واقتيادها إلى هاوية لا قرار لها ، مهما كانت الأقنعة التي تسندها. وهو ما يعني بشكل أو آخر أن النقابة وأجهزتها القيادية تواجه ضغط هذه المقررات، وإلا ما معنى هذا التكثيف في اتجاه تقديسها، وكأن الأمر يتعلق بتنظيم حزبي سياسي، بينما الأمر يهم إطارا نقابيا تنمو تفاعلاته عبر مخاضات سيرورة لا تتوقف، وفي كل مرحلة منها تنضاف مطالب جديدة إلى المطالب التقليدية القديمة، لأن هذه المطالب في النهاية جزء من بنية التطور والصراع المحتمل، والتناقضات التي تنشأ في ظل الظروف والإمكانيات المتجددة لشروط وعمل الأساتذة الباحثين، مما يعني أن حركية الوقائع والأحداث أقوى من مقررات مؤتمر أنجز في ظرف معين وفي لحظة معينة وفي مرحلة معينة وبحسابات سياسية معينة ، وموازين قوى معينة، وليس لها بطبيعتها أي بعد إطلاقي أو شمولي،كما أن مدلولاتها ليست بالمرة نهائية أو مغلقة.وبالمناسبة سنقف وقفة عابرة عند هذه المقررات لنكتشف آمالها وآلامها، وننزع الحجاب عما تخبئه بعض الإحالات المتعمدة إلى فضاءاتها. وكما هو معروف فإن تأطير مقررات المؤتمر الثامن تم عبر لجان هي: لجنة تتبع الإصلاح، ولجنة إصلاح وهيكلة البحث العلمي، ولجنة الملف المطلبي، ولجنة المؤسسات غير التابعة للجامعة، وقد وضعت اللجنة الأولى ما مجموعه خمسة عشر (15) مقررا، أربعة منها تخص الهياكل الجامعية، والباقي (11) تهم الإصلاح البيداغوجي. أما اللجنة الثانية فقد صاغت أربعة وأربعين (44) مقررا، تتعلق سبعة عشر منها (17) بمسألة هيكلة البحث العلمي، وخمسة عشر ( 15)منها بمسألة تمويل البحث العلمي، واثنا عشر (12) منها تهم مساهمة مؤسسات وهياكل البحث العلمي في تطوير التكوين العلمي والبيداغوجي. أما الثالثة فقد صاغت واحدا وثلاثين (31) مقررا ، مقرران (02) منها يهمان ما سمي بالقضايا المستعجلة، وتسع (9) مقررات تهم قضايا الحيف الضاغطة كما وصفت، وثمانية عشر (18 ) منها تهم القضايا المطلبية، بهذه الصيغة التعميمية، ومقرران (02) يهمان المطالب الاجتماعية. أما لجنة المؤسسات غير التابعة للجامعة فقد صاغت أربعة وعشرين (24) مقررا، ثمانية منها تهم الآفاق المستقبلية لمؤسسات تكوين الأطر، وستة عشر (16 ) منها تتعلق بمطالب أساتذة مؤسسات تكوين الأطر.. وعليه يكون مجموع المقررات الإجمالي هو حوالي مائة وأربعة عشر (114) مقررا، وهي مقررات لا نشك في أنها تشكل إطارا عمليا وموضوعيا لا ستيعاب قضايا الأساتذة الباحثين واحتواء وبلورة معظم انشغالاتهم العلمية والتربوية والأكاديمية. غير أن قراءة عابرة لنشاطات الأجهزة النقابية العليا وأدائها تصدمنا بقوة لأن هذه المقررات ظلت حبرا وحكرا على الورق، ولم تتجاوز مرحلة الكمون، لترتفع إلى خط ومستوى الممارسة عن طريق تطوير أبعادها وتحيين متضمناتها، والنضال من أجل تحقيقها وترسيخها كمكاسب أساسية للأساتذة الباحثين، يظهر هذا من أن محور عمل وتحرك الأجهزة النقابية لم يتجاوز نقطا مطلبية محددة ومعدودة، معزولة بصفة انتقائية تترجم نزوعا واضحا لاصطفائها والخروج بها من دائرة المصالح المشتركة.ويتعلق الأمر بالنقطة الأولى من القضايا المستعجلة التي تتعلق "بالتعجيل بمواصلة الحوار الجاري من أجل التسوية النهائية لوضعية الأساتذة الباحثين حاملي الدكتوراه الفرنسية المعينين بموجب النظام الأساسي ل 17 أكتوبر 1975، وفقا لمقررات المؤتمرين السادس والسابع ، وبإشراك اللجنة الوظيفية المكلفة بالملف"، ويغيب من السياق تماما معيار إضفاء صفة الاستعجال على هذه النقطة، غير أن استحضار أجواء التوتر التي سادت المؤتمر ولعبت دورا محوريا في توجيه اختياراته، قد يسعفنا لإدراك دلالة ومغزى توظيف الاستعجال في هذه المسألة بالذات، وتستوقفنا فيها أيضا صيغة " التسوية النهائية" إذ هي عبارة ملتبسة وملتوية وتتولد عنها تشظيات دلالية متباينة ، نفقد في سياقها أية دلائل هادية أو مضيئة بمقدورها أن ترسو بنا على مقتضيات أو إجراءات ملموسة تجسد حقيقة هذه التسوية، وطبيعتها الفعلية، وهو ما يعني أن مقررات المؤتمر في الواقع اعتمدت أسلوب "الغابة التي تخفي الشجرة" وانساقت مع مطالب فضفاضة تتكئ على بعد تجريدي معتم يحتمل سيلا من التأويلات لا تنتهي. وهنا لابد أن نتوقف لنقول إن إرادة انتقاء هذا المطلب وصياغته بشكل معزول عن الإطار الشمولي لقضايا الأساتذة الباحثين، تعبر بقوة عن هذا الجنوح الذي كرسته مقررات المؤتمر الثامن للبحث في القضايا الجزئية بدل القضايا الكلية التي من شأنها أن توحد حركة الفعل النقابي ونضالات الأساتذة الباحثين. الأدهى أن النقطة الثانية المدرجة في خانة المستعجلات وهي المتعلقة بإعادة النظر في بعض مواد القانون00.01 ظلت منسية تماما وكأنما وضعت وهي تحتوي بذرة موتها أو انمحائها، على الرغم من أنها قضية جوهرية وذات طابع شمولي، وكان أولى لها أن تتصدر القضايا الاستعجالية، ولكن حظها وحسابات المؤتمر المعلومة قدرت لها أن تتأخر وتحجبها قضية جزئية .أما في باب قضايا الحيف الضاغطة فإن عمل الأجهزة النقابية القائدة اتجه بحذر شديد ومضاعف إلى نقطة واحدة ، الأولى في قائمة هذه القضايا وهي" رفع الضرر عن حملة دكتوراه السلك الثالث أو ما يعادلها، المعينين في إطار النظام الأساسي 1975، وذلك باسترجاعهم لسنوات الأقدمية عند إفراغهم في إطار النظام الأساسي ل 19 فبراير 1997، والسهر على تكوين لجنة وظيفية تنكب باستعجال على مشاكل هذه الفئة"، وسنلاحظ هنا، مقارنة مع النقطة السالفة، تحولات اللغة المفاجئة التي تنحو نحو تشخيص محدد للقضية والتنصيص على الحل ووجه الخلاص المتضمن استرجاع سنوات الأقدمية، ولا يشكل هذا الاختيار في واقع الأمر غير انزلاق آخر نحو مخاطر اختلاق قضايا جزئية للاحتماء بها وبإغراءاتها، والاختباء تحت إبطها، وسنلاحظ كذلك مظهر انفلات اللغة بين القضيتين، حيث يتم تجاهل القواسم المشتركة الجامعة والموحدة للقضيتين معا، فالتخصيص في القضية الاستعجالية تم مع قرينة التعيين بموجب النظام الأساسي 1975، والأمر كذلك بالنسبة لقضية الحيف الضاغطة، ولكن مع إضافة قيمة " الإفراغ في إطار النظام الأساسي ل 19 فبراير 1997، وهي الخاصية التي لم توظف في الصيغة الأولى ربما عن قصد. وهذا التمايز المصطنع عبر معايير التصنيف المعتمدة رسخ الوهم السائد بالانفصال أو الانفصام التام بين النقطتين، أو أنهما على طرفي نقيض، مع أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، إذ أن الأساتذة الباحثين في كلا القضيتين أو الموقعين، معينون جميعا بموجب النظام الأساسي 1975، و 1985 المتمم والمغير له، وخضعوا جميعهم لعملية إفراغ وإعادة إدماج في إطار النظام الأساسي 1997، أي أن قضيتهم واحدة، والمطالب التي تخصهم ينبغي أن تكون مشتركة وموحدة بفعل ترابطاتها وتشابكات كثير من مقتضياتها، ولا شيء يستوجب الفصل أو العزل بهذا الشكل المريب، مما يعني أن الموقف في الحقيقة ينبغي أن يتسامى ويعلو على منطق التعلق بالجزئيات ، والاشتغال على الأشلاء، وأن يتصدى لمجمل القضايا في شموليتها بما يخدم مصالح الأساتذة الباحثين كيفما كانت مواقعهم، وإلا ستغدو النقابة ضحية لكي لا نقول فريسة تتنازعها جيوب مصالح صغيرة تقتنص مواقع معينة للضغط في اتجاه سوقها إلى دوامة الدوران في حلقات ضيقة مفرغة، تقود العمل النقابي في أنبل وأسمى صوره إلى حتفه.إن الفصل بين القضيتين مفتعل وعسفي وغير سليم تماما، فالمشكلة واحدة وإن كانت لها ضفتان، وأي خطة مطلبية لا بد من أن تضع الحدود والمسافات المشتركة بين مقتضياتهما وتبعاتهما وتداعياتهما الممكنة، لأن أي حل جزئي في أي اتجاه، سيلحق خسائر وأضرارا جسيمة بقاعدة عريضة من الأساتذة الباحثين، بل سيخلق ضحايا جددا لشهوة التفرد والاستئثار والرغبة في التميز.إن أصل الداء هنا يكمن في صلب النظام الأساسي ل 19 فبراير 1997 الذي لعب دورا سلبيا في تاريخ الأساتذة الباحثين والمس بمصالحهم، والإجهاز على كثير من مكتسباتهم، وصياغة أية مطالب عمليا ينبغي أن تنبثق من منطلقات إعادة قراءة هذا القانون ومسآلته والعمل على تعرية كثير من المكاسب الزائفة التي يحضنها. وفي تقديرنا فإن إستراتيجيته لم يعد من الممكن الخضوع لها، ومن الخطر أن نعتبره نهاية، فلن يسهم بذلك إلا في إضافة رصيد هائل من الخسائر في صفوف الأساتذة الباحثين.إن هناك على ما يبدو قلبا لكثير من المشاكل التي تهم التعليم العالي ببلادنا، وهو نابع من منطق البحث عن حلول صغيرة وجزئية، للظهور بمظهر نضالي أقرب إلى الموالاة والتواطؤ، وخلق مسافة بين النقابة والإرث النضالي العريق بمواصفاته التقدمية والراديكالية.أما النقطة الثالثة التي اشتغلت عليها الهيآت النقابية القائدة فهي إلحاق مدارس تكوين الأطر بالجامعة.وعدا هذه القضايا فإن شتات بقايا مقررات المؤتمر الثامن التي تفوق المائة، ظلت أسيرة وحبيسة ركود وجمود مزمن، وهذا ما يحملنا للتساؤل عن مصير هذه المقررات ، وأيان موعد طرحها، و متى تتهيأ ظروف الدفاع عنها، ولماذا لم تحرك الهيآت النقابية العليا أي ساكن في اتجاه التعريف بخصوصياتها وضرورتها، وجدواها ، وإعداد الشروط الملائمة لتحقيقها، وهي مقررات ذات أهمية قصوى من شأنها أن تدعم إمكانية خلق أوضاع وأخلاقيات جديدة في التعليم العالي ببلادنا، وعادات تربوية وفكرية وأكاديمية متميزة، وتطلعات جديدة واعدة بالعمل والابتكار والتطور .ولا يفوتنا في النهاية التذكير بأن مبدأ الاشتغال على هذه المطالب أو القضايا المعدودة التي أشرنا إليها، إنما فرض ثقله لأسباب معروفة، إذ أن الفئات المعنية بتلك المطالب في الحقيقة هي التي قادت خيارات النضال في هذا الباب، وتجاوزت أحيانا سلطة الأجهزة النقابية القائدة، عن طريق خلق " هيآت" تنظيمية نهضت بدور التنسيق ورص الصفوف وبذلت جهودا مضاعفة في مجال التعبئة وتوحيد الرؤية وتسليط الضوء على مكامن الخلل، فالأساتذة الباحثون حاملو الدكتوراه "الفرنسية" وفروا لأنفسهم إطار جمعية خاضت نضالات شتى اضطر معها المكتب الوطني للاستسلام لخياراتهم، ومباركة الحلول الغير القانونية التي قدمتها الوزارة الوصية، أما إلحاق مدارس تكوين الأطر فقد لعب العمل التنسيقي للأساتذة الباحثين في هذه المؤسسات الدور الأكبر في إعداد طقوس الالتحاق بالجامعة، والأساتذة الباحثون حاملو دبلوم الدراسات العليا وما يعادله، لما استشعروا الأخطار المحدقة بمستقبلهم وتاريخهم في الجامعة المغربية ، تحركوا في اتجاه الدفاع عن وجودهم، وعن حقوقهم والتشبث بمكتسباتهم، وأعلنوا رفض أية صيغ قانونية عوجاء تسعى لتدمير دورهم وموقعهم في الجامعة. إن الجميع فعلا يتحدى أخطارا،ويواجه أعباء وتحديات كبرى، ومن المؤسف أن تنظر الأجهزة النقابية العليا إلى كل هذه المبادرات من زاوية " الحليف الذي يخون"، وهذا على ما يبدو بعض ما تحبل به أصداء الإحالة باستمرار إلى مقررات المؤتمر الثامن، و يعكس بكل وضوح شهوة الاحتماء بلغة الخشب، ورغبة النفخ الممل في قربة مثقوبة.