في أول جملة من كتاب (مختصر دراسة التاريخ) يقول المؤرخ (جون آرنولد توينبي J.A.Toynbee) مايلي: يميل المؤرخون في العادة إلى تبني آراء الجماعات التي يعيشون في محيطها ويكدحون؛ منهم إلى تصحيح الآراء. وهكذا فكلنا حزبي ومنحاز. وقد يكون أقلنا انحيازا من انتبه إلى أنه منحاز بالطبع. وهذه الحقيقة الصادمة هي من أثقل الأمور التي لايعترف بها أحد في العادة، وربما تكون قدرة المراجعة والنقد الذاتي من أعلى الأمور نضجا في المجتمعات، وخروج أناس ملهمين. أذكر هذا للصدمة التي انتابتني وأنا أشاهد فيلم (دنكرك) الذي عرضته السينما في كندا؛ فقد اقترح علي صهري أن أشاهد الفيلم معه؟ قلت له هذا يهمني جدا للخلفية التاريخية التي أحملها عن هذه المعركة بالذات، التي تعتبر من أسرار الحرب العالمية الثانية. كيف ترك هتلر مئات الآلاف من القوات البريطانية المحاصرة تلوذ فرارا، وهو يتأملها من عل ويده على الزناد. تركها تنجو بجلدها وتلقي سلاحها، ولو أراد لحولها إلى معركة كاني من نموذج هانيبال في التطويق، أي مجزرة مروعة؛ فهانيبال بإمكانية تلك الأيام ذبح ثمانين ألف روماني، ولكن هتلر لم يفعل وتركها تنجو. الفيلم لم يعرض هذه الحقيقة ولا الملابسات التاريخية، ولا الجانب الألماني، وماذا حدث على وجه الدقة في التاريخ، فلعب الفيلم شاهد زور لمشاهد لم يطالع الوقائع التاريخية. الفيلم أي دنكرك (Dunkirk) هو تزوير للتاريخ فلم يعرض الفيلم سوى جانب القتال من طرف واحد، وكل الفيلم هو تركيز على نقطة واحدة هي بطولة البريطانيين في (الهريبة) سموها الإخلاء (Evacution)؛ بل وحتى الطيار البريطاني حين يسقطه الألماني ينزل مثل طير الماء على سطح البحر بدون أذية؛ أما الطيار الألماني فيسقط محترقا في اللهب، وبالطبع فالطيار البريطاني هو المنتصر دوما، الذي أنقذ الجنود البريطانيين بحماية الجو، حتى يتم إخلاء قرابة نصف مليون جندي. كل ماعرضوه لم يفهم المشاهد منه ما الذي جرى بالضبط وكيف حوصروا وكيف تصرف الجانب الألماني. كل هذا لم نره أبدا. لو انتصر هتلر في الحرب لكان عرض الفيلم مختلفا عن بطولة الألمان وصبرهم وشدة بأسهم ودقة تخطيطاتهم. ولو انتصر هتلر في الحرب لربما لم تنشأ دولة بني صهيون، ولربما كنا نتحدث الألمانية بدل الإنجليزية، ولرأينا أفلاما عن بطولة الساموراي وروعة موسوليني وكيف نجحت دول المحور في إنقاذ العالم من المجرم ستالين. من أعجب مايسمع الأنسان تباين وجهات النظر؛ فقد اجتمعت بشاب صغير قادم من روسيا أصغيت له وعرفت كيف يتم غسل الدماغ وبرمجة الإنسان. قال لي إن بركة ستالين على العالم هائلة فلولا ستالين لانتصرت الفاشية؛ فالفضل على العالم في الخلاص من الفاشية يعود أولا وأخيرا لستالين؛ فهو منقذ العالم ومخلص البشرية. أذكر جيدا من كتاب الإيديولوجية الانقلابية لنديم البيطار وهو يتحدث كيف وصف الرفاق ستالين أو ماوتسي دونج، بل كيف كان القذافي مع كتابه الأخضر، أم الرفيق الأبدي في دمشق الحزينة؟. في حرب الأيام الستة صرخ الرفاق يومها في دمشق أن إسرائيل هزمت؛ لأنها لم تستطع إسقاط الأنظمة التقدمية في المنطقة، قال أحد البعثين يومها بنظرية بقعة الزيت، فتمدد إسرائيل هو مثل بقعة الزيت فوق سطح الماء. كما أن حزب الله الذي كان السبب في تدمير لبنان عام 2006 بسبب أسيرين إسرائيليين قال في الجموع أنه انتصر، ولكنه سرا اعترف أنه لم يكن يتوقع إن لحم إسرائيل مرّ إلى هذه الدرجة. وتمضي الأمثلة عن تزوير التاريخ منذ أيام أوروك وفرعون بسماتيك، فرمسيس الثاني رجع من معركة قادش بصلح مع الحثيين، ولكنه أوعز لمن حوله أنه رجع بانتصار حافل، بل وحتى هزيمته أمام موسى لم تذكرها الأهرامات بكلمة؛ فمن يكتب خسائره أو يعترف بهزائمه؟ تقول النكتة عن جحا أن الذئاب طوقوه فالتهموا حماره وتظاهر بالموت، وهو يقول: أيها الأوغاد تعرفون أني ميت ولو كنت حيا لرأيتم شيئا مختلفا.