الديانات الكبرى جاء بها أنبياء، وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم؛ وولادة البلشفية تمت على يد لينين في يوم عسر، وتأسيس الحزب النازي كانت في مدينة نورمبرغ بجهود هتلر؛ ويعتبر ميشيل عفلق الأب الروحي لحزب البعث، ومؤسس الإخوان المسلمين كان شابا صغيرا هو حسن البنا تم اغتياله بسرعة؛ وأسس المدرسة الفلسفية (الأكاديمية) أفلاطون؛ وأعدم أنطون سعادة، رئيس الحزب القومي السوري، دينامو الحزب وعقله النابض؛ وترك أتيين دي لابواسييه مخطوطة من أعظم ما كتب في تحليل الاستبداد بعنوان «العبودية المختارة» ومات في عمر الثلاثين؛ ويدين وجود حزب التحرير الإسلامي بدرجة كبيرة إلى تقي الدين النبهاني وكتبه العشرين التي تركها حول الخلافة الإسلامية يستظهرها الأتباع في هولندا وأندونيسيا! ويعود الفضل في قيام دولة الموحدين في المغرب إلى محمد بن تومرت. يعتبر برتراند راسل في كتابه «النظرة العلمية» أن كل النهضة الحالية تدين ربما إلى مائة دماغ، ولو تم اغتيالهم لما بزغت عصور التنوير، ولعل أهمهم في الواجهة هو غاليلو؛ ولم تكن الثورة الإيرانية لتنجح لولا شخصية الخميني. وكتب توماس كارليل في مقاله عن «الأبطال وعبادتهم والبطولة في التاريخ» عام 1841م أن «تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء»؛ وكرر امرسن في مقالة بعنوان «التاريخ»: «ليس هناك تاريخ بالمعنى الدقيق للكلمة، هناك فقط سير شخصية». ينطبق هذا على تأسيس الديانات، وبناء المدارس الفلسفية، وقيام الأسر الحاكمة، وتحول مصائر الدول بمعارك حاسمة على يد قواد عسكريين. كنت أسمع للمنشدين في المغرب وهم يمدحون العربي محمد (ص) بعد مرور ألف وأربعمائة سنة على غيابه، فدمعت عيني وقلت إن أناسا يذكرون بالحب وآخرين يموتون قتلا مثل القذافي باللعنات. هكذا ولدت البوذية تحت شجرة التين على يد راهب، وأصبح اسم سقراط منارة للهدى، وعمرت الدولة الأليخانية في إيران أكثر من قرن على يد هولاكو مدمر بغداد، وانتهت الدولة الساسانية عام 333 قبل الميلاد في معركة جواجاميلا على يد الإسكندر الكبير، كما قرر مصير قرطاجنة عام 146 قبل الميلاد بعد هزيمة هانيبال في معركة «زاما». كذلك، فإن الفرد لا يحكم لوحده لولا «النخبة» التي تأتمر بوحيه والرعية التي تنصاع، كما أن الديانات لم تنتشر بدون الحواريين، ولم ينتصر سكيبيو الإفريقي على هانيبال بدون تطوير أداة الحرب من خطط وأدوات وجنود. والطاغية عندما يمسك رقاب الأمة لا يستطيع أن يفعل هذا بمفرده بل لا بد له من رهط حوله يسبحون بحمده بالعشي والإبكار وزبانية يربطون مصيرهم بمصيره، كل واحد منهم له ذيل ضخم من الأتباع؛ وهذه الحاشية من الأتباع تزداد طردا كلما اتجهت إلى الأسفل، حيث تتحول في النهاية إلى شبكة جهنمية تربط الأمة كلها إلى مقود العبودية. يقول أتيين لابواسييه في كتابه «العبودية المختارة»: «هم دوما أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في مكانه، أربعة أو خمسة أو ستة يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية. في كل عهد، كان ثمة خمسة أو ستة تصيخ لهم أذن الطاغية، يتقربون منه أو يقربهم إليه ليكونوا شركاء جرائمه وخلان ملذاته وقواد شهواته ومقاسميه في ما نهب. هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمائة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية، ثم هؤلاء الستمائة يذيلهم ستة آلاف تابع يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إما حكم الأقاليم وإما التصرف في الأموال. ما أطول سلسلة الأتباع بعد ذلك. إن من أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة في وسعه أن يرى لا ستة آلاف ولا مائة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل مثل جوبيتر، إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو شد سلسلته لجذب الآلهة جميعا». وفي سورة النمل إشارة خفية إلى هذه المافيا التي تمسك البلد عادة: «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون». يذكر إدوار سعيد في كتابه «خارج المكان» هذه الظاهرة أيضا في مستوى الطلبة وجو المدارس حينما تبرز إلى السطح بدون تعيين من الإدارة أو انتخاب من الطلبة شخصيات من المجهول تشكل زعامات طلابية من خلال مواصفات ليست هي الأفضل عادة، وكيف أنهم يتحولون تلقائيا إلى مجموعات متنافسة يسيطر عليها زعماء من خلال تراتبية خاصة تعتمد ليس صفات الرحمة والاجتهاد، بل الشقاوة وقوة البنية الرياضية و«البلطجية» وعدم التورع عن العنف وليّ أكواع الآخرين. إن هذا التميز وانقسام الطلبة إلى «شلل» يقودها، في العادة، الطلبة الأشقياء أمر معروف؛ وما يحدث في السياسة يشبه هذا، فيتقدم ليس الأتقى بل الأقسى والأخبث والألعن والأجرأ على الشر. وهذه الظاهرة تتكرر في السجون حيث يهيمن على «العنبر» في العادة عتل زنيم، وفي إحدى المصحات العقلية كادت المجموعة تقضي على النزيل الجديد لولا تدخل «الزعيم» الذي يتمتع، في العادة، بجسم ثور ودماغ ضفدع. يروي فيكتور فرانكل في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» تجربته من معسكرات الاعتقال فيقول إن المهجع كان يسيطر عليه «الكابو»، وهو في العادة من نفس المجموعة، ولكنه الألعن بسبب تودده إلى قيادة المعسكر. جرت العادة على أن من يبطش بتنظيم ما هو من نفس التنظيم، والذي أسلم المسيح إلى محكمة «السنهدرين» كان يهوذا الأسخريوطي حينما قال أيهم أقبِّله سيكون هو. ولم تنشب عداوة بين بلدين كما حصل مع بلدين عربيين متجاورين وبنظامين متشابهين حذو القذة للقذة مثل التوأم من بيضة واحدة ونفس الرحم، إلى درجة أن جوازات السفر التي تصدر في البلدين مفتوحة على العالم كله إلا البلد الشقيق (العراق وسوريا ونفس نظام الحزب الواحد البعث الإجرامي).. إنها أعظم مأساة. كما أن من بطش بالإخوان المسلمين كان منهم، والذي فضح تنظيمهم العسكري في بلد عربي كان من بين صفوفهم. وفي العادة، عندما يستلم في الغربة شخص منصب المسؤولية يضحي بأولاد بلده أكثر من غيرهم حرصا على نظافة سمعته من التحيز إلى بني قومه. وهو إنذار لكل من اجتمع بأهل بلده في بلد بعيد أن يبني علاقاته هناك على الجهد والإنتاج والحذر من بني بلده والعلاقات الإنسانية أكثر من القربى والعنصرية. يحاول دينْ كيث سايمنتون في كتابه «العبقرية والإبداع والقيادة» فهم هذا السحر الخاص (الكاريزما) عند بعض الأشخاص، بحيث يستقطبون جماهير تمحضهم الولاء كما قاد الخميني الجماهيرَ إلى الثورة في إيران، وكما بقي تشي غيفارا في الذاكرة كمناضل للحرية أو غاندي الذي هزم الإمبراطورية البريطانية بدون طلقة واحدة. لقد اصطدم بظاهرة عصية على الفهم، ويبدو أن خاصية (الكاريزما) التي ترجمت ب«الشخصية الساحرة أو الآسرة»، هي خاصية «لاعقلانية لا تذعن لتطبيق المنهج العلمي». وعندما قام تشارلز سيل بتطبيق قياسه المكون من 11 نقطة حول 34 من زعماء الدول المعاصرين، كان الزعماء الذين ركبوا القمة من أسوئهم، مثل موسوليني وهتلر، ونزل إلى القاع أشهر رئيس ألماني هو أديناور عند النقطة صفر؛ وفي الوقت الذي حصل فيه الطاغية سوكارنو على 9 نقاط، حصل تشرشل على نقطتين. ويروي برتراند راسل عن برونو موسوليني، ابن الطاغية، تجربته حينما كان يسلط النيران على قرى التعساء في الحبشة من طيارته: «كان العمل مسليا للغاية؛ وعندما اندلعت السنة النيران في سقف زريبتهم، خرجوا يتواثبون ويتراكضون كالمجانين وأحاطت دائرة النيران بنحو خمسة آلاف حبشي فلاقوا حتفهم.. كان المكان كالجحيم). جاء في الحديث أن الله عاتب رجلا على أنه أحرق قرية للنمل بوصفها أمة من الأمم تسبح الله. إن العمل الاجتماعي مشكلته أنه لا ينجز من شخص واحد ولا يمكن، بل يتوزع عبر سلسة من الأفعال ينجزها أناس لا يشعرون بخطورة ما يفعلونه، كما يحدث في الحروب الحديثة التي تقوم على كبس الأزرار لأناس يمارسونها خلف شاشات، فلم تعد في صورة المذبحة القديمة التي كانت تخوضوها (الليجيونات) الرومانية بالسيف القصير. سألني رجل من الجلادين، أذكر اسمه «رياض» بكتلة لحمية كبيرة ووجه وديع، حين أفرجوا عني من معتقل (كراكون الشيخ حسن) بجنب مقبرة الدحداح في دمشق، وكان جلاد الفرع رجلا من دير الزور لا أنسى وجهه الجهنمي حتى اسمه كان مرعبا (طحطوح)! سألني بلهفة: أستاذ، كيف تنظرون إلى مهنتنا؟ أجبته: هناك شهادة من الرب فيكم. ذعر الرجل، وقال: كيف؟ قال: وصفكم الرب في كتابه: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). اضطرب الرجل وهتف: ولكن هذه مهنتي وأعيش منها. قلت له: أنْ تفعلَ أيَّ شيء أفضلُ لك من كتابة التقارير الكاذبة أو جلد العباد أو اقتحام بيوت الناس بدون مذكرة قضائية. إن ستالين قضى على بوخارين، وهو الرفيق الكبير، بإيماءة من عينه وكلمة من فمه، ولكن من نفذ الجريمة كان رجل الاستخبارات بيريا، ثم أعدم بدوره عندما دالت دولة ستالين، كما لحقهم إلى قبور البؤس كثيرون؛ وهي نهاية تنتظر كل الجبارين الذين ولغوا في دماء الناس، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى...