كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. بدأ تراجع الإسلام مع الجيل الثاني، الذي هجر صفاء الإسلام وبدأ يشرب من ينابيع الحضارات والأعراف الأخرى الملوثة. لهذا، يكون الرجوع إلى العقيدة الحقيقية هو الوحيد الذي يمكنه أن يُنجي الإسلام من كارثة شاملة. والجهاد في رأي قطب يعني الإكراه والإقناع في نفس الآن. «معالم في الطريق»، بصفته نصاً أصولياً، يفضل إسدال الستار على الإمكانيات الحرجة. ترى ما العمل إذا كان أغلب الناس لا يريدون أن يعيشوا مثل الرعيل الأول أو القبول بالشريعة إطاراً مقنِناً لسلوكهم؟ ما العمل إذا فشلت كل محاولات الإقناع؟ النتيجة واضحة. سوف يمارَس عليهم الإكراه. مريدو سيد قطب المتحمسون، الذين اتحدوا مع مجندي أسامة بن لادن من العرب الوهابيين لتشكيل «القاعدة»، يعتقدون بأن «إمارة أفغانستان» كانت تمثل النموذج الوحيد للإسلام الحقيقي. ويعكس نظام «الطالبان» صورة الماضي والحاضر معاً. هل كان قطب سيتفق مع هذا التقييم؟ من الصعب أن نعرف ذلك. إلا أن وفاته ومرحلة القمع يمكنهما أن يكونا حلا مؤقتاً لا غير بالنسبة للنظام. كان عبد الناصر واثقاً من نفسه بشكل بارز. وبعد أن وجه ضربة حادّة إلى التطرف الديني بدأ الآن يرسم إستراتيجية للتغلب على خصومه في اليسار. كان الشيوعيون المصريون في منتصف ستينيات القرن الميلادي العشرين إما قد اندمجوا في البنيات الرسمية أو أصيبوا بإحباط لا ينفع معه علاج. فكان الخطر الرئيسي على الهيمنة الناصرية يمثله أنصار «البعث». وبما أن عُصَباً مختلفة من حزب «البعث» حكمت سوريا والعراق لما يناهز نصف قرن، فإن دراسة أصوله ليست مجرد تمرين أكاديمي. كان الحزب من بنات أفكار ميشيل عفلق (1910-1989م)، وهو مثقف عربي قومي يساري النزوع من أصول يونانية مسيحية أورثودوكسية ازداد في بيت قومي بدمشق عام 1910م. وكان والداه ملتزمين سياسياً. وقد سُجن أبوه من طرف العثمانيين، ثم الفرنسيين من بعدهم. لقي ميشيل عفلق تعليمه في جامعة السوربون، وأغرم بباريس، وأسس «اتحاد الطلبة العرب» واطلع على كتابات كارل ماركس. ولدى عودته إلى دمشق، عام 1932م، اشتغل مع الشيوعيين المحليين جنباً إلى جنب وكتب في مجلتهم. وعلى غرار الكثيرين، ظن أن الحزب الشيوعي الفرنسي يؤيد استقلال المستعمَرات الفرنسية، غير أن الانخداع انتهى عام 1936م، عندما تركت حكومة «الجبهة الشعبية» البنية الاستعمارية على حالها، وقبل الشيوعيون السوريّون بالأمر الواقع. وفي مقابلة أجراها سنين عديدة بعد ذلك، قال عفلق لسائله: خلال هذه الفترة كنت معجباً بصلابة نضال الشيوعيين ضد الفرنسيين. كنت معجباً بشدة شباب الحزب الشيوعي. وبعد 1936 وتسلم حكومة الجبهة الشعبية بقيادة ليون بلوم زمام الحكم، زالت الأوهام من ذهني وشعرت بالخيانة». اقتنع عفلق الآن بأن الشيوعيين المحليين كانوا أوفياء لا لفكرة، بل لمصالح السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي، ولهذا لا يمكن الاعتماد عليهم كحلفاء في أي نضال طويل الأمد. وقد دفعت هذه التجربة عفلق ورفيقه الحميم صلاح بيطار وغيره من الشباب العرب القوميين المثاليين بعيداً عن أي نظرة أممية. صدمتهم «الطبيعة الإمبريالية» للاشتراكية والشيوعية الأوروبيتين. لقد كان جوهر المسألة بالنسبة إليهم هو كيف يمكن تحقيق الحرية والاستقلال للبلدان العربية، وما عدا هذا كان يعتبر ثانوياً. وأثناء الحرب العالمية الثانية، بلوَر عفلق النظرية التي حمّست أتباعه : هناك أمة عربية واحدة وشعب عربي واحد يتطلبان جمهورية عربية واحدة. هاته الوحدة تنحدر من التاريخ. الإسلام ونبيه وحّدا العرب أكثر من أي وقت سابق، وهاته التجربة التاريخية هي الآن مِلك لكل العرب، وليس فقط للمسلمين. صارت الأمة والقومية هما مركز نشاطه في المرحلة الأولى. وقد قاده هذا، فضلا عن خيبة أمله بسبب موقف اليسار الأوروبي المؤيد للاستعمار، إلى النظر إلى الحرب العالمية الثانية بمنظار قومي بحت. هزيمة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية سوف تكون جيدة للقضية العربية. كان القوميون، مثل حشود الإسكندرية، يأملون أن يُيسّر لهم رُومَلْ مهمتهم. أسِّس حزب «البعث» بعد مُضي سنة بالضبط على هزيمة رومل في العالمين عام 1942م. وبعد استقلال سوريا عام 1947م، بدأ يعمل جنباً إلى جنب مع الاشتراكيين غير الشيوعيين فنما تأثيره عبر العالم العربي. أسِست أحزاب سرية في الأردن والعراق، وكانت خلايا تنشط في الحجاز واليمن. سوريا ولبنان هما الوحيدتان اللتان سمحتا بوجود أحزاب شرعية نشيطة لفترات مختلفة. وكانت سوريا أول من قمع الحزب واعتقل عفلق، الذي قضى أربع عقوبات سجنية بين 1949م و1954م. في باريس، كان معجباً بقساوة الشيوعيين الفرنسيين. وفي سوريا بصمَ هذه الحاجة إلى «القساوة» على المُجنَّدين الجدد، الذين كان أغلبهم من الطلبة. على امتداد ولايته (من 1943م حتى 1965م) كاتباً عاماً لحزب «البعث»، حرص عفلق على أن يظهر حزبه بمظهر منظمة عُروبية وهيمن على سياساته وعلى تنظيمه. رفض عفلق مميزات السلطة، مفضلا عمله في الحزب. وهو الذي كان القوة المحركة وراء اندماج مصر وسوريا عام 1958م، غير أن الكراهية (الفطرية) بينه وبين عبد الناصر كانت أكثر مما يُحتمل. كلاهما تحديثيّ وقومي مناهض للإمبريالية، مع عناصر برنامج مناهض للرأسمالية. والإثنان يشاطران الولع بالأفكار، ولكن بينما كان عفلق الرجل المطلع على بَواطن الحزب، كان عبد الناصر زعيماً عمومياً وشخصاً أصبح إسمه رمزاً لمناهضة الإمبريالية. أضجره التعامل مع عفلق كما لو كان مثيلا له. وهذا هو الذي يفسر استعداد رجل الإيديولوجيا السوري لتقاسم السلطة. أما عبد الناصر فكان يفضل احتكارها. وفي الأخير، وضع استبداد القنصل الدائم المصري في دمشق، عبد الحكيم عامر، بالرأي حداً للاتحاد السوري المصري. لكن التأكيد على هذه الانقسامات كان واقعاً مادياً حديث النشوء. منذ هزيمة الإمبراطورية العثمانية وانهيارها بعد الحرب العالمية الأولى، كانت الدول الجديدة، وبتشجيع من الدول الاستعمارية العظمى، قد طورت وجوداً شبه قومي خاصاً بها، مبنياً على الجمع بين الحداثة والتواريخ والأعراف المحلية/ الإقليمية. لقد وحّد العثمانيون العرب شرقاً من الخارج، ولكنهم لم يرسوا القواعد التي يمكنها أن توحدهم من الداخل، فتمتعت مصر، كما رأينا، بما يشبه الاستقلال عقب احتلال نابليون القصير. هكذا، تبين بأن الإيديولوجيا القومية هي مَركب هش لا يستطيع استيعاب الخصومات الإقليمية. كان هذا هو الحال حتى هناك حيث كانت التقسيمات المفروضة من طرف الإمبريالية خرقاء جغرافياً، كما في سوريا ولبنان.