كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. نجتِ الأردن بنفسها، بفضل التدخلات التي كانت تقوم بها الدول الغربية من وراء الستار، ولكن مواطنيها شعروا بالغضب والمرارة. قليلون من أصدقاء الملكية الأردنية هم الذين كانوا يشكون في أن الوطنيين سيحققون فوزاً ساحقاً لو سُمِح بإجراء انتخابات حُرّة على السلطة. إلا أن انعدام المحاسبة لم يكن صفة تلازم المَلكيات الموالية للغرب وحدها. البونابارتية العسكرية التي جاءت إلى الحكم بدعم شعبي كبير في مصر والعراق أدخلت إصلاحات اقتصادية واجتماعية ضرورية للغاية استفاد منها الفقراء. ولكن على الصعيد السياسي، كان نموذجها هو نظام الحزب الواحد الصارم. كان التبرير ثلاثياً. حاجج المنظرون الإيديولوجيون للنظام بالقول، أولا، إنّ الديموقراطية البورجوازية هي مهزلة ما دام المال هو الذي يحدد كل شيء، ونظراً لأهمية الشرق الأوسط من الناحية الإستراتيجية، فإن المال الإمبريالي سيظل دائماً منشوراً لاستغلال أي مداخل تعْرض نفسها في بلدانهم. وأشاروا، ثانياً، إلى مثالي الصين ويوغوسلافيا ليبيّنوا بأنه من الممكن إنشاء بنيات مختلفة للدولة تستجيب لحاجيات الشعب بشكل أفضل مما هو عليه حتى في الهند. ثم، ثالثاً، إن الغرب قد أحدث نظام الشاهات والسلاطين والأمراء بعد الحرب العالمية الأولى وعزز تأييده لهم مع اكتشاف النفط في الدول التي يحكمونها. وحالما ظهرت ديموقراطية محلية وحاولت تحدي الغرب، حدث ما حدث في إيران عام 1952م، حيث نحّى البريطانيون والأمريكيون الوطني المعتدل والشعبي المُصدَّق وأرجعوا مكانه الشاه الذي كان قد فر من البلاد. عطفُ الغرب المزعوم على الديموقراطية كان إذنْ وظيفياً وللواجهة فقط، ما دام أن أغلب زبوناتهم من الدول في كل قارة، باستثناء أوروبا، هي دكتاتوريات وحشية وفاسدة وحقيرة، ترعى ثروات الأوليغارشيات. لم تكن كل هذه الحجج ضعيفة، ولكن ما كانوا يجهلونه هو احتياجات الشعب العربي، خاصة في ظروف كانت فيها «الجمهورية العربية المتحدة» محط نقاش دائم. شعبية عبد الناصر في كل أرجاء العالم العربي، بصفته زعيماً مناهضاً للإمبريالية، لم تكن في شك. وكانت صوره معلقة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في البيوت بالحجاز، في القصبات بالمغارب (المغرب العربي) وفي كل مكان من العالم العربي. إلا أن هذا القبول لم يكن يعني أن كل ما فعله داخل مصر أو سوريا، أو كل ما طالب به النظام العراقي الجديد كان يتمتع بنفس الدرجة من التأييد. كان في إمكانه أن يفوز بأغلبية كبيرة في أي استفتاء شعبي ضد الغرب، أما داخل الوطن، فإن تلك الأغلبية ستكون أصغر بكثير. وفي سوريا والعراق، ورغم التأييد الذي يحظى به، من المرجح أنه لم يكن ليفوز في أي انتخابات من دون التحالف مع أحزاب تقدمية أخرى. حزب عبد الناصر نفسه، «الاتحاد الاشتراكي العربي»، أريد له أن يكون «طريقاً ثالثاً» شعبوياً، يقع بين الرأسمالية والاشتراكية ويدافع لا عن طبقة بعينها بل عن مصالح «كافة الشعب». والسبيل الوحيد لتحديد ما إذا كانت هذه الرؤى مقبولة لدى الناس هو منحهم حرية انتخاب برلمان من اختيارهم. القمع الموجَه ضد «جماعة الإخوان المسلمين» واليسار، والتحكم الصارم في وسائل الإعلام، والاحتواء شبه التام للنخبة المفكرة (الإنتلغنسيا) من طرف النظام، كل هذا كان يوحي بأن هذا الأخير عديم الثقة بالذات، الأمر الذي لم يكن يبشر باتحاد أوسع بين الدول العربية. في سوريا والعراق، كانت هناك منظمات أخرى تتمتع بالشعبية ولها أوراق اعتمادها في مناهضة الإمبريالية: حزب «البعث» الاشتراكي والشيوعيون. حتى وإن اتفق هؤلاء على الاندماج في «الاتحاد الاشتراكي العربي»، كانت الاختلافات ستظل قائمة. لكن لم يكن من الممكن التوصل إلى أي اتفاق. في مصر نفسها، كادت الحكومة أن تفقد استقرارها على يد «الإخوان المسلمين»، الذين قاموا عام 1964م بثلاث محاولات لاغتيال عبد الناصر. كان رد فعل النظام وحشياً: اعتقالات جماعية، تلاها إعدام سيد قطب وقياديين آخرين في 1965م. كان سيد قطب محترماً جداً حتى في الدوائر غير الدينية، وذلك لرفضه لحل وسط، لنزاهته وكماله، لأسلوب عيشه المتقشف. المؤمنون من الناس كانوا يحترمون تفكيره أيضاً، وقد حقق آخر كتاب له «مَعالم في الطريق»، الذي انتهى من كتابته في السجن، مبيعات ضخمة بعد وفاته. ويمكن تلخيص حجج سيد قطب الرئيسة كما يلي. أوّلا، المسلمون الوحيدون المستحقون للاتِباع هم جيل الإسلام المُبكّر، لكونهم كانوا طاهري العقل والروح. في ثلاث فقرات متتالية، هناك إشارات عديدة إلى «الينابيع الصافية» بوصفها الأماكن الوحيدة التي «يروي منها المسلمون عطشهم». الينبوع الصافي هو القرآن. ويلح قطب على امتداد صفحات كتابه على أن القرآن والقرآن وحده هو القادر على أن يكون مصدر المعرفة والمُرشد في الحياة اليومية. ويذكر قطب أنه بينما سادت الثقافات اليونانية والرومانية والفارسية كل العالم، تجاهل «الجيل الفريد» كل شيء واعتمدوا فقط على كلام القرآن. فتأثيرات تلك الثقافات هي التي تسببت أصلا في الجاهلية، وللابتعاد عنها كان عليهم أن يدرسوا القرآن ولا شيء غيره. ثانياً، لو أن محمداً كان عربياً قومياً لأمكنه توحيد القبائل وراء شعارات قومية فجة وطرْد القوات المحتلة الرومانية والفارسية. بدلا عن ذلك، فضل أن يقوم بذلك باسم الله بصفته إلهاً كونياً يمكنه أن يتقبل بسهولة الفرس والروم والأفارقة وأياً كان في الجماعة الجديدة التي كان محمد يُنشِئها باسمه الخاص، ولكن شريطة أن يُقسِموا بالولاء لله ولنبيه. ثالثاً، كان بإمكان محمد أن يعطي الانطلاقة بكل سهولة لحركة تستند على المحتاجين والانتصار على الأغنياء وتوزيع ثرواتهم على الفقراء. لو فعل كذلك، لاندفع الفقراء لرفع راية الله من دون سابق إقناع. ولكن الله، كما يقول قطب، لم يُرد للنبي أن يأخذ هذا الطريق ، بل فضل «طريقاً ثالثاً» : «كان يعلم بأن العدالة الاجتماعية الحقيقية لا يمكن أن تحصل في مجتمع من المجتمعات إلا بعد أن تخضع كل الأمور لشريعة الله ويكون المجتمع بأسره مستعداً لقبول توزيع الله العادل للأرزاق...» د. إسماعيل العثماني