تَزاحُمٌ غيرُ طبيعِي.. ولهُ عدّةُ سلبيّات.. ومِن سلبيّاتِه، في حالتِنا، أنّ الحَرَكةَ قد تتَوَقّف.. والتّنميّة اللاّماديّة قد تُصابُ بالشّلَل.. ويَنتَهِي اسمٌ اجتِماعِيٌّ لامِعٌ هو: القُدوَة.. القُدوَةُ يَختَفِي من السياسةِ والعِلْمِ والدّين والمؤسّسات.. وعندَها لا يَظهرُ "الخيطُ الأبيَض".. وفي البِدايةِ والنّهاية، كُلُّنا خاسِرُون.. والخاسِرَةُ الكُبرَى هي "السّياسةُ وأخَواتُها".. والأنظارُ تتّجهُ - وباشمِئزاز - إلى من تَنازَلُوا عن واجِبِ القُدوَة، وأصبَحُوا هُم أيضًا من خَدَمَةِ الفئةِ الأقوَى.. وفي الخَفاء، بين السّياسةِ والعِلم، يبقَى الوَضعُ كما كانَ في قديمِ الزّمَن: لا سِلْم.. لا حَرب.. * الحالُ هو الحَال! لكنّ علاقةَ السياسةِ والعِلم، لا تُلغِي الجَفاءَ اللاّمَرئِي، والنّزاعَ الخفيّ، ولهِيبَ النارِ تحتَ الرّماد.. العلاقةُ ليسَت على ما يُرام.. هكذا كانت وتكُونُ وقد تستَمِرّ.. وحتى بالمُصالَحة، لا ثِقةَ لأحَدِهِما في الآخَر.. العِلمُ له طموحٌ لإسماعِ صوتِه، والسياسةُ لا ترَى في العِلم إلاّ خادِمّا، تابِعًا.. وقد تَغدِقُ عليه بإكراميّات لتكريسِ التّبَعِيّة، وتَعنِي أنّ العِلمَ تابِعٌ وليسَ مَتبُوعًا إلاّ في أوساطِ فئةِ من المُهتَمّين.. ولا مكانَ للعالِمِ في البرلمان، إلاّ إذا أزاحَ من رأسِه الصّفةَ العِلميّة، ووَضعَ عباءةَ السياسي.. وفي هذه الحالةِ يَنتَقلُ الصّراعُ إلى عُمقِ الخَبيرِ العِلمي، وهو يُصارعُ نَفسَه بنفسِه، نفسيّا وعقليّا وعَصَبيّا، لدرجةِ أنهُ أحيانًا لا يَدرِي إن كانَ هو عالِما أو سياسيّا.. ازدواجيةُ الشخصية قد تَجعَلُه يَستعرِضُ قضيةً عِلميّة، وهُو لا يدرِي إن كان سيُدافِعُ عن الفائدةِ العِلميّة أو عن المَصلحةِ السياسية.. وهذه الصورةُ تُشبِهُ الانفصامَ الذي يَحدُث لتُجّارِ الدين، وهُم لا يَدرُون إن كانوا سيُدافِعون عن قضيّة، منَ الزاويةِ السياسية أو الزاويةِ الدينية.. وهُنا يقعُ الخلطُ.. ولا تُصدِرُ هذه الازدواجيةُ قراراتٍ تُرضِي الضميرَ المِهَنِي، وتُفرّقُ بين الشأنِ السياسي والشأنِ الدّيني... * ويَتَدخّلُ النّفاق.. ومَشاكلُ قد تنجُم عن نِفاقٍ مُتبادَلٍ بين العِلمِ والسياسة، وكِلاهُما مُلتَزِمٌ بالانتِصارِ للسياسة.. وترى العالِمَ يُقدّم في التلفزيون تحليلاتٍ هي خليطٌ من السياسةِ والعِلم.. وبتعبيرٍ آخر: لا هي سياسية ولا عِلميّة، أي لا تخدُمُ إلا مَصالحَه، ومَصالحَ من يُمْلُونَ عليه ما يقُول.. وهذا يُشبِهُ إلى حدّ كبيرٍ مَن يُقالُ فيه إنهُ طّيبٌ مع الجمِيع، وليس له عَيبٌ مع أحَد.. وهذا النوعُ البشري ليست في عُمقِه نفسُ الشخصيةِ التي يَظهرُ بها للناس.. ففِي الظاهر هو يبتَسِمُ للجميع، وفي أعماقِه لا يُحبُّ إلاّ نفسَه.. وهذا هو النفاقُ السيّاسي الذي قد يُوجدُ حتى في نفسيةِ بعضِ العُلماء.. * عُلماء بشخصياتٍ مُزدَوِجة! وها هُم في عالَمِنا المُعاصِر، يَخدُمون لتَطويرِ الأسلحة، بكلّ أنواعِها، لفائدة تُجّارِ الحُرُوب.. وهذه من نِتاجاتِ المَصالح.. وفي هذا السياق، نجِدُ أنّ المصالحَ مُتبادَلة، وأنّ السياسي قد يُنافقُ العالِم، والعالِم قد يُنافِقُ السياسي.. وهكذا يَضمَنُ المُنافِقان - لِنَفسَيْهِما - استِمراريةَ التّظاهُر أمامَ الناس، بما ليس في أعماقِهِما وفي سلُوكِهِما الحقيقي، تمامًا مِثلَما يفعَلُ مُنافِقُون يَقودُون نِقابات: في النهارِ هُم معَ العُمّال والمُستَخدَمِين، ويُقدّمُون لهم خطاباتٍ ساخِنةً حَماسيّة، وفي الليلِ يَتعَشّون مع "الباترُونَا" ويَنصَحُونَها بطردِ المُستَخدَمِ الفُلاني بِدَعوَى أنهُ المُحَرّض، ويُخبِرُونَها بأنّ النقابيةَ فُلانَة هي المسؤولةُ عن وقفةٍ احتجاجيّة عُمّاليةٍ سوفَ يتمُّ تنظيمُها لاحِقًا.. وهذه إحدَى صُورِ التّواطؤ بين نقاباتٍ و"باترُونا"، ومُختَبرات... وفي هذا الجوّ المَشحُون، لا أحدَ يقُومُ بواجِبه، ويَلتزِمُ بالمَسؤوليةِ المنُوطةِ به.. وهذا الانفِصامُ في شخصيةِ العالِمِ السياسِي، والمُتديّنِ المُتسيّس، هو يَمنَعُ الفصلَ بين المؤسّسات، والفَصلَ بينَ الحُقوقِ والواجِبات، ويَحُولُ دُون تقدُّمِ البلد.. لا السياسي سياسي، ولا النقابي نِقابي، ولا العالِمُ مُتفرّغٌ للبحثِ والمُختَبَرِ والجامعة... * وتختفِي المَسؤوليات.. وحتى وُزراءُ أنفُسُهُم قد لا يَضبِطُون مَسؤولياتِهم.. وهذه فوضَى أنتَجَتها تعدُّديةُ المَهامّ لدى بعضِ كِبارِ المَسؤولين.. وهذا فلانٌ ليس فقط بَرلمانيًّا، بل له عدةُ مَهامّ أخرى.. فهو يَرأسُ شركات.. وفِرقةَ كُرةِ القدم.. وهو هُنا وهُناك.. وكذا وكذا... هؤلاء قد حوّلُوا بلادَنا إلى بَقَرةٍ حَلُوب.. وإذن، مَسؤولُون لا يُنجِزُون أيَّ عمل، كما يجِب.. شَكليّا، المَسؤولُ مَسؤول، وفي الواقِع لا تَنعكِسُ مَسؤوليتُه على المَيْدَان.. ويبقَى المَيدانُ فارِغا.. وهو مُنشغِلٌ في لَعِبِ الوَرق، أو في تنشِيطٍ لتجارةِ البَيضِ والدّجاج.. ولا يُمكن بهذا النّمط منَ المَسؤولياتِ اللاّمسؤولة، ألاّ تطغَى على بلادِنا فراغاتٌ في المُؤسّسات، واستِفحالٌ للبِِطالة، ورشاوَى، وأنماطٌ وأشكالٌ منَ الفَسادِ والإفساد.. في غيابِ المُراقَبَة.. * ما هذا التّزاحُمُ بينَ العِلمِ والسياسة؟ لماذا لا يَهُمّ الأحزابَ إلا أن تطغَى السياسةُ حتى على الإبداعِ العِلمِي؟ إنّ العِلمَ لا يَملكُ السياسة، ومعَ ذلك، السياسةُ هي تتَحكّم في العِلم.. وهذا مَصدَرُ نزاع، حينًا خَفيّ وحينًا هو عَلَني.. اختلافٌ بين عُلماءَ وسياسيّين.. السّياسيّون مُصرّون على التحكّم في كلّ المَواقِع.. إنهُ صِراعٌ قديمٌ يعودُ إلى الواجِهة.. السياسة تريدُ أن يكون العِلمُ تابعًا لها، لا متبُوعا.. وأن تكُون العلُومُ مجرّد مُستشارةٍ في إطار اختصاصِها.. والاستشارةُ لا تعني القرار.. تعني تقديمَ نتائج علمية، واقتراحَ حلُول.. وهذا رأي.. لا أكثرَ ولا أَقَلّ.. والسياسةُ صاحبةُ القرار.. وتستطيعُ حتى أن تَشُلّ الحركةَ العِلمية، وأن تَقطعَ عنها الخُبزَ والماءَ والهواء.. وأكثرَ من ذلك تستطيع أن تزُجّ بالعِلمِ في المُعتقَل، بتهمةِ مُحاولة التمرّدِ على السياسة.. والأدهَى هو أن تُسلطَ السياسةُ فيالقَها على عُلماء، وأن تُهشّم أهمَّ ما يَملكُون، وهو الدّماغ.. وفي تاريخ البشرية، تكفيراتٌ سياسية، نتيجةَ التواطؤ بين السياسة والدين.. ومَحارِقُ دُفِعَ إليها عُلماءُ بمُختلف التّخصّصات، وفي أديانٍ مُتسَيّسة.. وكوارثُ سياسيةٌ كُبرى تَحدُثُ للفضاءاتِ العِلميّة عندما تعترضُ سبِيلَهم فيالقُ تستغلّ الدينَ لأهدافٍ سياسية.. عندَها تقومُ السياسة بإزاحةِ العقل، وتسليمِ القرارِ لدجّالين ومُشَعوِذين وشبَكات.. ونماذجُ كثيرة ما زالت محفُورةً في ذاكرة التاريخ الإسلامي والمسيحي واليهودي وأديانٍ أخرى.. الدينُ والسياسة والعِلم، هذا مُثلّثٌ مُختلفُ المسؤوليات.. ولا يجُوزُ تجمِيعُه لأهدافٍ سياسية! وغيرُ مَقبُولٍ أيضًا أن تَحتمِيَّ السياسةُ بالعِلمِ والدّين، من أجلِ تحقيقِ مَكاسبَ سياسية.. وعلى أحزابِنا أن تستَوعبَ أنّ السياسةَ ليست راكِدة.. إنّها مُتحرّكة.. اليومَ هي لك، وغدًا لغيرِك.. * والقانونُ فوقَ الجميع! [email protected]