في ظل هيمنة اقتصاد السوق و القيم الرأسمالية التي لا تؤمن إلا بالربح السريع، حصل انقلاب مهول في القيم الإجتماعية و الأخلاقية رغم الصعود الكبير على مستوى تدين المجتمع، و بالضبط طفت على السطع ظاهرة النفاق الإجتماعي بشكل ربما غير مسبوق، مما يهدد صفاء العلاقات الإجتماعية وحسن المعاملة والصدق مع الناس، كما أنه بات يخترق كل جسد المجتمع من أفرادا ومؤسسات ودوائر ومنظمات حكومية ومنظمات شعبية ليلقي بظلاله السيئ على كل المنظومة القيمية مهددا مجتمعاتنا بمزيد من التدهور و الإنحطاط الأخلاقي والاجتماعي، مما يضيق هامش الممارسة الصادقة التي تبعث على الأمل في المستقبل، التي من المفروض أن تشد الناس إلى الإخاء والمودة ودماثة الخلق وحسن المعاشرة، وترسيخ منطق العدالة الإجتماعية في التعامل اليومي. فما معنى النفاق الإجتماعي بداية؟ و ما هي أسبابه و أنواعه و حتى مظاهره؟ النفاق اصطلاح نفسي أخلاقي اجتماعي، وهو بالمطلق قيمة أخلاقية ثلاثية البعد الدلالي والتشخيصي، أخلاقي مطلق، نفسي، اجتماعي. واذا ألقينا نظرة على قاموس لسان العرب وجدنا يضع لجذر النفاق معنيين متناقضين ظاهرياً: أولهما الموت الذي لا يستحق الإكتراث أبداً، ولذلك سمي موت البهائم بالنفوق ولم يسمى بذلك موت الانسان. ثانيهما رواج السلعة أو الشيء، أي تزايد اهتمام الناس به، ولذلك قالت العرب: نفق البيع: راج..ونفقت السلعة: غلت ورغب فيها. الوجهان على ما يبدوان عليه من تناقض يصلحان أساساً لفهم النفاق، بل لعلمنا لن نستطيع ولوج عمق الدلالة الحقيقية للنفاق من دون الوقوف على هذا الجذر اللغوي بوجهيه، ولكن ابن منظور يقرر ان اصطلاح النفاق لم يشتق من أي منهما وانما اشتق من سلوك اليربوع الذي يدخل الجحر من مدخل واذا هوجم هرب من «النافقاء» وهو موضع يرتقه اليربوع في مكان حجره حتى اذا هوجم نقره وهرب منه، ومن ذلك قال بعض اللغويين القدامى:”سمي المنافق منافقاً لأنه نافق كاليربوع…”. هذا الاصطلاح ظهر في اللغة العربية مع ظهور الاسلام، وعنى استناداً الى جذره اللغوي:«ان يستر المرء كفره ويظهر ايمانه» والنفاق هنا إذن يشبه الرياء فكلاهما اظهار خلاف ما في الباطن..ولكن السؤال الذي يفرض ذاته الآن هل كل اظهار المرء خلاف ما يضمر أو يبطن هو نفاق؟ لعل أبرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف، التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الإجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة، و الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية، و خيانة الأمانة، و الإخلال بالمواعيد، و التحكم في الإنفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق،و يحاول المنافق الإهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الإجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي، و مع أن هناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي وتأكيد خطورته، فإن حضورهم يكاد يغطي جميع العلاقات الإجتماعية.فعلى مستوى الإدانة، عندما تسأل شخصا، ما هو الفرق بين الكلب مع أن الكلب من أوفى الحيوانات و لا يجوز التشبيه به إلا لدواعي ثقافية هنا والمنافق فإن الجواب يكون : أن ذيل الكلب في أعلى ” مؤخرته “بينما ذيل المنافق في أعلى مقدمته “لسانه “. أما على مستوى خطورة المنافق فيقال : أن أفعى لسعت ” منافقا ” فتسممت،وماتت. و في هذا المقال لا أدعي أني سوف أحيط بظاهرة النفاق بشكل شمولي فلذلك أحتاج إلى تأليف كتاب إن لم نقل كتب، لذلك سأقتصر على تحديد بعض الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة باعتبارها صارت مقلقة و مزعجة، مع أن نشأتها وانتشارها على مدى التاريخ العربي قديم جدا، بحيث يقال أن الحكاية بدأت عندما كان الشعراء يقفون عند باب السلطان وهم يكيلون له المديح بالقنطار ويصفونه بصفات الإطراء والثناء. ومعروفة هي ظاهرة شعر المديح والإطراء من جهة، وشعر القدح والهجاء من جهة أخرى والتي تخصص لخصوم السلطان. و قد كتب عالم الاجتماع العراقي الدكتور “علي الوردي” بحثا علميا موسعا حول ظاهرة النفاق في المجتمع العربي عامة و في العراقي بصورة خاصة حيث شرح عبر عشرات الدلائل أن مرض النفاق يتسبب بالكثير من الأعراض والمشكلات الإجتماعية واطلق عليه “ازدواج الشخصية”. و اعتبر أن النفاق الإجتماعي يؤدي إلى إحداثِ خلل فادحٍ في النظام الاجتماعي والأخلاقي السليم، بحيث يتم تغييب القوانين وقواعد التعامل بين أفراد المجتمع، فتغيب سلطة القانون ويتم استبدالها بسلطة النفاق. وبهذا نكون قد قضينا على أهم عنصر من عناصر بناء مجتمع يساوي بين أفراده، وتسوده العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن صفات المنافق انه لا يستقر على حال أو مبدأ بل يدور حيثما تدور مصلحته العاجلة والآجلة، فينتج عن ذلك لدى بعض الأشخاص حالة من الإغتراب وازدواجية في القول والفعل، فتجدهم في الكلام يخوضون في المثاليات والحكم والمواعظ، بينما على أرض الواقع يحطمون ويدمرون كل ما ورد على ألسنتهم في لحظات إذا ما اكتشفوا أن ما قالوه يتعارض مع مصالحهم، وهذا شكل أساسي من أشكال النفاق، لذلك كان شعار المنافق هو الغاية تبرر الوسيلة. فما هي إذن الأسس النفسية و الإجتماعية للنفاق؟ لقد أوضحت العديد من دراسات التحليل النفسي أن البنية النفسية للإنسان هي الحامل لأنواع السلوك و من بينها قد يكون النفاق، فإذا نظرنا الى دوافعه الخفية وجدنا أن صورة الأسباب هي الخوف أو الطمع أو الوصولية و الإنتهازية، ولكن هذه الأسباب لا تعدو أن تكون الصورة الظاهرة لأسباب نفسية داخلية يمكن تقسيمها من خلال عناصر مستقلة مع أنها ليست مستقلة عن بعضها البعض بالضرورة في تأديتها الى النفاق، ولكن قد يفعل كل منها فعله من دون وجود غيره من الأسباب، أما هذه الأسباب فهي: 1 انعدام الثقة في النفس او ضعفها أحد أبرز الأسباب المؤدية الى النفاق، ذلك أن انعدام هذه الثقة أو ضعفها يقود المرء الى الشعور بالضعف و الدونية و بالتالي للتغطية على هذا الضعف يرى ضرورة اللجوء إلى النفاق إما على شكل مجاملة أو باعتباره ضرورة اجتماعية لمجاراة الحال، قد يكون هذا النمط من النفاق مصحوباً بنزوع وصولي، ولكنه على الأغلب لا يكون كذلك، ومن ناحية أخرى قد يكون مصحوباً بالرضا والقناعة والقبول بالنفاق بوصفه (مجاملة وتلميعاً) وهذا هو الأغلب، ولكنه قد يكون مصحوباً بنوع من عدم القبول والرضا، وقلما يصل إلى عدم الرضا الى الحسد. 2 الشعور بالنقص هو السبب الثاني من أسباب النفاق، وهذا النوع من الأسباب خطير جداً لأن الشعور بالنقص يقود المرء الى استشعار العظمة في الآخرين والإيمان بأن النفاق لهم واجب إجتماعي عبر مدح إنجازاتهم و مجاملتهم مع علمه اليقين أنه لن يستفيد شيئا من ذلك لكن هذا المدح بالنسبة له يشكل تعويضا عن عقدة النقص، ولذلك غالباً ما يكون هذا السلوك النفاقي رغم ما يبدو عليه ظاهريا مصحوباً بنوع من الغل والحقد تجاه من يتم النفاق لهم، وقلما يكون مصحوباً بمشاعر الرضا والقناعة والقبول. 3 عندما يكون طموح المرء أكبر مما لديه من قدرات شخصية، الأمر الذي يدفعه الى محاولة تحقيق مكاسب من خلال تلميع صور قادته ومن هم أكبر منه على أمل أن ينظروا إليه بعين الإحسان و تحقيق مطالبه في الترقي و الصعود. 4 من أسباب النفاق أيضا هو عدم اقتناع المرء بواقعه، ومكانته الإجتماعية أو مهنته، و مع إيمانه بضحالة أو انحسار أو انعدام إمكانات تحسين هذا الوضع في الأمد القريب، الأمر الذي يدفعه إلى منافقة من هم أعلى مرتبة منه و قيمة و قدرة للوصول الى ما يَعتقد أنه حقه بغض النظر عما إذا كان المرء المُنَافِقُ يستحق الإرتقاء في مكانته هذه أم لا، وبغض النظر عن امتلاكه الكفاءات والإمكانات اللازمة لذلك.. 5 عندما يكون الحقد أو الحسد أو حتى الغيرة جزءاً من خصائصه الشخصية، هذه الطبائع الثلاثة تؤدي الى التشدد في عدم منافقة من يظنون أنهم ضعاف مهما كانت حقيقتهم التي قد يجهلها المنافق، ولكنهم من أكثر الناس نفاقاً أمام كل من يستشعرون القوة فيه والسطوة والهيبة، إما خوفاً أو نزوعاً تدميرياً، ايماناً منهم بأن هذا السلوك المنافق سيؤدي الى العجب بالذات والغرور الذي سيقود في المحصلة الى تدمير ذات الشخص المُنَافَق. 6 أن يكون النفاق حالة مرضية، عقدة نفسية، مثها مثل أي عقدة نفسية أخرى لها أسبابها النفسية والإجتماعية، كالكذب، أو الخوف من الماء، أو الظلمة أو المرتفعات….والمشكلة هنا أن المنافق يقوم بسلوكه النفاقي من دون الإعتراف به أو من دون رغبة و حتى الوعي به. و إذا كانت البنية النفسية للإنسان هي البنية الداخلية له، فإن البنية الخارجية له هي البيئة الاجتماعية أو المحيط الاجتماعي، والمحيط الاجتماعي بكل علاقاته الإجتماعية و الإقتصادية و السايسية و حتى الثقافية له تأثيره الكبير في الفرد، ولكن هذه البنية الإجتماعية مرتهنة دائماً بالمعطيات والظروف التاريخية للمجتمع وموقعه من المجتمعات الأخرى من جهة، ومكانته الاقتصادية والسياسية والمعرفية من جهة ثانية. لذلك فالبنية الإجتماعية هي في حقيقة الأمر بنية نفسية جمعية ومجموعة أخرى من العناصر مثلما أن البنية النفسية هي جزء من مكونات شخصية الفرد، وهي بحكم كونها بنية نفسية جمعية فإنها تمارس تأثيراً معيناً متفاوت القوة في بناء البنية النفسية الفردية، ولذلك هي أيضاً من حوامل السلوك الجماعي، والسلوك الفردي أيضاً، ومن هنا فإن البنية الإجتماعية تمارس تأثيراً أيضاً في النفاق، فالعادات والتقاليد والأعراف والمستوى الحضاري للمجتمع عوامل تحدد مدى انتشار النفاق في كل مرحلة من مراحله التاريخية. و اذا كان من الممكن الحديث عن عدة أسباب نفسية للنفاق فإنه من الممكن أيضا الحديث عن مثلها من الأسباب الإجتماعية عدداً وصوراً و مظهرا، وربما أقل من ذلك أو أكثر، تبعاً للباحث الناظر في الأمر، وفي أدنى الإحتمالات أو أيسرها يمكننا الحديث عن الأسباب النفسية الستة السابقة بوصفها أيضاً أسباباً اجتماعية للنفاق، ولكن بعد نقلها من المستوى النفسي الفردي الى المستوى الجمعي، ناهيك فوق ذلك عما يمكن ان تحمله البنية الإجتماعية من أسباب أخرى للنفاق، ولكننا إذا نظرنا من زاوية تلخيصية إلى الموضوع أمكننا أن نجمل الأسباب الإجتماعية للنفاق كما أوضح المفكر السوري عزت أحمد السيد في ثلاثة عوامل أساسية هي: 1 إنعدام الثقة في النفس أو ضعفها والشعور بالنقص يقابلهما على المستوى الجمعي التخلف الذي يعيشه المجتمع، والتخلف هو ترهل وضعف في مختلف البنى والعناصر المكونة للمجتمع، وقد بات من الثابت و الأكيد أن النفاق يكثر في المجتمعات المتخلفة ويقل في المجتمعات المتطورة ولا ينعد أبدا. 2 تردي الأحوال الإقتصادية للمجتمع غالباً ما يكون عاملاً من عوامل انتشار النفاق، فتردي و تدهور الأوضاع الاقتصادية للمجتمع يدفع بالطامحين والطامعين وضعاف النفوس إلى التفكير في التسلق والوصول، و تحقيق أغراضهم سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة و يكون النفاق أحد أيسر السبل لتحقيق ذلك. 3 العقلية الإجتماعية و القواعد الإجتماعية المستشري في كل مجتمع ذاتها يمكن أن تكون سبباً من أسباب انتشار النفاق أو كثرة انتشاره، كما يمكن أن تكون سبباً من أسباب انحساره، فالمجتمعات العاطفية والانفعالية ينتشر فيها النفاق أكثر من المجتمعات العقلانية أو الذرائعية، ولذلك غالباً ما يحدث التباس بين المجاملة والنفاق مع افتراق كل منهما عن الآخر في الطبيعة و إن تشابها في الظاهر و الصورة، لأن ما يميز النفاق عن المجاملة هو النية ومبدأ السلوك، وفي هذا ما يستحق التفصيل ولكن ليس هذا مكانه، والنفاق عامة سلوك يقوم على سوء النية والطوية، وينطوي على شيء من الخبث والمكر يزداد وينقص تبعاً للشخص والحال، وإذا كان من الصعب تقبل النفاق فمن الصعب تخيل الحياة من دون نفاق، وإذا كان من السهل رد النفاق إلى أسباب فردية نفسية وأسباب إجتماعية من جهة المنافق فإنه من الصعب تجاهل تأثير الأفراد الذين يمارس النفاق في حقهم، فإن ثمة أشخاصاً لا يقبلون إلا أن يعاملوا بِنِفَاقٍ، فإذا أردنا ان نعالج المُنَافِقِين وجب أيضاً أن نعالج المُنَافَقِين، وكلاهما مرض أعيا علماء النفس و الإجتماع و الفلاسفة و الحكماء. و كل حجر و أنتم عن النفاق و المنافقين مبعدون