خلافا لكل التوقعات، انخرطت أحزاب "الأصالة والمعاصرة" و"الاستقلال" و"التقدم والاشتراكية"، المشكلة للمعارضة البرلمانية، في الدفاع عن تضمين مشروع القانون المالي 2020 للمادة التاسعة، والتي تمنع المواطنين الحائزين على أحكام قضائية نهائية موجبة التنفيذ من الحجز عن ممتلكات الدولة كحل لأداء ما بذمتها. فبالإضافة إلى هيئات المحامين وفئات واسعة من الأطر المتخصصة في القانون من مشارب مختلفة، والذين عبروا منذ الكشف عن مضامين مشروع قانون مالية 2020، عن رفضهم للمادة التاسعة داعين إلى حذفها كليا، بسبب تعارضها مع مضامين الوثيقة الدستورية ومنطوق الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة ومبادئ العدالة والنزاهة، وأنها لا تتلاءم مع كل المبادئ التي تؤطر دولة الحق والقانون، وهي الدفوعات التي أعلن عدد كبير من البرلمانيين، سواء من الأغلبية أوالمعارضة، عن تبنيها. بل إن وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني مصطفى الرميد قد توقع، خلال حلوله ضيفا على برنامج "شباب Vox" الذي تبثه قناة "ميدي 1 تيفي"، مبادرة وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة سحب المادة المذكورة. كواليس الصفقة، كل شيء كان يسير وفق تصور وسياق واضحين، فمن جهة، هناك فرق الأغلبية التي تدافع عن مضامين مشروع قانون المالية للعام المقبل مع تقديم بعض التعديلات التي تعتبر توابل المعارضة من الداخل، ومن جهة أخرى فرق المعارضة التي تتمسك بمطلب سحب المادة التاسعة بقدر تمسكها بدستورية أدوارها وأهمية التعديلات التي تقترحها على ذات مشروع القانون. لكن الثلاثاء المنصرم كان استثنائيا، ذلك أنه في الوقت الذي دعا فيه رئيس لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب عبد الله بوانو إلى الاختلاء برؤساء الفرق النيابية ومعهم عمر بلافريج على الساعة الخامسة مساء، بعد نقاش مسترسل على مستوى اللجنة كان قد انطلق منذ العاشرة صباحا، خرج جميع رؤساء الفرق النيابية، باستثناء بلافريج الذي رفض المشاركة في صفقة تمرير المادة، بالصيغة المعدلة للمادة التاسعة معلنين الاهتداء إلى قرار تمرير المادة بالإجماع. وإذا كانت الفرق النيابية لأحزاب الأغلبية لم تجد حرجا كبيرا في تبرير قرار تمرير المادة المثيرة للجدل، فإن أحزاب المعارضة استنفرت قنواتها الإعلامية والتواصلية لتبرير تراجعها عن مطلب الحذف الكلي للمادة والاكتفاء بالمصادقة على تعديل يرى البعض أن مضمونه أسوء من الصيغة الأولى للمادة. وبحسب ما حصل عليه موقع "الصحيفة" من معطيات من داخل أروقة الفرق النيابية، فإن التبريرات المسكوت عنها أمام وسائل الاعلام والتي يحرص رؤساء الفرق على إقناع النواب وموظفي الفرق بها، تنقسم إلى روايتين، الأولى، تتحدث عن توصل رئيس لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب عبد الله بوانو باتصال هاتفي من "جهات عليا" دفعت في اتجاه ضرورة استنفار عضوات وأعضاء اللجنة لتمرير المادة منعاً لإمكانية الحجز على ممتلكات الدولة بسبب أحكام قضائية نهائية. فيما ذهبت الرواية الثانية إلى استعمال رئيس الحكومة سعد الدين العثماني ورقة تقاربه مع حزب "الأصالة والمعاصرة" من أجل التأثير على فرق المعارضة، حيث ربط الاتصال بأمناء أحزاب "الأصالة والمعاصرة" و"الاستقلال" وإقناعهم بتمرير المادة في مقابل تمكينهم من المقابل السياسي في أقرب فرصة ممكنة، والتي تبقى التعيينات في المناصب العليا إحدى أوجهها. المادة التاسعة.. النقاش المغلوط، وإذا كان ظاهر النقاش العمومي حول كارثية النتائج المرتقبة لصفقة المصادقة على المادة التاسعة من مشروع قانون المالية 2020، سواء على مستوى تعارضها مع مضامين الوثيقة الدستورية، في شقها المتعلق بضمان حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وإلزام الجميع باحترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء، أو على مستوى فقدان المغاربة للثقة في أحكام القضاء النهائية. فإن باطن إصرار الحكومة على تمرير المادة يرجع بالأساس إلى حرصها على التغطية على فشل المسؤولين من منتخبين ومدراء المؤسسات العمومية، وعبثية تسييرهم. فالقوانين التي فَصَّلت في ضبط وتأطير علاقة مؤسسات الدولة بالأشخاص والشركات والهيئات قانونيا وتقنيا وفنيا، والتي تريد الحكومة من خلال هذه المادة دق آخر مسمار في نعش سمو الاحكام القضائية وإفراغ كأس المواطن من آخر جرعة ثقة تجاه الدولة ومؤسساتها، كان الأولى توجيهها لتكوين وتأطير ومواكبة المنتخبين ورؤساء المؤسسات العمومية وتمكينهم من الاستشارة القانونية المثلى التي تغنيهم عن الوقوع في أخطاء قانونية يلجأ بسببها المواطن إلى القضاء طلبا لإحقاق الحق. وبالتدقيق في الملفات المعروضة على القضاء الإداري أو تلك التي استنفدت جميع مراحل التقاضي وصدرت بشأنها أحكام قضائية نهائية تلزم الدولة بأداء تعويضات مالية ترى أنها تستنزف خزينتها، يتبين أن أصل الاشكال القضائي قد تسبب فيه جشع ذلك المنتخب أو المسؤول أو عدم إلمامه بالإجراءات والمساطر القانونية الجاري بها العمل. ليبقى الثابت في كل هذه الجلبة التي أحدثتها صفقة تمرير المادة التاسعة من مشروع قانون مالية 2020، بعد تعديل قيل أنه مهم ونوعي، وأن التصويت على إبقائها في قانون المالية السنة المقبلة أملته المصلحة العليا للوطن، هو أن أحزاب الأغلبية وبعدما انضافت إليها أحزاب المعارضة باستثناء فيدرالية اليسار التي رفض النائب البرلماني عمر بلافريج الانخراط فيها، قد أبرمت صفقة خفية لتمرير المادة المذكورة، ضاربة بعرض الحائط كل الموانع الدستورية والقانونية وحتى التوجيهات التي تضمنتها الخطب الملكية في هذا الصدد.