ان فضيلة الفقيه الجليل العلامة سيدي محمد حلوة عضو المجلس العلمي المحلي لإقليمالناظور الذي كان يشتغل قيد حياته عدلا يتلقى الاشهاد، قد فارق الحياة وفاضت روحه الى بارئها، وأجاب داعي ربه يوم الاثنين حوالي الساعة التاسعة والنصف ليلا 09 ربيع الأول 1442ه الموافق ل 26 أكتوبر 2020م بعد وعكة صحية ألزمته الفراش بالمستشفى الجامعي بوجدة لم تمهله طويلا. وهذا قدر الله ونحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، وان العين لتدمع، والقلب ليخشع وانا على فراقك -أيها الفقيه الجليل- لمحزونون. والراحل هو محمد بن المصطفى البوغفاري أصلا وولادة ومنشأ، نسبة الى قبيلة بني بوغافر من قلعية المشهورة الواقعة على ثغر المتوسط على حدود مليلية السليبة والتي من مآثرها التاريخية حاضرة غساسة المطلة على هذه التخوم المجاهدة والتي تبعد عن الناظور حوالي 20 كلم. استوطن واقام بقبيلة بني شيكر، وشاء الله تعالى -وما تشاؤن الا ان شاء الله- إلا ان تكون منيته بمدينة وجدة ويقبر بها: مشينا خطى كتبت علينا ** فمن كتبت عليه خطى مشاها ومن كانت منيته بأرض قوم ** فليس يموت بأرض سواها وكان ميلاده السعيد بهذه القبيلة عام 1950 كما تثبت الوثائق التي بحوزة أرشيف المجلس العلمي، وبعد أن أدرك طور التمييز احتضنه كتاب مدشرة "شملالة" فحفظ القرآن الكريم وألم برسمه وضبطه بإتقان كبير ساعدته على ذلك حافظته الوقادة التي وهبها. وبعد هذه الدراسة الأولية شرع في تلقي الدراسة العلمية على شيوخ العلم والمعرفة المبرزين المشارطين في جوامع بني بوغافار كمسجد شملالة واعزانا وبوحمزة، ثم بجامع مولاي ادريس بفرخانة وهو الجامع التاريخي الذي تأسس به التعليم الديني الرسمي عام 1936م فقضى أعواما يتردد على هذه المراكز العلمية يغرف من معينها ويحفظ متون المصنفات كمنظومة المرشد المعين والاجرومية والفية ابن مالك وتحفة ابن عاصم وغيرها. ولكي يشبع نهمه العلمي ويروي ظمأه من المعارف، ويملأ وطابه بها، رحل الى "اجبالة" وهي المحطة الأولى لأهل الريف الشرقي يحطون بها رحالهم للتزود من مختلف العلوم اللغوية والأدبية والفقهية؛ العقلية والنقلية، فلازم أئمة شيوخ العلم وواظب على حلقاتهم صابرا محتسبا ملازما الشيخ الذي يسميه "عبد الله الوزاني" العالم الدراكة الفقيه الأصولي النوازلي المفتي؛ الذي كان يروي لنا عنه تضلعه وتفقهه وتمكنه الكبير من ناصية عدة فنون معرفية. وانتقل عن طريق الأوقاف الى دار الحديث الحسنية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي منخرطا في نظام الاختيار الحر يحضر دروس علمائها أمثال الشيخ المكي الناصري وعلال الفاسي والرحال الفاروقي وعائشة بنت الشاطئ ومصطفى العلوي وغيرهم من الأقطاب المؤسسين. ولشغف الراحل بالعلم والمعرفة – وقد تمكن من مفاتيح علوم شتى وحصلت لديه ملكة الفهم والبحث- رجع الى مسقط رأسه ليعين عدلا موثقا يتلقى الاشهاد بالمحكمة الإقليميةبالناظور وخطيب جمعة بالمسجد المركزي الذي أسس بسوق احد بني شيكر المركز عام 1974م؛ وهو اول خطيب يصعد على منبر هذا الجامع الجديد مباشرة بعد افتتاحه؛ واقترن بهذه المهام الجليلة يباشرها جادا مثابرا ينفق من بضاعته من خلال منبر الجمعة وكراسي الوعظ والإرشاد بمساجد إقليمالناظور ومليلية السليبة. وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي تعرفت عليه عندما التحق كواعظ رسمي ملتزم مع المجلس العلمي وكمدرس متطوع للعلوم الشرعية واللغوية بمدرسة الامام مالك للتعليم العتيق بالناظور التي تأسست عام 1991م. فأقبل للاستفادة من علمه الغزير خلق من الطلبة والأئمة الذين وجدوا ضالتهم في هذه المدرسة. وفي عام 2001م انتقي من بين العلماء الذين تم تعيينهم كأعضاء بالمجلس العلمي للناظور وتازة، وكان دأبه ان ينتقل الى حواضر وقرى احواز المدينتين للمشاركة في أنشطة مختلفة ضمن البرامج المسطرة العلمية والتكوينية. ووقع عليه الاختيار للمرة الثانية ليكون عضوا بالمجلس العلمي عام 2009 بعد تجديد هياكله، وهي المهمة التي واصلها واستمر يقوم بشؤونها وتدبيرها احسن قيام الى ان وافاه الاجل المحتوم. كان الفقيد قد فطر على حب القراءة ولذلك كان يقضي كل وقت فراغه في المطالعة يتملى بين سطور ما يقع تحت يده من الكتب ومختلف الإصدارات، ينقب ويبحث عن المسائل الدقيقة خاصة القضايا الفقهية الشائكة ومستجداتها يستنبط اجوبتها ويحاول العثور على حلولها وما يشفي الغليل فيها، يعتمد مصادر ومراجع المذهب المالكي كشروح المختصر والمرشد المعين وتحفة ابن عاصم؛ هذه المصادر لم تكن لتفارقه يحملها في قمطره تصاحبه بمكتبه العدلي وسيارته، يتلذد بالرجوع اليها. خاصة وانه وهب بداهة حاضرة في سرعة البحث والإرشاد على المظان والاحالة على المراجع التي قليلا ما يخطئ هدفها. والرجل، رحمه الله، من الذين لم تكن تشغلهم مهنتهم ولا التزاماتهم الاخرى عن مواصلة البحث والدراسة فكانت له متابعات للإصدارات والأبحاث الجديدة يشغف بالاطلاع عليها، والاستفاذة منها ومن التواصل المستمر مع فقهاء وعلماء المغرب، يستفسر ويسأل سؤال المتعلم بحثا عن أجوبة في النوازل الطارئة. وكثيرا ما كان يشد الرحلة لحضور الندوات والمؤتمرات والدورات التكوينية والأيام الدراسية التي تنعقد في شتى مدن المغرب مستفيدا او مفيدا ومؤطرا. ولمزية ذكاء خصه الله بها يقبل على حفظ ما يعرض ويستوعب ما كان يقدمه الشيوخ والمحاضرون من نص ومن شروح وتعليقات وافادات ونوادر واستطرادات. وقد اهلته هذه الكفاءة الموسوعية ان يتولى الاشراف على لجنة الارشاد والتوجيه والتزكيات بالمجلس العلمي التي اضطلع بها واوفاها حقها حيث كان مقصودا في ذلك بتوجيهاته وارشاداته في شتى المسائل فيصيب الهدف وبخاصة ما يتعلق بفقه العبادات والمعاملات والنوازل فيستحضر النص الفقهي المؤيد لذلك بدون عناء اذ كان كثير العودة الى نصوص المختصر الخليلي والمرشد المعين والى نصوص القاضي التسولي في كتابه البهجة على شرح التحفة فيتصرف في هذه المطولات بحواشيها باستحضار نصوصها كما شاء. والفقيه سيدي محمد حلوة كما أعرفه من رعيل العلماء الاول الذين تولوا خطة العدالة بجدارة واستحقاق حيث كان له باع معتبر في خدمة الوثيقة العدلية وتلقى الاشهاد، سواء من حيث شكلها او مضمونها، وقد خلف وراءه تراثا مهما في هذا المجال يكون خصبا للمهتمين والباحثين خاصة عند الرجوع الى الكنانيش التي توجد هذه الوثائق مسطرة بخطه الجميل. وقد اثبت الراحل -رحمه الله- حضوره في مختلف المحافل والمؤسسات والمنتديات يغشاها بعطائه كهيأة العدول والمؤسسة العلمية ومؤسسة القضاء، موثقا ومستمعا لإصلاح ذات البين ولتلقي شهادات المعتنقين للإسلام، ومؤطرا للأئمة والواعظين والواعظات، وواعظا ومرشدا وخطيبا، محبوبا داخل الوطن وخارجه لدى مغاربة العالم، ولذلك فبمجرد شيوع نبأ نعيه تقاطرت التعازي على المجلس العلمي من كل حدب وصوب. واليوم ستفقده ساحة العلماء لأنه من أبرزهم، وسيبكيه المرشدون والواعظون والوعظات وكل الأئمة والخطباء والعدول والشباب لأنه رائدهم ومعلمهم ومربيهم. ولذلك ندعو ان يقابله مولاه برحمته الواسعة ومغفرته الشاملة وعفوه الجزيل ويروي رمسه صيب القبول والرضوان والانعام والإحسان ويسكنه فسيح الجنان انه نعم الجواد المنان. ونرجو ان نكون بهذه الكلمة قد قلنا شيئا في حق عالم أمضى عمرا من حياته في خدمة العلم والعلماء رافعا راية ثوابت الامة وعلى رأسها امارة المؤمنين حماها الله تعالى. وإن كان في الحقيقة امثاله أكبر من يؤبنوا وأحرى ان يختزلوا في كلمة تأبين عابرة. وكأني في الوداع الأخير بالشاعر يرثيه ويقول: يا رافعين إلى الثرى جثمانه ** يمشون في صمت وخطو واني أرواحنا وقلوبنا في نعشه ** والعلم كل العلم في الجثمان ما كان أحرى أن يوارى جسمه ** في كتبه- بدلا من الأكفان واستلهموا من روحه قيما لكم ** وأحموا مآثره من النسيان فالدمع لا يجدي حبيبا راحلا ** والموت أجراس على الآذان يا راحلا ما كان اطيب عمره ** ومودعا من غير ما استأذن حلق بروحك في السماوات العلى ** واسبح بها في جنة الرضوان إن كان فقد المصلحين خسارة ** فضياع مثلك أعظم الخسران وعزاؤنا فيمن فقدنا أن ما ** أسداه لا يفنى، وعمر ثاني