[email protected] سأل الأرنب الصغير أمه في حزن عميق، وأعين دامعة عن سبب الرحيل. اكتفت الأم بنظرة حنونة تجاه صغيرها الذكي دون أن تنبس ببنت شفة. تحركت قافلة من الأرانب في اتجاه الشمال. الأرنب الصغير “ميمي” لا يبتعد عن أمه الحنون، يتابع باهتمام تحرك الكبار وحديثهم الذي لا يفهم منه إلا قليلا. توقفت القافلة عند سياج الطريق السيار، وأدرك الجميع أن تغيير الوجهة قدر محتوم. ميمي لم يستسغ هذا الحاجز ثم أشار إلى ثقب في السياج يسع لأضخم أرنب في القافلة. التفت الكبار إليه محذرين إياه: “ميمي ألا ترى السيارات والشاحنات التي تمر في كل ثانية بسرعة جنونية؟ سائقوها لا يأبهون لأرنب صغير مثلك. إن لديهم قوة الحديد والنار.” تذمر ميمي من هذا الحاجز وسخط على عالم لا يسع إلا للأقوياء. “هؤلاء دمروا مسقط رأسي ببناياتهم وقطع الإسمنت والزفت التي كسوا بها أرضيته، ثم منعونا من الهجرة إلى وجهة أخرى.” يقول ميمي في نفسه الصغيرة. اتجهت القافلة جنوبا علها تجد محيطا يأويها. تخلف ميمي عن السير تعبا من طول المسافة. تفقدته أمه ثم توقفت عن السير في انتظار صغيرها العزيز. “قريبا سنصل إلى مكان جميل فيه عشب وماء، فيه حرية وأمان. سنرتاح من تعب السفر وأحكي لك قصة جميلة” تقول الأم. تذكر ميمي قصة الذئاب الرمادية والثعالب الزرقاء التي تملأ الطرقات وتوهم الآخرين أنها تحمي الأرانب الصغيرة، وإذا ما انفردت بأحدهم، تشرب دمه وتأكل لحمه وترمي جلده في التراب. الحذر واليقظة هي أول ما علمته أمه قبل أن يفتح عيناه. الفزع والخوف وانعدام الثقة، علامات مضيئة في مسيرة حياته القصيرة. الخطر حاضر في كل مكان، من لا يتربص في الأرض يتربص في الجو. الصقور والنسور بأعين حادة ترى كل شيء من بعيد، ترقم الأرانب وتضبط حركاتها، الحظ ضروري للاستمرار في الحياة. ساحة خضراء شاسعة تتراءى للأرانب من بعيد. “سنذهب إلى هناك” يقول كبيرهم. الساحة مسيجة بجدار عالي جدا، لكن فيه أنفاق تسربت عبره الأرانب إلى الداخل. تذكر ميمي قول أمه: “فيه عشب وماء، فيه حرية وأمان” العشب والماء موجود حقا، لكن أين الحرية وأين الأمان؟ الحرية والأمان قيم لا ترى وإنما يجب على ميمي أن يحس بها، لكن أحاسيسه مليئة بالفزع والخوف وانعدام الثقة والترقب. في الأيام الأولى كان ميمي يتجول خارج السياج منتظرا في قرارته قدوم صديقته الحميمة “سوسو” لقد افتقدها منذ بداية الهجرة. شيء من الحنين في قلب ميمي. يتذكر المغامرات الليلية رفقة سوسو، يتذكر لحظات الخلوة بعيدا عن الكبار. يتذكر العناق الحلو، والقرب والدفء والحنان. “سوسو متى تلتحقين بي إني أعيش على ذكراك” ينادي ميمي في الاتجاه الذي ضن أن سوسو الحبيبة تتواجد فيه. ميمي يفضل اللعب في محاذاة الجدار العالي، يراقب عن كثب الأنفاق في أسفله عله ينعم يوما ما بالنظر إلى وجه حبيبته. “لابد أن تمر من هنا” يقول في نفسه. ليلة سوداء في حياة ميمي تلك التي اكتشف فيها أن الأنفاق في أسفل الجدار أغلقت بشبابيك لا تسمح له بالخروج ثانية. حكم بالسجن المؤبد على مجموعة الأرانب المهاجرة، سبب كافي ليحس ميمي بالاكتئاب. فراق سوسو وفقدان الأمل في معانقتها ثانية أشد وأثقل على قلبه الصغير. انتبهت الأم إلى حالة ميمي، أشفقت عليه وضمته إلى صدرها ثم همست في أذنه “اليوم سأحكي لك حكاية جميلة” فرح ميمي لسماع الحكاية وفرحه للالتصاق بفرو أمه الناعم أشد وأعظم. بدأت الأم الحكاية من البداية: “في بلاد بعيدة كان يعيش ديك جميل وقوي رفقة حريمه من الدجاج وأبنائه الكتاكيت الصغيرة. كان يستحوذ على أفضل الطعام ولا يكترث إذا جاع أو مرض الكتاكيت. يسير في الأرض مرحا يتباهى بجمال ريشه وتاجه الأحمر، متكبرا يدعي القوة والجبروت. في يوم ربيعي مشمس، خرجت دجاجة رفقة صغارها في نزهة إلى الحقل، للتمتع بما تجود به الأرض من خيرات والاستمتاع بأشعة الشمس الذهبية والنسيم العليل الذي يحمل في طياته عطر البحر ورطوبته. بعد لحظات في العراء، حلق صقر مهاجما الأسرة الضعيفة، التقط بمخالبه كتكوتا صغيرا وحلق به عاليا. انفزعت الأم وصغارها ففروا إلى داخل الحديقة ليختبئوا بين نبات الصبار. سمع الديك صراخ الصغار لكنه لم يكترث لأنه كان مشغولا باستعراض القوة على دجاجات أخر. خاطبته الدجاجة المظلومة تشتكي ظلم المعتدي الذي يهددها وصغارها. خرج الديك على التو في اتجاه مسرح الجريمة. حلق الصقر مرة أخرى ثم انقض على الديك وحلق به عاليا. انبهرت الدجاجات والكتاكيت وتتبعوهما بفضول إلى أن اختفيا. شاءت الأقدار أن ينفلت الديك من بين مخالب الصقر ليسقط بعيدا عن الحديقة مستعينا بأجنحته التي لا يسخرها إلا للتباهي أمام الضعفاء. (— هنا تمنى ميمي لو جاء صقر ليحمله بين مخالبه ثم ينفلت منه ويسقط خارج السور العالي ليبدأ البحث عن سوسو التي ترك نصف قلبه بين يديها. — ) رجع الديك منهار القوى منتوف الريش، يكاد يموت خوفا. سألته الدجاجات عن سر هذه الرحلة في اتجاه الفضاء. قال لهن في تكبر وافتخار، أنه ذهب مع الصقر إلى هناك قصد المداولة حول الحدود، وأنهما اتفقا على ألا يتجاوز الدجاج حدود نبات الصبار. استمر الديك في غروره وجبروته يتباهى بالأمجاد والمكتسبات وهو يتغذى على طعام الكتاكيت ولا يقوى على مغادرة مخبئه بين نبات الصبار. يصيح كل صباح مؤذنا للصلاة كي ينفرد بالسلطة الدينية. يضرب بجناحيه مستعرضا عضلاته لينفرد بدور الأمن والدفاع. ينتزع كل ما لذ وطاب من الدجاجات وصغارها. رعيته لا تستطيع مغادرة نبات الصبار في عالم تمتطي فيه رعايا الآخرين البحار على متن البواخر وتخترق الأجواء على متن الطائرات.” استرسل ميمي بعد سماع الحكاية في سبات لذيذ. أحلام رفقة سوسو محلقين في الفضاء مثل الصقور، لا تضايقهم الجدران ولا يظلمون الكتاكيت الصغيرة.