هناك قضايا عربية تطفو وتختفي من المشهد السياسي على الرغم من مركزيتها التاريخية على المستوى الوطني والقومي. ومن أهم هذه القضايا التي بدأ يشوبها مع مرور الزمن غموضٌ سياسيٌ -إذا صح التعبير- قضية سبتة ومليلية والجزر المغربية المحتلة؛ فعلى صعيد الوعي السياسي كانت هذه القضية وما تزال من القضايا التي تتمتع ببعد عربي في الوعي الجماعي بسبب ارتباطها بحمولة تاريخية متجسدة في حروب الاسترداد (la reconquista) وسقوط الأندلس. يضاف إلى هذا البعد التاريخي، الموقف السياسي المغربي الذي عبرت عنه الدولة المغربية عبر مراحل مختلفة من تاريخها؛ إذ أنها لم توقع أي اتفاقية تنال من حقوق المغرب السيادية، الأمر الذي يثبت تمسك المغرب بهذه القطعة من أراضيه كتمسكه بأي قطعة أخرى، وبالتالي يمكن على هذا الأساس تصنيف هذه القضية تحت سقف "الصراعات المجمدة" (frozen conflicts)، أي الصراعات التي انتهت فيها المعارك المسلحة خارج أي إطار سياسي أو قانوني يحل الصراع بما يرضي أطراف النزاع. قد يترتب على هذا النوع من النزاع احتمالية اندلاع الصراع السياسي والعسكري مرة أخرى، مما يخلق مناخاً إقليمياً يسوده منطق سياسة القوة (power politics) والواقعية السياسية. أما في حالة المغرب مع إسبانيا فتوجد – منذ فترة استقلال المغرب سنة 1956م – علاقة تعاونية بين الطرفين، ضمن ما تمليه المصلحة المشتركة من دون أن يتخلى أي طرف عن موقفه إزاء القضايا العالقة. فقد أَلِفَت هذا النوع من المقاربة التعاونية الدولُ التي تقوم بينها خلافات سيادية، وعلى وجه المقارنة قد تُفيد الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى طبيعة العلاقة بين تركيا واليونان. لفهمٍ أشمل وأعمق يتوجب على المهتم بهذه القضية أو بقضايا مماثلة أن يقاربها من زاوية الجغرافيا السياسية، وهو العلم الذي يختص بدراسة العلاقة بين الأرض وبين الدولة ثمّ بين الدولة وبين غيرها من الدول على الصعيد الإقليمي والدولي. ويرتكز مفهوم الأرض على موقع الدولة الجغرافي ومساحتها ومواردها الاقتصادية والبشرية، أما مفهوم الدولة فيتوقف عند الكيان السياسي الذي يتوفر داخل وعاء جغرافي محدد على حق احتكار العنف وجمع الضرائب وفرض القوانين الضامنة لتحريك عجلة مؤسسات الدولة. وتوفر الجغرافيا السياسية فكرة واضحة عن قدرات الدول على المستوى الخارجي، حيث تعتمد الجغرافيا السياسية على أربعة علوم تتداخل نتائجها بشكلٍ جدليٍ في بعضها، محددةً بذلك الوزن الجيو- السياسي لدولة ما، أي أفقها الاستراتيحي استناداً إلى المعطيات التي تقدمها هذه العلوم: 1) الجغرافيا التي توفر المعطيات حول الظروف الطبيعية والبشرية للدول. 2) علم التاريخ الذي يوفر المعطيات بخصوص الأحداث التي تمر منها الدول خلال حقب تاريخية مختلفة. 3) علم السياسة الذي يفسر توظيف العقيدة السياسية والمؤسسات من طرف الدول في الميدان الداخلي والخارجي، وهي في جوهرها عناصر متحركة عكس العنصر الجغرافي الذي يتصف بالسكون. 4) علم الاقتصاد السياسي الذي يفسر كيفية تسيير الموارد الحيوية للدول وطرق تحويل هذه الموارد إلى ما يلبي احتياجات الدول. ينبغي إذن الانطلاق من الجغرافيا السياسية لفهم حيثيات وطبيعة العلاقة المغربية-الإسبانية. جغرافياً، ينتمي كل من المغرب وإسبانيا إلى إقليم جيو-سياسي موحد، ألا وهو الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط. ويتألف هذا الإقليم من ثلاث دول مركزية تتوفر تقريباً على الوزن الجيو-السياسي ذاته، إذ تتمتع هذه الدول ببنيات استراتيجية تعزز من قدراتها ونزوعها التوسعي: إسبانيا والمغرب والجزائر. إلا أن هذه الخصوصية لدول غرب المتوسط يحكمها حاليا التفوق العسكري الإسباني بحكم مظلة حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد نتعلم من قوانين الجغرافيا السياسية أن الأقاليم التي توجد فيها على الأقل قوتان كبيرتان متناقضتان حضاريا أو قوميا، كحالة المغرب مع إسبانيا، لا بد أن يتحول النزاع الكامن بينهما في مرحلة من المراحل إلى اصطدام مباشر. فهناك قاعدة تاريخية تكررت عبر القرون الماضية في العلاقة المغربية – الإسبانية، أي القاعدة التي تبين بوضوح أنّ الدولة التي تنجح في السيطرة على إحدى ضفتي جبل طارق، لا بد لها أن تكون قبل ذلك قد نجحت في تقوية قدراتها الاستراتيجية إلى حد التفوق المادي والمعنوي على الطرف الآخر. ولطالما تحكمت في مثل هذه الحالات الحسابات الاستراتيجية المبنية على فرضية إمكانية افتقاد أحد الأطراف استقلاله واختفاء دولته من دون أي إمكانية لانبعاثها من جديد. أما مغاربيا فيمكن ملاحظة المنافسة الجيو- الاستراتيجية ذاتها إلى حدٍ ما في ما يخص العلاقة بين المغرب والجزائر، إذ أنّ النزاع حول إقليمي وادي الذهب والساقية الحمراء(الصحراء المغربية) هو في جوهره صراع حول السيطرة السياسية والاقتصادية على منطقة المغرب العربي. فنجد مثلاً من بين أهم الدوافع خلف الموقف الجزائري إزاء الصحراء المغربية، رغبةً جزائريةً في إيجاد مخرجٍ نحو المحيط الأطلسي لتصدير الحديد من مناجم "غار جبيلات" في أقصى غرب الجزائر. هنا ينبغي التأكيد على أنّ المغرب، في حالة إخفاقه في السيطرة على الصحراء، قد تصبح عندئذ ما يسمى ب "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" إما موطئ قدمٍ لقوةٍ إقليميةٍكالجزائر أو لقوةٍ غربيةٍ كإسبانيا بصفتها المستعمر السّابق، أو تتحول هذه البقعة إلى ساحة صراع للنفوذ المحلي والإقليمي والدولي على غرار النموذج الليبي. وبخصوص المواقف المغربية إزاء سبتة ومليلية والجزر المحتلة يتوجب تسليط الضوء على النهج الذي سلكه المغرب منذ استقلاله سنة 1956، المعتمد على التحرير التدريجي للأراضي المحتلة من طرف إسبانيا ومن بينها الصحراء. فبعدما تبنى السلطان محمد الخامس المشروع الوطني لاستكمال المسيرة التحررية في خطابه الشهير بمحاميد الغزلان سنة 1958، طرح المغرب قضيته أمام اللجنة الرابعة للأمم المتحدة (لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار)، وطالب رسمياً باسترجاع المدن الجنوبية كسيدي إفني وإقليمي وادي الذهب والساقية الحمراء. أما المطالبة بسبتة ومليلية والجزر المحتلة (/Plazas de soberanía أو "أماكن السيادة" بحسب التعبير الاستعماري الإسباني) فلم تتم من طرف المغرب حتى سنة 1960، لما أدرج المندوب المغربي لدى الأممالمتحدة وقتذاك امحمد بوستة هذه الأراضي من بين المطالب الترابية المغربية خلال الجلسات الخاصة ب"الإعلان عن منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة". وعلى الرغم من التحرك المغربي على الصعيد الدبلوماسي وتدويل قضيته الوطنية نفت إسبانيا أن يكون لديها أي نزاع ترابي مع المغرب، كما تجاهلت الحكومات الإسبانية المتتالية كل المطالب المغربية بسبتة ومليلية والجزر المتوسطية المحتلة، باعتبار انتماء هذه الأراضي لإسبانيا أمراً محسوماً. وفي إطار ما سبق يبقى الخيار الصعب في الظروف الراهنة، أي خيار دخول المغرب في مواجهة مفتوحة مع إسبانيا بهدف استرجاع أراضيه بالقوة، هو السيناريو الذي سيجعل المغرب وحيداً في مواجهة لا طاقة له بها بحكم ارتباط إسبانيا بمنظومة الدفاع المشترك داخل حلف الناتو. وقد تُعدّ أي خطوة مغربية في الوقت الراهن في هذا الاتجاه انتحارا ومغامرةً غير محسوبة العواقب. ينبغي في هذا الصدد الإشارة إلى اختبار المغرب لهذا الخيار بخطوات محسوبة، إذ قرر في مطلع شهر يوليوز سنة 2002 إرسال عناصر من الدرك الملكي إلى جزيرة ليلى المحتلة التي تقع على بعد 200 متر من الشاطئ المغربي تحت ذريعة محاربة الإرهاب والهجرة السرية، سرعان ما تلتها خطوة تصعيدية مغربية، إذ قام المغرب بإرسال عناصر من الجيش مصحوبة بدورية بحرية. وأمام هذا التحدي المغربي للوضع القائم جاء الرّد العسكري الإسباني معززاً بدعمٍ دوليٍ، حيث صرّح حلف الناتو آنذاك بموقفٍ داعم لإسبانيا معتبرا "الاحتلال المغربي للجزيرة خطوةً غير ودية ومزعزعة للاستقرار" (انظر إلى التقرير الإخباري في جريدة إلباييس تحت عنوان: La OTAN exige a Rabat que ponga fin a la inamistosa ocupacion de Perejil). أما من باب فهم السياق العام لما عُرف باسم "أزمة جزيرة ليلى" فينبغي عدم إغفال ربط هذا التصعيد بأبعاد أخرى مؤثرة؛ إذ يعد البعد الاقتصادي مثلا من أهم العوامل في تقييم العلاقة المغربية-الإسبانية، وأخص بالذكر هنا الحرب التجارية التي كانت تشتعل من حين إلى آخر بين البلدين، حيث شاء القدر أن يصدّر المغرب نفس المنتوجات التي تصدرها إسبانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أدى هذا الأمر، قبل أزمة جزيرة ليلى، إلى توتر بين المغرب وإسبانيا، خاصة إثر توقيع المغرب اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996 التي منحت بعض التسهيلات للمنتوجات البحرية والزراعية المغربية المصدرة إلى السوق الأوروبية، مما تسبب في إثارة حفيظة المنافس الإسباني حيث أصبحت الشاحنات المغربية إلى أوروبا تتعرض للنهب والتخريب بشكل ممنهج، الأمر الذي ساهم في اضطراب العلاقة المغربية- الإسبانية في مستهل القرن ال 21. من ناحية جيو- سياسية، تقتضي القراءة الشاملة لهذه الأزمة عدم إغفال ملف الصحراء في علاقته بالمواقف المغربية إزاء الأراضي المحتلة إسبانيا، إذ كان المغرب منذ استقلاله يوظف ورقة سبتة ومليلية والجزر المحتلة كورقة ضغط في العلاقة مع إسبانيا كلما دعت الظروف المحيطة بملف الصحراء إلى ذلك. فمن بين أحد التفسيرات لفهم قرار المغرب لإرسال جنوده إلى جزيرة ليلى المحتلة هو الرفض الإسباني وقتذاك لخطة جيمس بيكر الأولى، وهي خطة منسوبة للمبعوث الخاص للأمم المتحدة لقضية الصحراء في سنة 2000، إذ تضمنت مقترحات ترمي إلى منح الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية. في السياق العام لآخر أزمة حول قضية سبتة ومليلية والجزر المغربية المحتلة يجدر أخيرا لفت الانتباه إلى سياسة إسبانيا الهادفة لخلق منطقة نفوذ في المغرب. فعلى المستوى الثقافي يكشف التصريح الذي أدلى به المستشار التربوي بالسفارة الإسبانية في المغرب قبل سنوات سياسة الأسبنة، إذ أكّد أن هدف بلاده على المدى البعيد هو أن يتحدث ثلث تلاميذ المغرب بالإسبانية (انظر التقرير الإخباري في جريدة الصباح المغربية تحت عنوان "فيليث: هدفنا أن يتحدث بالإسبانية ثلث تلاميذ المغرب). وللعلم، فإن الوجود القوي للمراكز الثقافية الإسبانية في منطقة شمال المغرب الخاضعة سابقا للاحتلال الإسباني توطد النوايا النيو- كولونياليّة الإسبانية. ويعد المغرب حاليا – حسب معهد "سيرفانتيس"- البلد الثاني في العالم بعد البرازيل من حيث عدد المعاهد الإسبانية. وفي سياقٍ متصل يجب الإشارة كذلك إلى السياسة البربرية (Politique berbere) الإسبانية سواء على مستوى الأنشطة الثقافية التي لا تعد ولا تحصى، والتي تنظم من قبل المعاهد المذكورة أعلاه أو على مستوى الإدماج التدريجي للهجة الأمازيغية الريفية في مدينة مليلية المحتلة. ختاماً، تبقى إسبانيا كباقي الدول الأوروبية المركزية تستثمر في إعادة تعزيز بصمتها بالمُستعمرات السابقة؛ فالنفوذ الثقافي والسياسي لإسبانيا الأطلسية في المغرب، وخصوصاً في المنطقة الشمالية، يعكس هذه السياسة ويجعل إسبانيا موجودة ما بعد سبتة ومليلة والجزر المغربية المحتلة، وهو الأمر الذي قد يمكنها من تجييش وتحريك مناطق نفوذها الثقافي في يومٍ من الأيام تحت ذرائع نيو- كولونياليّة ك"حقوق الأقليات" و"حق تقرير المصير". ملاحظة أخيرة لا بد منها: إننا إذ نشير إلى تمسك الدولة المغربية بأراضيها المحتلة، وبرفضها لسلخ الصحراء الغربية عنها، انطلاقا من سعيها للتصدي لمحاولة إضعافها، بعد سلخ الكثير من الأراضي التابعة تاريخيا للمغرب عنها، فإن ذلك لا يجوز أن يفهم بأي شكل كموافقة أو تأييد لسياسات الدولة المغربية الداخلية أو الخارجية الأخرى، لاسيما التبعية للغرب والتطبيع مع العدو الصهيوني أو التحالف مع الأنظمة الرجعية العربية، أو الانصياع للمؤسسات الاقتصادية الدولية وما تفرضه من سياسات خصخصة وتجويع وإفقار في الداخل. إنما نؤكد على أن تمسك الدولة المغربية بهذه المناطق المحتلة يتقاطع مع مصلحة الأمة العربية، وكذلك رفضها لتفكيك المغرب، الذي ينبع من موقفنا الرافض لتفكيك أي قطر عربي من منطلقاتنا القومية الوحدوية. ونؤكد أن هذه المعركة لا يمكن أن تخاض بجهود قُطرية، إنما هي معركة كل الأمة العربية لتحرير أراضيها المحتلة ولتحقيق وحدتها الناجزة.