على قيد الأمل… شَبْذَانْ …”القرية” التي نسيت اسمها ! ما أقسى أن لا ترى من الفصول سوى عواصف رعدية و شتاء قارس…! حال القرية …والناس. حتى منتصف الثمانينات، كانت المنطقة مزدحمة و يومية وعادية داخل أسوارها “الصبارية” …كان يحلو النوم خارج البنايات في البيادر و خارج أسوارالمازل .استغرق ذلك طويلا ، لأن الناس كان لا يخشون لا اللصوص ولا قطاع الطرق و لا الحيوانات البرية والمفترسة ، وحتى “الآدمية” منها , بل لم يكن لهؤلاء وجود بالمرة .. كانت المنطقة آمنة…مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان , من السماء ومن البر والبحر…وحتى من وراء البحار! كان يجري الماء بداخلها عبر وديان لم يبقى منها اليوم إلا الصخور.. كانت تحيى وتحيى معها المناطق المجاورة لها . وبعد ذلك بدأ بذر بذور منطقة جديدة بالكامل تظهر, بعد أن رحل الكثير من أهل المنطقة…توجهوا للبحث عن مصادر رزق أخرى في المدن والقرى المجاورة, زايو ..الناظور. وحتى وجدة وبركان وتطوان .. وبالمقابل رحل إلى المنطقة بعض العائلات الأخرى من مناطق مجاورة إما بهدف حراسة بعض المنازل التي هجرها أصحابها أو بسبب العوز والحاجة لأناس لا يملكون في الأصل لا دارا ولا بيتا يقيهم وأطفالهم ..حر الحياة و بردها . أصبح الألم والحسرة يغمران قلوب هؤلاء ومعهم من تبقى من أهل المنطقة …حيرة وتيه بين البحث عن عمل لتدبير القوت اليومي للأسرة وبين توفير بعض متطلبات الحياة لأطفال يحتاجون إلى مدرسة ومستشفى وعناية … منطقة خالية من كل شئ … جرّدتها الايام من كل الاشياء الجميلة , أصبحت الأزقة والوديان مليئة بالأطفال … ضاقت المنطقة بهم وبعائلاتهم , يتجولون هنا وهناك….منهم من انتقل إلى المدينة القريبة من المنطقة من هؤلاء من يبيع “الديطاي” ومنهم من يشتغل بالمقاهي ومنهم من يقوم بتنظيف السيارات, ينتشرون بين المحلات والمطاعم والمقاهي … وأرصفة الطرقات. حال بعض العائلات في المنطقة , خاصة منها التي هاجر اربابها الى اروبا كان مختلفا بعض الشيء، فقد استطاعت الاحتفاظ ببعض المال والذي استثمرته لتفلح بعض الاراضي المسقية المجاورة او في بعض المشاريع التجارية الصغيرة في المدينة .. هكذا غادرالكثير من أهل المنطقة إلى أماكن أخرى والتي كانت تبدوا لهم أكثر أمانا. كان منظرا حزينا ونحن نرى معظم أهل المنطقة ، رجالهم ونساءهم وأطفالهم، يحملون حاجياتهم و يغادرون … أوراق تتساقط …تباعا ! أطفال صغار في عمر الورود، أصبحت مقاعدهم الدراسية فارغة وبفعل “فاعل”, رموا بكل مستقبلهم وحياتهم خلف ظهورهم ليبحثوا لهم عن متنفس آخر ليساعدوا أنفسهم وعائلاتهم ولو بالقليل القليل. في الصيف يعملون طوال النهار لا يعرفون للراحة والكسل طعما ، وكأنهم كبارا ، يقطعون مسافات طويلة ليبيعوا ما لديهم من بضائع هي في الأصل لا تجلب لهم إلا أرباحا قليلة جدا ,(أَغْلاَلْ, ثَاهَنْدَاشْتْ, ثاَزَارْثْ )..وما شابه ذلك من “السلع” الموسمية. كل من رآهم كان على يقين بأن مكانهم هناك كان خطأ, فموقعهم هو المدرسة ومقاعد الدراسة ..أطفال لاذنب لهم سوى فقدان عوامل الحياة الكريمة .لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا بين براثن الفقر… هي أوراق تتساقط تباعا وفي صمت رهيب جدا.. وحتى المحظوظين من الاطفال من من سنحت لهم الظروف متابعة دراستهم سرعان ما تحولت احلامهم الى كوابيس , حين شاهدوا من سبقوهم يصطفون في طوابيرالبطالة …لم تكن هناك فرص العمل في المنطقة وكانت هناك موجة كاسحة من البطالة عززت ذلك الإحساس بالعجز والإهانة.. فتح قوس..توقيع و ختم يكفيك ان تنظرإلى اعداد المتقدمين لاجتياز المباريات أو تمر من أمام باب مكاتب طلب الشغل او من أمام القنصليات …لترى كل الصورة واضحة وبالالوان … طوابير طويلة من أهل المنطقة وخصوصا من الشباب المُعطل يصطفون ويتدافعون أمام الابواب المقفلة عندا في وجوههم .. يواجهون قمع الحراس وسذاجة بعض موظفي الادارات ناهيك عن حرالصيف وصقيع الشتاء . بعضهم يقطع مئات الكيلومترات لاجتياز المباريات في أماكن أخرى أو الى قنصليات في مدن أخرى , قد يقضون ليلة كاملة, ينامون امام ابواب هذه مكاتب او امام ابواب القنصليات لتجدهم في الصباح مستعدون “للولوج” , هذا إن كانوا من المحظوظين وإن لم يكونوا كذلك ظلوا ينتظرون ولساعات وساعات طويلة في العراء … لا يشغلهم عن حرارة الجو وصوت حركة الأمعاء من شدة الجوع غير بعض الجرائد تتناقلها الأيدي في ملل و بعض الأحاديث الجانبية التي تجمع الكل بالكل…قد يختلفون في كل شيء , في وضعيتهم في اهتماماتهم وحتى في قناعاتهم وانتماءاتهم , لكن يوحدهم شئ واحد وأوحد هو الحلم و الأمل في “توقيعٍ” أو “ختمٍ” يفتح لهم آفاقا جديدة.. لمستقبل جديد. الجهوية… المؤجلة: حين سمع أهل المنطقة أحد المعطلين يتحدث عن ما يسمى “بالجهوية الموسعة” وكيف أنها ستحمل الخير للقرية ولأهلها , قالوا أن الفرج آت … سألت أحد السكان :هل سمعت بالجهوية الموسعة ؟ قال في استهزاء: نعم ومن لم يسمع عنها ” خبز الدار يأكلوه البرانى” … لم أفهم شيئا كنت سأستفسرعن الأمر أكثر, فسمعت آخر يهمس ورائي : أوليس من حقنا نحن استغلال ما تزخر به منطقتنا من مؤهلات و نكون نحن أول من يستفيد من ثرواتها خاصة منها السياحية, نظرا إلى المؤهلات التي تتمتع بها في هذا المجال، ألسنا نحن أولى بان نتمتع ونستفيد منها . وقبل أن ينهي كلامه قاطعه أحد السكان بقوله : قد لا تجد في بعض المناطق الأخرى ما نجده في هذه المنطقة ..نجد غابات وجبال وانهار وبحار وشواطئ من كل ناحية, كل مواصفات التنمية الاقتصادية والسياحية متوفرة… ورغم كل ذلك إلا أنها لم تحظى بأي اهتمام او أدناها زيارة أي مسئول لها.. والتي ربما من شأنها أن تشكل مقوم من مقومات اقتصاد حقيقي يمكنها من مواكبة المسار التنموي الذي سارت في ركبه مناطق أخرى … سمعت صوتا اخر من الجموع يصرخ: لقد زار المنطقة مسؤولون كثيرون وسمعنا على مشاريع كثيرة ستعرفها المنطقة ,ولكن يبقى الغائب في كل هذا , هو ضرورة العمل الجاد والمخلص من قبلهم للوصول بالمنطقة إلى أفضل وأرقى المستويات شأنها شأن مختلف المناطق الأخرى في باقي المغرب …والتي رغم أن الكثير منها لا تتوفر على ما تتوفر عليه هذه المنطقة من مؤهلات اقتصادية وسياحية و..إلا أنها تحظى باهتمام كبير من قبل المسئولين … فهذه المنطقة تتوفرعلى إمكانات سياحية كبيرة ، إلا أن عدم الاهتمام بها حال دون الاستفادة منها والتعرف على مكنوناتها سواء محليا أو حتى وطنيا. فبالإضافة إلى تنوع التضاريس من الشريط الساحلي إلى المرتفعات الجبلية الداخلية , هناك أيضا شواطئ جميلة، ممتدة عبر مساحات شاسعة تقع على ساحل المنطقة … هي مشاكل كثيرة وعريقة لا تنتهي وقضايا تنشب أضافرها في أهل المنطقة ولا تنفك بسهولة … وحين أدركت ان تساؤلات اهل المنطقة ممتدة ولا تنتهي , تماما كغيرتهم على منطقتهم..وبعد ان أخذت بعض الآراء الممزوجة بغضب خفي بالتباين…تظهر, انتظرت قليلا حتى يعود إلى الحوار شيء من الهدوء. كنت أراهم يصرخون تارة ثم سرعان ما يتوقفون ثم يبتسمون تارة أخرى، يتحدثون عن المنطقة وكيف أنها هاجمها الغرباء من “أهل الفاسي” وأمثاله …لم أكن افهم كثيرا ما يقولون وكنت أتحرج من السؤال كل مرة ، حاولت أن اربط ما آلت اليه المنطقة بحديث أهلها عن الغرباء و بآل الفاسي …لم أجد رابطا.. وجدت كلمات لا تجد لنفسها معادلات موضوعية ، أدركت اني ضعيف الفهم أمام حديث اهل المنطقة كما أكد لي احد سكانها. لكن علامات الاستفهام الممتدة بينهم حين كانو يتسابقون إلى الإيضاح، كانت تفصح عن أشياء كثيرة , وكنت أشعر كل مرة بأني أحتاج إلى استعادة الحديث كله وجملة جملة بل كلمة كلمة حتى أفهم جيداً ! ليبقى في الاخير ان الشئ الوحيد الذي فهمته أو هكذا بدا لي , أن لا شيء كالألم يجمعهم! لقد قالها السابقون: “آخر الدواء الكي” ! ويبدو أن لا بديل لأهل القرية عن… الوحدة .!. افترقت الجموع وسارت في اتجاه واحد ,سريعة كانت خطاها وكأنما هنالك دفع من الخلف، يلهب أقدامها , سمعت كلابا تعوي كانت تسير خلف الجموع، كان الصمت يلفهم إلا من صوت ارتطام أقدامهم بالارض…وبعض الهمهمات التي تنفس الصدور من التعب، لم يخلفوا ورائهم سوى بعض الاطفال يصرخون: متى تتحقق احلامنا ؟ ولما لم يسمعوا أية إجابة أردفوا قائلين: تعالوا يا …أهل الدار. فهذه قريتكم ,أعطتكم حبها وترعرعتم في حضنها وقد جاء اليوم لتردوا شيء من جميلها…حتى تدخل هي الاخرى ضمن قائمة المواقع التي نحب أن تكون فيها و بينها ويبدأ مجال الاستثمار الحقيقي فيها…وتتحقق “الجهوية” فيها…ولكن هذه المرة بمفهومها الشامل و….الحقيقي. “الفردوس الساحلي” .. فى يوم جديد, عاد أهل القرية للتجمع والحديث مرة أخرى ..بعد ان سمعوا خبرالطريق الجديد , حلم البعض وحمل أمتعته ليستعد للرحيل.. إلى أماكن قريبة من الطريق الجديد المزدوج .ودَّعوا الطريق الترابي ورحبوا بالساحلي …واستبشروا خيرا… قال أحدهم : يكفي أن أقف على جنب الطريق وأبيع بيضا… قال آخر :على الطريق الجديد, سأبيع البنزين الجزائري المهرب .. قال أخر: فرصة , لأكتب رسالة وأمدها الى ملك البلاد والذي سيمر يوما ما حتما بهذا الطريق.. حتى ان أحد اهل القرية قال انه سينتظر السياح على الطريق الجديد ليقودهم الى اكتشاف المنطقة الجبلية…في قريته !! حلم أهل البلدة كثيرا بالخيرالمنتظر! ونجح هذا الحلم في حمل بعض سكان المنطقة على الرحيل إلى أماكن قريبة من الطريق الساحلي…إلى أرض قيل عنها قديما أنها غير صالحة للسكن, من هؤلاء من ترك كل شئ وراءه…ليجاور الخير والرزق الذي قيل انه سيحمله معه الطريق الساحلي لكل المنطقة…قيل أنه طريق سيفتح أبواب الخير للسكان ويمدهم بقنوات لكسب العيش, وانه قد يكون من الكرامات أو إحساس يحمل التفاؤل بالمستقبل . وقد يكون صوت داخلي يحمل أحلاما على وشك أن تتحقق. قيل الكثير عن هذا الطريق …لدرجة أن أحد أبناء القرية “بحث” و” نبش” في تاريخ أجداده ليكتشف أن له حق في قطعة أرض قرب الطريق الساحلي كان قد “استبدلها” أجداده قديما بقطعة أرض أخرى ليبنوا فيها سكنا بما أن البيوت قديما كانت تنشأ قرب الجبال اوقرب الأودية أوعلى ضفافها .. ظن المسكين أن أبواب الجنة قد فُتحت له ..وما كان عليه إلا أن سلك طريق المحاكم .. جمع أهل القرية وشيوخها ليشهدوا “شهادة حق” على انه يملك هو الآخر مكانا بجانب “الفردوس الساحلي” .. مرت الأيام وألف اهل القرية هذا الطريق ووقف بائع البيض على جنبات الطريق طويلا وحده ينتظر… وبيض الدجاج كاد يفقس الكتاكيت بسبب شدة الحرارة ،أكوام نسوة كن يعرضن للبيع دجاجا وديوكاً هرمة خالية حتى من ريشها، وبين بائعي الدجاج وبيضها جفت أصوات أطفال على قارعة الطريق بسبب الصراخ على بضائعهم البسيطة الرخيصة…آآآثَزَارْثْ,آآآثَاهَنْدَاشْت,آآآآيِيبَاوَان…آآآثِيبِّي…!! هكذا لم يحمل محيط هذا الطريق بكل امتداداته انتظارات سكان المنطقة البسطاء . لم يحمل إلا حوادث أزهقت فيها أرواح بالجملة ناهيك عن حالات السرقة والاعتداءات على مرتادي هذا الطريق.. هو طريق لا يختلف إثنان على انه فك العزلة على الكثير من المناطق والقرى وقلص المسافات بينها وبين المدن الاخرى …واضفى على المكان رونقا وجمالا . ولكن وبالمقابل ماذا أظاف للانسان ,لأهل المنطقة غيرالأحلام والبؤس , حتى اصبح الحلم لا يفارقهم ، اصبح الحلم والبؤس صورتان واضحتان في أذهانهم..! اُوبْدايتْ /تحديث سمعتهم بالامس يتحدثون عن أشياء جديدة…يتحدثون عن بوزيدي وعن الفيسبوك …سمعتهم يتحدثون عن تونس ومصر وعن رجل اسمه بورجل البكاي وكيف انه تجاوز فترة حكم بنعلي لتونس ..وعن أشياء أخرى هي الان أجدى بالسرية.. هكذا هم أهل المنطقة … اصبحوا الان يكرهون ان تُداس كرامتهم وتُسلب حقوقهم من جديد ثم يُتهمون بعد ذلك بالتخريب الذي لا يفهمون معناه أصلاً . فأبناء المنطقة أناس طيبون لا يؤذون أحداً , يحبون الجميع ,ويحبون وطنهم أيما حب , ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة.. لا يكرهون الناس ولا يسطون على احد .. و لكن اذا ما غضبوا اكلوا لحم مغتصبيهم .. فالنحذر من….غضبهم ..! كبروا وهم يستمعون إلى أن كرامة الفرد من كرامة الوطن وان كرامة الوطن من كرامة أبنائه …! فأي وطن هذا الذي يسمح بكل هذا الذي يعيشه أبنائه وعلى أرض منطقتهم /بلدهم ؟