برد هذه السنة قارس وقوي، كأنه آتى من القطب الجنوبي، واغلب ضحاياه من المشردين والفقراء الذين تفاقمت معاناتهم بسببه ، لعدم وجود مأوى لهم، دفع البرد القارس الذي تشهده مدينة الجديدة في مشهد لم يسبق أن تكرر من قبل، إلي وضع بعض الأسر الفقيرة أمام احد خيارين، إما شراء خروف العيد أو مزيد من الأغطية و البطاطين لمواجهة درجات الحرارة المنخفضة ،وأشار مصدر طبي إلى أن المستشفيات الخصوصية والعمومية قد عرفت زيادات ملحوظة بالناس ومعظمهم من الأطفال وكبار السن الذين يعانون أمراضا متعلقة ببرودة الطقس مثل الأنفلونزا والجفاف والالتهاب الرئوي،ومع اشتداد موجة البرد التي سادت مدينة الجديدة مند أسابيع،جريدة اسيف الالكترونية في هذا الاستطلاع قامت بجولة عبر أحياء وشوارع المدينة في صباح مبكر ووقفت على مشاهد مؤثرة رغم أنني نمت باكرا على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا، ولم يكن احد قد نهض أنداك،صدمت وأنا أسير فياتجاه منزلي بعد صلاة الفجر في المسجد بوسط المدينة قبيل فجر يوم الجمعة الفائت، فلم أر في الشارع ذو الأضواء الشحيحة غير أشباح آدمييه، مشردين مضطجعين في الشارع كالأموات افترشوا كارطونا والتحفوا غطاءا بلاستيكيا، وفي أماكن أخرى لا يخطر ببالك أن أحدا يمكن أن يبيت فيها، مشاهد أراها كل يوم تشيب لها الرؤوس وتفجع لها القلوب...،سيارات قليلة تسير على الشارع، وبالكاد شخصين أو ثلاثة يسرعون الخطى مطأطئي رؤوسهم المغطاة بسبب لسع البرد القارس... ثم راح الفجر بعد ساعة يرسل خيوط ضوئه الأولى، وقد لا تصدق نفسك وأنت تسير على الطريقفي اتجاه المحطة الطرقية، حين تفاجأ بأن هناك أناسا آخرون بالقرب من الحوانيت والدكاكين التي لازالت مغلقة يبيتون في العراء بلا مأوى آمن، وبلا حياة كريمة، في عز موجة البرد الشديد الغير مسبوقة التي تسود المدينة كما هي باقي المدن المغربية، وهي الأسوأ منذ عشرات السنين، و حاولت الاقتراب قليلا و التقطت بعض الصور، مشردون صغارا وكبارا لا يعرفون الليل من النهار ولا مأوى يسترهم،يعيشون من الإحسان ومنهم من يعيش على تلميع أحذية الناس، يصعب تجاهلهم، فالمدينة كلها مزروعة بهم، و من المفارقات الغريبة أن احد الجمعيات التي تتولى مهمة العناية بالمشردين وإيواء قسم منهم لتجنبهم شر الحاجة و تجنبهم النوم على الطرقات كنا قد قمنا بزيارة مفاجئة لمقرها فلم نجد ولا مشردا واحدا داخلها لأسباب اجهلها ولا يعرفها إلا العارفون ببواطن الأمور، ولكن يبدو الواقع أحيانا أقسى من الخيال.. فالمشردون يعيشون حياة البؤس ويتجرعون أقسى أنواع المعاناة، لا يعرفون من جمعيات المشردين سوى الإهمال لأنها لم تنظر جديا في وضعهم المزري ولا في حياتهم الصعبة،فكم من أطفال بؤساء يعانون من البرد ترتجف أوصالهم و ترتعد أطرافهم و هم يبحثون عن لقمة دافئة تدفئ أمعاءهم الخاوية، و أيضا شيوخ أنهكتهم السنوات و هم لا زالوا يجوبون الشوارع في البرد القارس يستجدون الناس طعاما دافئا أو غطاء يحميهم من برد ليالي قاسية وطويلةوحين كان لابد لنا أن نتذكر أولائك الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، في هذا الصباح ، نساء ورجال اتفقوا جميعا في الملامح،و علامات الزمن تبدو على الوجه خطوطا وتجاعيد ،كانت المحطة الأولى التي توقفنا فيها مشهد يستدعي الشفقة ويسيل لأجله دمع العيون في شارع الجامعة العربية، امرأة بلغت من العمر عتيا مشردة تفترش بوابة مديرية الأملاك المخزنية قالت بما تبقى لديها من قدرة على التمييز: إن المشكلة التي تواجهني مشكلة المسكن، فأنا أعيش على هذه الحالة سنوات خلت وفي ظروف قاهرة، حيث تداهمني الرياح والأمطار والجو البارد ولا أجد مكانا احتمي فيه،وكلما حاولت إيجار غرفة تحميني من شر البرد القارس بالفندق الشعبي بحي بشريط يأتي صاحب الفندق ليطالبني بالإيجار في مساء كل ليلة، فما ذنبني وأنا لا املك في جيبي ما أسد به الرمق بالأحرى ثمن الإيجار، فطالبت هذه السيدة العجوز بحل معاناتنا مع حياة الشارع وقسوة البرد بإلحاقها بدار العجزة لأنها مقطوعة من شجرة،فماذا بقي في عمر هذه السيدة لتستحق هذه المعانات؟ و قد أصبح الجسد عندها مرهقا نحيفا حتى الرمق الأخير والى أين المصير؟، لا ادري لماذا طافت بذهني ومخيلتي في هذا الصباح عشرات وجوه المتسولين والمشردين التي أضحت مألوفة عندي مثل هذه السيدة؟ ووجدتني أتساءل بألم وتأمل،ترى كم من متشرد يعيش في العراء وفي هذا الفصل القارس ونحن لا ندري؟و انتهت زيارتي لهذا الشارع،ولكن لم تنته جولتي الصباحية بعد، فالسيدة خديجة دام زواجها أكثر من أربعين عاما لتجد نفسها متشردة في الشارع بعد أن قام ربيبها بتطليقها من والده، قضت السيدة خديجة أياما طويلة من حياتها سعيدة مغتبطة بزوجها الذي كان أرملا ورغم أنها لم ترزق بالدرية فإنها واظبت على تربية صغاره وإسعادهم ما وسعها جهدها، أربعون عاما قضتها في خدمة الأبناء والزوج ، إلي أن حل الحدث المشئوم وفاة زوجها ،كان محمد ربيبها يشتغل في ديار الغربة وبعد عودته منها نهائيا تفرغ لإدارة وتسيير ممتلكات والده وكان الطمعقد أخد بمجامع قلبه وعقله،فكر وقدر فهداه تفكيره إلى تزوير محرر قضائي وإخفاء رسم زواج السيدة خديجة من أبيه حتى يتمكن من حرمانها من الإرث وادعى أن والده كان متزوج منها عرفيا دون عقد ،فعمد إلى إحضار لفيف عدلي لاثباث زواج والده من السيدة خديجة التي طالما حملته على ظهرها وقت كان غض العود ، ومن سوء طمعه حدث أن أتبث الزواج في تاريخ 7/2/1996 ويتم طلاقها في يوم 8/3/1996 أي بفارق شهر، وبعد أن تمكن محمد من مبتغاه وحتى يخلو له الجو عمد إلى طرد زوجة أبيه إلى الشارع،فلم تجد السيدة خديجة من مكان تأوي إليه سوى أن قامت ببناء خيمة من كومة أسمال وعاشت داخلها بالرغم من البرد القارس، مند ثماني سنوات إلي اليوم كان الفضول قد استبد بي فكانت محطتي التالية زيارة من هم أحوج بالرأفة و المساعدة ، مسنين دار العجزة ،إذ لا يوجد منظر أشد وقعا في النفس من مشهد العجزة المحتاجين للعطف أكثر منهم ، كان المبنى تفوح منه رائحة الرطوبة والبرودة،بارد مثل ثلاجة،لم يسبق للشمس أن لفحت أشعتها الدافئة المكان ،حتى إني أرتجف.. يدي أدسهما في جيب معطفي الأسود و رأسي أحاول أن أجعله يختفي خلف ياقة المعطف بعد أن تجمدت ادناي، ومن انفي وفمي يخرج الهواء دافئا فأبدو كمدخن مدمن ، كانت ملامح البؤس بادية في كل مكان ومع ذلك فجولة في هذه الدار تقودك إلى مشاهد مألوفة، مسنين يتجادلون بصوت خافت،نساء مسنات يراقبن الزوار من الشرفة، وأخريات يفترشن الأرض أمام البيوت في الممرات الضيقة تلمسا لخيوط الشمس التي لن تسطع أبدا في هذه الدار،والابتسامات الدافئة تعلو شفاه بعضهن، ودفعنا و دفعتنا حرقة الأجوبة على كل أسئلتنا ونهم الفضول أن قابلنا السيد الدكتور محمد ايت احماد مندوب التعاون الوطني القطاع المشرف على هذه الدار و سألناه لماذا يوجد مثل هذه الظواهر كحالة تلك السيدة التي تبيت في العراء ومدينة الجديدة تتوفر على دار للعاجزين فتحدث قائلا: قد جرى التعامل مع مثل هذه المشاكل الواردة سلفا بمتابعة الحلول المناسبة لهذه المشاكل و طبقا لطاقة الدار الاستيعابية،والدار لا يمكنها أن تستوعب كل حالات الفئات المستهدفة، و قال السيد المندوب نتمنى في برنامج الهشاشة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الداعمة للمجتمع نتمنى إنشاء مؤسسة أو مركب اجتماعي يمكن من استيعاب كل الأعداد ونحن في استعداد أن نكون شركاء في هذا المشروع المفترض لرعاية الأفراد والمعوزين اجتماعيا ومد يد المساعدة لهم بقدر الإمكان بعد هذه الجولة في شوارع الجديدة وفي دار العجزة في هذا اليوم القارس،وهذه القصص الإنسانية التي استمعنا إليها،هناك عشرات القصص الإنسانية نسمعها أو نشاهدها لا نملك معها سوى أن نرسل تحية من الأعماق لأصحاب القلوب الرحيمة على العمل الإنساني الذي يقومون به إزاء هذه الشريحة من المجتمع الذين أتعسهم الزمن والقدر في محاولة للتخفيف من آلامهم، وهي أيضا وقفة إكبار ووفاء وكلمة حق يجب أن تقال في حق عمالة الإقليم ومندوبية التعاون الوطني اللذان هيئا الإمكانات وسبل الرعاية والعناية قدر ما وسعهم جهدهمو من هذا المنبر أيضا أود أن أشير هنا إلى نقطة هامة جدا ،وهي دعوة لنفسي قبل أن أوجهها لغيري بضرورة مراجعة حساباتنا،إذ لا يكفي الدار بتقديم الأكل والشرب والمأوى والنظافة فلابد من إضافة الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية، كما انه لابد لها أن تساعد النزيل على الخروج للتفسخ قدر الإمكان خارج الدار، بسبب افتقار هذه الأخيرة لفناء واسع يكسوه بساط أخضر أو حديقة،حتى لا يبقى المسن حبيس الجدران من وقت دخوله هذه الدار إلى أن يتوفاه الله،وفي هذا إدخال السرور في نفوس هذه الفئة التي أجبرتها الظروف على هذا الوضع، وانه لابد أن تنفتح الجمعية المكلفة بشؤون الدار على الجمعيات التي لها رغبة بإسداء مثل هذا المعروف لوجه الله وما أكثرهم .