لأن الوقت لا ينتظر يجب علينا ألا ننتظر، لأن انتظارنا في محطّات الحياة وتوقّفنا في دروبها قد يفوّت على الانسانية قاطبة مصالح كثيرة، بل وقد يجلب لها مفاسد أكثر، خاصّة مع تسارع الأحداث في هذا العصر ومواكبتها الاعلامية بشكل سريع، وتدفّق المعلومات بشكل متسارع، واتّساع الفجوة الرقمية بشكل أسرع .. ما يعني باختصار أن العالم في سرعة، ركبه لا ينتظر المتخلّف، وحضارته لا تعترف بشيء اسمه”الانتظار”… ذات يوم جمعتني مائدة الغذاء مع العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة ونخبة من أهل العلم والفضل بالجهة الشرقية، وكما هو حال الجلسات الحميمية لم تغب عن تلك الجلسة روح الدّعابة التي أضفاها عليها الأستاذ بنحمزة رغم جدّيته المعهودة، وفيما نحن نتحدّث عن بعض سقطات الوعّاظ وهفوات ” الدعاة ” الذين أبتليت بهم الأمة في هذا العصر، نطق أستاذنا بكلام تأمّلته طويلا حتى ترسّخ في ذهني وأدركت فعلا أنّ ما نبّه عليه يعتبر سببا من أسباب تخلّفنا وبقائنا في غرفة الانتظار رغم أن قطار التقدّم يمر أمامنا كل ساعة دون أن ننتبه اليه، حينا بسبب غفوتنا وغفلتنا، وأحيانا بسبب عدم جرأتنا على صعود درج بابه، لكون ذلك ربّما قد يحتاج منّا بعض الشجاعة والدُّربة ونحن لا نمتلكهما. من بين ما تفضّل به أستاذنا “ان الأمّة أبتليت بمن يتقن النّقد والسبّ والشتم والصراخ والشكوى.. ووضع الأصبع على الجرح دون القدرة على وصف الدواء له أو علاجه”، في حين، يضيف الدكتور بنحمزة “أنّ أمتنا اليوم في حاجة الى من يركّز على نقط القوة الموجودة لديها، وبث روح الاجتهاد والعمل فيها بدل جلدها وسلخها”، هذا الكلام الحكيم الصّادر عن رجل عالم خبر أمّته لسنوات ميدانيا كفاعل ديني واجتماعي، ذكّرني بكلام الدكتور ابراهيم الفقي – رحمه الله – عن الايجابية والتفاؤل وروح الاقدام والمبادرة، والثقة في النفس، وقوة التحكم في الذّات وما الى ذلك من الكلام الرائع الذي كان يتدفّق من فيه باعثا الأمل في النّاس ومعلِّما اياهم فن العيش بروح الاقدام ومحبة الحياة، وداعيا هذا الجيل الذي يقود التغيير اليوم الى مزيد من التعلّق بالحياة الكريمة رغم ما يحيط بها من صعاب وأهوال. انّ خطاب التيئيس الذي تحدّث عنه الدكتور بنحمزة هو السبب الأكبر في حلقة الانتظار التي طوّقت أعناق الكثير من أفراد أمّتنا بعدما بُرمجوا عصبيا عليه حتى أضحوا مقتنعين بأن لا بديل عنه الاّ اذا اتاهم الله خاتم سليمان، حيث ترسّخ في أذهانهم بأنّهم لا يصلحون لشيء، وعلّقوا هزائمهم على دينهم ووطنهم الى درجة أنّهم تنصّلوا من كل مسئولية وأعتبروا أنّ الأمّة هي المسئولة دون أن يعوا بأنّهم جزء من هذه الأمة التي يسبّونها، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تتغيّر بدون أن يتغيّروا. وصدق الله العظيم اذ يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(الرعد:11). أجل؛ نعلم بأن نسب البطالة و العنوسة والأمراض والأمّية والفقر و… جد مرتفعة في أوطاننا، كلّنا يعلم هذا وربما نعرف أغلب أسبابه، ونحن متّفقون عليها، لكن الذي لا نعلمه، وربما نعلمه لكن ننساه أو نتناساه هو أنّنا نتحمّل قسطا من المسئولية المشتركة في هذا كله، لأنّنا لا نبالي بالمتغيّرات التي تجري حولنا، كما أنّنا لا نكترث لبعضنا البعض، ولا نتضامن فيما بيننا؛ فكم ممن وجبت عليه الزّكاة لا يزكّي رغم أن الزكاة ركن أساس من أركان ديننا، وكم من مسلم عاقل بالغ وجبت عليه الصلاة لا يصلي رغم أن الصلاة “تنهى عن الفحشاء والمنكر”، وكم وكم وكم… انّ هذا الكم من الناس هو الذي تسبّب لنا في ما وصلنا اليه من ضمور وتدهور على جميع المستويات.. كما انّ عيبنا الأكبر أنّنا نتقن ثقافة النّقد دون أن نميّز بين “النقد البنّاء” و “النقد الهدّام”، بل ومنّا – وهذه هي الطّامة الكبرى – من يفكّر في تغيير العالم دون أن يفكّر يوما في تغيير ما بنفسه!! كلّ يوم يزداد يقيني في أنّ أمتنا في حاجة الى من يوقظ هممها من العلماء والمصلحين الذين يمكنهم أن يجمعوا كلمتها على اشعال الشموع بدل لعن الظلام. علماء وصلحاء قدوة فقهوا الدنيا بفقه الدّين وعرفوا بفقه الأولويات ما الذي ينبغي أن يقدّم وما الذي يجب أن يؤخّر من الأعمال، علماء وصلحاء يتقنون فقه الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد اذا تصادمت وتعارضت (…). انّنا في حاجة ماسة الى دعاة ووعاظ يرفضون ثقافة الانتظار، ويحاربون فلسفة التّيئيس، ويزرعون بذور الأمل وروح التفاؤل، دعاة ووعاظ لا ينظرون الى نصف الكأس الفارغ فقط، بل يحفّزهم النصف المملوء على ملء النصف الاخر، حتى يشرب منهم العدد الأكبر من العطشى في هذا الزمان الحار بكل المقاييس .. لأن الوقت لا ينتظر يجب أن تنطلق قافلة التغيير، وأنتم قادتها، فقط بدل أن تقولوا: لا نستطيع، قولوا: نستطيع باذن الله وجرّبوا فانّكم لن تخسروا شيئا، بل ستنالون أجر المجتهد الذي اذا أصاب حاز أجرين واذا أخطأ كان له أجر واحد ان شاء الله تعالى.. ولكن حتّى لا تنطلقوا من المحطّة الخطأ انطلقوا من أنفسكم أولا، وحتّى لا تفقدوا البوصلة وبالتالي الاتجاه الصحيح تزوّدوا وأعدّوا للسفر عدّته فان الحمل ثقيل والسفر طويل…