صور ميّ الشدياق في عدد سابق في "زهرة الخليج" أصابتني بالذهول. أنا التي قلّما تستوقفني نساء الإعلانات، أو صور الأزياء المعروضة في المجلات، بقيت للحظات أدقق في تفاصيل هذه المرأة العائدة من الموت، في أناقة تشهق لها عيون النساء، وبهاء ما كان لها قبل أن تعقد قرانها على التحدِّي. معجزتها ليست في بقائها على قيد الحياة، بل على قيد الأُنوثة والجَمَال. أجزاء من جسدها ما عادت موجودة، لكنها تواصل تزيين ماناب عنها من قطع غيار بشريّة. تضع ساعة ثمينة في معصم ما عاد معصمها، وخواتم كبيرة في أصابع تعرّفت لتوّها إليها، وتطلي بعناية أظفاراً لن تنمو إلاّ في ذاكرتها. لأنني كتبت ثلاثية بطلها فنان بُترت ذراعه اليسرى، تعمّقت على مدى سنوات في دراسة أحاسيس مَن فَقَد عضواً من جسده، وكُتب عليه أن يعيش يُتم الأعضاء. عدتُ إلى "عابر سرير" أبحث عن قول كنتُ كتبته على لسان بطلي وهو يحاور صديقه الصحافي. يقول خالد بن طوبال في الصفحة (111): "هذا أمر لا يفهمه إلاّ مَن فَقَد أحد أطرافه. وحده يعاني "ظاهرة الأطراف الخفيّة". إحساس ينتابه بأنّ العضو المبتور لايزال موجوداً، بل هو يمتدُّ في بعض الأوقات إلى كامل الجسد. إنه يؤلمه ويشعر بحاجة إلى حكِّه، أو تقليم أظفار يد لا توجد! كذلك الأشياء التي فقدناها، والأوطان التي غادرناها، والأشخاص الذين اقتُلِعُوا منّا. غيابهم لا يعني اختفاءهم· إنهم يتحرَّكون في أعصاب نهايات أطرافنا المبتورة، يعيشون فينا كما يعيش وطن، كما تعيش امرأة، كما يعيش صديق رحل. ولا أحد غيرنا يراهم". لا أدري، هل ستجد ميّ الشدياق نفسها في هذا الحوار، هي الْمُحاوِرَة الذكيّة التي تَمَادَت في إهانة القَتَلَة إلى حدِّ عودتها إلى بيروت، في تايور وردي في كلِّ زينتها، واختارت لحلقتها الأُولى الصحافي سركيس نعوم، آخر مَن حاورته قبل محاولة اغتيالها بساعات، كما لتقول لهم، إنّ الوقت لم يتوقف لحظة، وإنّ لا شيء ممّا أرادُوه حَدَث. مثل بيروت التي قَامَت دوماً من ركامها ودمارها، أجمل ممّا كانت وأكثر شهيّة للحياة، وكأنهم ما أحرقوها ولا قطعوا أوصالها، مثلها تطلع لنا ميّ، الخارجة من بين فكَّي الموت، جميلة عصيَّة، شُجاعة ذكيّة، أنيقة بهيّة، مُقبِلَة على الحياة بشهيّة مَن يدري أنّ الحياة لا تَمنح نفسها إلاّ لِمَن خَانَها مع الموت، وعاش السعادة كلحظة مُهدَّدة. إن كانت بيروت "ستّ الدنيا" حسب نزار، فلابد من إعلان ميّ الشدياق "ستّ بيروت". إنّها صورتها الأنثى التي قَامَت من تحت الرَّدمِ، المرأة التي "هَزَمَت القَتْل والقَاتِل"، حسب تعبير بيار ضاهر. رفضت أن تهزمها عَصَا، وأن يُقزِّم من قامتها كرسيّ. لذا، كلَّما أطلَّت أعطتنا درساً في الإرادة.. والسَّعادة. إنّها تُذكّرني بما رواه لي الصديق العزيز الدكتور غازي القصيبي، أطال اللّه عمره، عن زيارته ل"نزار قبّاني" أيام مرضه في لندن. وكان نزار، رحمه اللّه، يتكئ حينها على عَصَا بسبب كسر في وركه، أذكر أنه أصابه عند سقوطه وهو يغادر المصعد. ولم يفت الدكتور غازي القصيبي، وهو الشاعر، التنبُّه إلى حرص نزار على ألاَّ تُهين العَصَا قامته، أو تُشوّه صورة الشِّعر الذي كان يُجسِّده، أناقة وتألُّقاً. إنّه الحَرَج نفسه الذي شعر به نزار يوم زار طه حسين في القاهرة لأوّل مرة، فلم يَدْرِ كيف يعتذر لعميد الأدب عن فقدانه البَصَر في زمن فقدان الآخرين البصائر، فصاح به: ارمِ نظارتيكَ، ما أنتَ أعمَى إنّما نحنُ جوْقَة العُميانِ فما كان من القصيبي، بظرفه الشعري، إلاَّ أن صاح ب"نزار" وهو يعودُهُ: ألقِ عكازتيكَ وحدكَ تمشي إنّما نحنُ جوْقَة العرجَانِ أَفَهِمْتِ يا ميّ.. يا "ستّ بيروت"، لماذا كلَّما وقفتِ أجلسْتِنا على ذلك الكرسيّ