أصدر المؤرخ المغربي الطيب بياض مؤلفا جديدا تحت عنوان "اكتشاف الصين.. رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين" عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق الدارالبيضاء، مؤلف يدخل ضمن أدب الرحلة، حيث حاول من خلاله بياض أن يقربنا من شخصية الإنسان الصيني ومن مظاهر التحول النوعي الذي شهدته الصين. تفاصيل أكثر عن هذا المؤلف نتعرف عليها في الحوار التالي مع الكاتب الطيب بياض : كيف جاءت فكرة كتابة مؤلفكم الجديد "اكتشاف الصين"؟ كتاب "اكتشاف الصين، رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين"، هو تدوين لتجربة في السفر استمرت زمنيا زهاء أسبوعين وامتدت مجاليا من عاصمة الأنوار إلى أرض الحكيم كونفوشيوس، في إطار مهمة استطلاعية، ضمن وفد مغربي إلى جانب "قادة شباب أفارقة"، ربيع سنة 2018. الواقع أن فكرة الكتابة كانت حاضرة لدي قبل السفر ومؤطرة بتراكم في الفهم للحقل المعرفي الذي أنتمي إليه، ولصنعة المؤرخ وأدواتها، عبرت عنه في مؤلفاتي السابقة عن هذا الكتاب. فقد اشتغلت على موضوع الرحلات السفارية، عبر مدخل التمثلات لفهم مستويات الغيرية داخل خطاب الرحالة المغاربة الذين زاروا أوروبا خلال الفترة الحديثة والمعاصرة، وتوجت ذلك بإصدار كتاب سنة 2016، تحت عنوان "رحالة مغاربة في أوروبا، بين القرنين السابع عشر والعشرين تمثلاث ومواقف". واعتنيت بإبستمولوجيا المعرفة التاريخية، وتعقديات إنتاج هذه المعرفة ومركزية اللغة داخلها، في القسم الأول من كتابي: "الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن"، الصادر سنة 2019، وأكدت على مركزية الوثيقة للإشهاد على أي تجربة انسانية تُحكى، لإضفاء الموضوعية على ما تجود به الذاكرة من حكي، وهو تمرين سبق أن قمت به في كتاب "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة، أحداث 3 مارس 1973، حوار مع امبارك بودرقة (عباس)"، الصادر مطلع سنة 2020. ولما كانت رغبتي أكيدة وعزيمتي وطيدة في كتابة نص هذه الرحلة للقيام بتمرين معرفي ومنهجي عبر آلية الأدب وفعل الكتابة، استثمر فيه التراكم الحاصل في المشروع الذي أشتغل عليه، عمدت إلى تدوين يوميات الرحلة في حينها، حتى أتجنب مأزق النسيان وبياضات الذاكرة، وعززتها بوثائق وصور من قلب برنامج الرحلة. ثم تفاديا لأي كتابة حماسية أو انفعالية وضعت كل ذلك في ثلاجة المؤرخ بعيدا عن فُرن الصحفي المسكون بهاجس السبق. إلى أن سمح الوقت الفائض زمن الحجر الصحي خلال ربيع سنة 2020، بإخراج عُدة التأليف من قعرها البارد، فأتاحت لي اليوميات والصور والوثائق إعادة بناء مسار هذه التجربة في السفر، عبر آلية التأليف لتقاسمها مع الجمهور الواسع من القراء. ما هي المواضيع التي يناقشها هذا المؤلف؟ سعيت في هذا الكتاب إلى تتبع مسار الرحلة، منذ أن كانت فكرة حظوظها في التحقق شبه منعدمة، إلى غاية العودة إلى أرض الوطن. وحاولت أن أنقل للقارئ الكثير من مظاهر التحول النوعي الذي شهدته الصين، خاصة منذ دخولها ما أسمته بعصر "الإصلاح والانفتاح"، بتبنيها لما اصطلحت على تسميته ب"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، أواخر سبعينيات القرن الماضي. على أن ما كان يهمني أكثر هو تدوين تجاربها الرائدة في مجال محاربة الفقر، ومستويات التفاعل والتكامل بين الدولة والقطاع الخاص والنظام التعاوني لتحقيق هذا الغرض. كما سعيت لاستحضار المداخل التاريخية والأنثربولوجية لفهم مستويات التمايز في المشاريع التنموية بين مختلف المقاطعات الصينية، باعتبارها نموذجا قابلا للاستئناس في موضوع الجهوية، لذلك سيجد القارئ مجموعة من الاستطرادات في شكل مقارنات بين مسارات وتجارب كل من الصين والمغرب. كما توقفت عند إقلاع الصينين في مجال التقنيات، دون إهمال جوانب متعددة من حضارتهم وتراثهم ومنظومة قيمهم. وسجلت مختلف محطات مشاركة الوفد المغربي ضمن هذه الجولة الاستطلاعية. ما هي الأشياء التي شدت انتباهكم خلال هذه الرحلة؟ سأختصرها في ثلاث سمات تسم شخصية الإنسان الصيني كما فهمتها من خلال احتكاك مباشر وكثيف، أولها استلهام التراث الفكري والفلسفي والروحي كشاحذ للهمم، وباعث على العطاء بسخاء من أجل الصالح العام، ثم الإرادة في تحقيق التميز بإصرار وتوفير شروط تحققه، إلى جانب الواقعية والتواضع من موقع القوة. تحدثوا لنا عن أهمية أدب الرحلة في تلاقح الحضارات والثقافات؟ أعتقد أن ارتياد الآفاق أتاح لمن ركب موجته فرصة الاكتشاف وإثراء شخصيته، لكن نفعه انتقل من الفرد إلى الجماعة عبر آلية التدوين التي وفرت لنا تراثا ثمينا، صار يُعرف بأدب الرحلة. وقد أضحى اليوم مصدرا مهما من مصادر دراسة تواريخ وحضارات أمم مختلفة، ودخلت الدراسات الأدبية على الخط محللة خطابات هؤلاء الرحالة، مفككة لنصوصها وما بين سطورها. والنتيجة أننا أمام تجارب إنسانية رائدة في مجال التلاقح الثقافي، يقدم فيها ابن بطوطة نموذجا متميزا يستحق التأمل. وعلى ذكر موضوع ابن بطوطة والصين وما يثيره لدى الباحثين الغربيين والصينيين من أسئلة، خاصة حين تتم مقارنته بماركو بولو، اسمحي لي أن أتقاسم مع قراء منبركم قصة متضمنة في نص كتاب "اكتشاف الصين " معبرة في هذا الشأن، إذ "أذكر أن لقاء كان قد جمعني إلى جانب الزميلين عبد المجيد الجهاد وسعيد شاهي بمعهد كونفوشيوس بمدينة الدارالبيضاء مع ستة باحثين صينيين، بينهم مؤرخة وعميد كلية ونائب رئيس جامعة ومدراء مختبرات ومراكز للبحث بتاريخ 26 دجنبر 2019، فسألني أحد الباحثين الصينيين عن رأيي في الموضوع، وخاصة عن السر الذي جعل ماركو بولو معروفا ومشهورا لدى الصينيين أكثر من ابن بطوطة. فأجبت بأن الرأي عندي أن الأول تاجر تُفهم رحلته إلى الصين في سياق ترتيبات بداية الإقلاع في الضفة الشمالية للبحر المتوسط، فيما الثاني مستكشف تجول وسجل مشاهدته وتركها في عهدة الخلف على شكل دعوة تأمل الاستجابة. لكنها بقيت عبارة عن صرخة في واد، لأنها تزامنت مع فترة النكوص والأفول في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. فلم يتسلم أحد المشعل لا لنهضة أمة ولا لحفظ ذاكرة الرحالة صاحب الريادة. وفي كل الأحوال فالأول جاءت في ركابه المصائب والمحن الاستعمارية، فيما الثاني جاء رسول سِلم من حاكم بلد مجاور لكم، وجاء في أعقابه خير عميم من العلم والتجارة التي اشتهر بها المسلمون في بلادكم من بعده". رحلتكم الى اكتشاف الصين، كانت بناء على دعوة من الحزب الشيوعي الصيني الذي يستقطب المؤثرين وصناع الرأي عبر العالم العربي للتسويق لصورة الصين، إلى أي مدى استطعتم نقل هذه الصورة بحيادية من خلال مؤلفكم؟ صحيح ما تفضلت به من كون سفري إلى الصين جاء بناء على دعوة من الحزب الشيوعي الصيني في إطار مبادرة تنظيم جولات استطلاعية لما اصطلح على تسميتهم ب" القادة الشباب الأفارقة"، مباشرة بعد إطلاقها مشروع طريق الحرير الجديد. الغاية منها استضافة مجموعة من الشباب الأفارقة المنتمين لأحزاب، المفترض أنها صديقة للحزب الشيوعي الصيني، ولها شراكات معه تخول تبادل الدعوات والزيارات معها، قصد وضعهم في صورة التحول الكبير الذي تشهده الصين، انطلاقا من المعاينة الميدانية والاحتكاك المباشر مع الواقع، بعيدا عن ما تتناقله وسائل الإعلام الغربية. غير أن حضوري ضمن الوفد المغربي، الذي ضم شابين متميزين من حزب التقدم والاشتراكية، لم يكن لا بصفة حزبية ولا سياسية، بل حضرت إلى جانب أحد طلبتي في سلك الدكتوراه، بصفتي الأكاديمية بتوصية وتزكية من معهد كونفوشيوس بالدارالبيضاء، بعد أن قدمت في السنتين السابقتين عن الرحلة مساهمتين علميتين همتا موضوع "العلاقات المغربية الصينية" و"العلاقات الصينية الإفريقية"، في إطار ندوتين من تنظيم المعهد نفسه وجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء. وبالمناسبة كان الوفد المغربي الوحيد من بين الوفود المشاركة، الذي ضم أكاديميين إلى جانب سياسيين، بل ألفينا بلدنا الوحيد من بين البلدان المعنية بهذه الأيام الدراسية الذي احترم مِسطريا ما يجب أن يُتبع في مثل هذه المناسبات. ف"الرفيقين" من حزب التقدم والاشتراكية كانا اليساريين الوحيدين من بين الشبيبات الحزبية المشاركة في هذا البرنامج. كيف ذلك؟ أشرح هذا الأمر في متن الرحلة. أما عن مسألة الحياد والموضوعية والانتصار للصفة الأكاديمية، فقد كان هاجسي الأول في الكتابة، خاصة وأن العمل ليس نشازا ولا ترفا فكريا، بل يأتي في إطار تراكم ضمن مشروع مُفكر فيه دشنته منذ سنوات، محكوم بصرامة منهجية في ما يتعلق بهاته النقطة بالذات، وقد سبق أن عبرت عنها متحدثا عن المؤرخ الفرنسي فرانسوا فوريه بالقول: "لم يكن يلج مختبر المؤرخ إلا بعد أن يضع قناعاته السياسية والإيديولوجية في قارورة محكمة الإغلاق. وعيا منه أن هذه القناعات والمواقف المسبقة إن استبدت به أنتجت قراءة انتقائية لا علمية، وتحكمت في قراءته للتاريخ على المقاس الإيديولوجي، بعيدا عن الموضوعية والصرامة العلمية والنزاهة الأكاديمية". كنت أطمح، وأنا أكتب هذا النص الرحلي، إلى أن أنقل إلى القارىء كيف ما كان نوعه، هاويا أو باحثا أو صانع قرار، صورة عن معاينتي لتحقق توقع منسوب لنابوليون بونابارت مفاده: "في اليوم الذي ستنهض فيه الصين سيهتز العالم". لذلك وظفت التحليل التاريخي واستعنت بالمعالجة الأنثربولوجية، واسترشدت بمداخل لسبر أغوار تعقديات العلاقات الدولية، واتكأت على الوثيقة، واعتمدت ملحقين للاستزادة في الفهم، متطلعا للموضوعية في ما أكتب بمقاربة أكاديمية، مع الحرص على الاعتناء بجمالية اللغة، لأن النص في نهاية المطاف سرد رحلي.