آخر اتصال لي بالراحل نور الدين الصايل كان صباح يوم الجمعة خامس يونيو كنت في الطريق الى المقبرة لدفن السيد الوالد، تحدث معي معزيا مواسيا، وجدت صوته مجهدا قليلا، قال لي انه مصاب بنزلة برد خفيفة. عند نهاية المكالمة اتفقنا على اللقاء قريبا في الرباط، عندما تحين الفرصة، خاصة ان اللقاء في تظاهرة سينمائية لم يعد ممكنا بسبب كورونا. طوال مشواري المهني لم افتخر علانية يوما بمعرفتي بشخصية عمومية رغم انني كنت مقربا من البعض منهم، كنت اود ترك مساحة بين المهني والشخصي. بعد رحيل نور الدين الصايل اقول: انني احببت واحب جدا هذا الرجل. احببته عن بعد كمشاهد لبرامجه التلفزية، وعن قرب بعد مخالطتي له مهنيا.
قبل ولوج عالم الصحافة اكتشفت نور الدين الصايل تلفزيا، وهو يفتح امامي عوالم سينمائية بعيدة في برامج سينما منتصف الليل وسينما المغرب العربي بالاضافة الى السينما الافريقية. عبر مشاهدته اكتشفت السينما الصينية والكورية والروسية والتونسية، بالاضافة الي الاكتشاف الكبير لسينما افريقيا جنوب الصحراء. علاقة الصايل بافريقيا كانت الحب الاكبر. الصايل الذي بنى أسس جامعة الاندية السينمائية في المغرب عمل على نقل مفهومها الى التلفزة، فالجامعة كانت مدرسة ساهمت في تكوين العديد من السينمائيين والنقاد والصحافيين، وتاثيرها تجاوز الثقافة ليصل الى السياسة، كما ان الاندية تحولت الى محرك الثقافي للعديد من المناطق بالمغرب.
في مهرجان السينما الافريقية في خريبكة، اتذكر جلسات ما بعد منتصف الليل، كان المخرجون الافارقة يتحلقون حوله لسماع عزفه المنفرد وهو يتغنى بسينما القارة السمراء، لدرجة انه في احدى الدورات لم يتملك بعض الحضور من حبس دموعهم، وهم يستمعون لحديثه عن عشقه لسينما الجنوب. كان مهرجان خريبكة ايمانا مغربيا استشرافيا بعمقه الافريقي، والذي اكده الصايل بالشراكات العديدة التي اقامها مع دول من الجنوب، اسفرت عن تطور السينما في العديد من الدول، يكفي ان مهرجان واغادوغو كان يعلن عن برمجته علي هامش مهرجان طنجة، كما أن مختبرات المركز السينمائي ساهمت في خروج العديد من الاعمال الافريقية الى النور.
وبسبب مهرجان خريبكة كان اول عتاب بيني وبين الراحل، عندنا اتهمه ناقد بانه تدخل لمنح جائزة لفيلم مغربي، كنت اتصلت به لاخذ رايه، وهو الامر الذي لم يرق له. بعدها بمدة احتج على عنوان كتبته في جريدة « اخبار اليوم » فيه كلمة « ديكتاتور »، قبل ان تتوضح له الامور بعد قراءة المادة كاملة.
في طنجة خاض الصايل معارك كثيرة لعل اشهرها المعركة التي قامت في ندوة فيلم « فوق الدارالبيضاء الملائكة لا تحلق »، حيث اضطر منظمو المهرجان لطلب حضوره عاجلا لايقاف الهرج الذي دار في قاعة النقاش نفس القاعة شهدت بعد سنوات حملة للمطالبة برحيل الصايل عن المركز السبنمائي استعان الغاضبون باللافتات لكن الصايل ليس من النوع الذي يهرب من المواجهة جلس وحيدا في طاولة المتدخلين في مواجهة القاعة برمتها : انا وانتم كان المشهد غريبا دفع اغلب الغاضبين للانكماش، فيما حمل البعض لافتات محتشمة، انبرى لها الصايل كعادته محاربا. في مطعم الفندق طلبت منه حوارا لمجلة « الآن » اجابني اننا اكثرنا من الحوارات وانه تحدث معي عن كل شيء، اقترحت عليه ان ننجز حوارا بدون الحديث نهائيا عن السينما، سيكون حوارا مع سيد السينما بعيدا عن السينما، وفعلا حدثني عن طنجة والفلسفة والرواية والسفر وتوقف كثيرا عند روايتين : VOYAGE AU BOUT DE LA NUIT و Mort à crédit لكاتبه المفضل لويس-فرديناند سيلين
الصايل لم لكن فقط سينيفيليا، فقبل ذلك كان متفلسفا، اتذكر استضافته للمفكر بعد الله العروي في برنامج سينما منتصف الليل، واتذكر محاضرته في كلية بن مسيك حول "الصورة »، ولا انس محادثاته في طنجة مع صديقه الفيلسوف الفرنسي ادغار موران.
في مراكش كان المشهد مخالفا بعد التحاق الصايل بادارة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، ساهم في تحويل بنية المهرجان من مهرجان للسينما الاوربية الى مهرجان سينما المؤلف، عن طريق تشجيع الاعمال الاولى للمخرجين، وكذلك اعطائه بعدا امريكيا من خلال جلب كبار السبنمائيين العالميين مثل مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا واوليفر ستون وغيرهم. في مهرجان مراكش صعد يوما الكبير الافريقي عثمان صامبين فرحا بالمهرجان وبتكريم المغرب المتعدد له، قبل ان يقول ما معناه انه لم يعد الافارقة في حاجة الي للذهاب لمهرجانات اوربا فقد اصبح لهم مهرجان مراكش. عصمان صامبين الذي سيعمل بعد ذلك الصايل على اطلاق اسمه على الجائزة الكبرى لمهرجان خريبكة للسينما الافريقية
قبل كل ذلك الصايل كان وراء رفع عدد الافلام المغربية المنتجة سنويا، كان البعض يعاتبه بدعوى انه يميل الي بعض المخرجين او الى صنف معين من السينما، ربما كان هذا عيب الراحل الذي كان واضحا جدا ومتنورا بشكل مباشر ومحاربا للتطرف، كما كان يعرف علو السقف الابداعي للمخرجين المغاربة، وهو ما مان يغضب البعض منهم، اتذكر يوما حين قال أن حتى لو وفرنا ميزانية لانجاز فيلم مغربي تاريخي كبير فهل لدينا المخرج القادر على انجازه . الصايل المتمكن من العربية والفرنسية كان كائنا متعددا كان عاشقا للمغرب وسينما المغرب وتاريخ المغرب في مهرجان مراكش بعد عرض فيلم يا خيل الله لنبيل عيوش لمحت فرخا طفوليا في عينيه قال لي انه سعيد لان القاعة كانت ممتلئة لمشاهدة فيلم مغربي نفس الحب عبر عنه في مكالمة هاتفية من تونس بعد فوز الفيلم المغربي « فوق الدارالبيضاء الملائكة لا تحلق » بالجائزة الذهبية في مهرجان الايام السينمائية في قرطاج. بعد منافسة مع فيلم من جنوب افريقيا كان الصايل سعيدا بتحقيق فوز سينمائي ببعد سياسي.
قبل ذلك كانت دوزيم والتي بصمها الصايل بلمساته كانت له شجاعة تمرير الخبر عن الاحداث الارهابية ل 16 ماي مباشرة بعد حدوثها كما طور بنية النشرات الاخبارية للقناة والتحول للبث على مدار اليوم بالاضافة الى أنه في عهده ثمة طلاق راديو دوزيم وبوابة القناة، كما أن دوزيم ساهمت في انتاج العديد من الاعمال السينمائية المغربية والعربية والافريقية.