طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية الحكاية 12 : مع مجي ء نوالدين الصايل للمركز السينمائي تغيرت القوانين.. وتمت ازالة كل العوائق التي كانت تكبل الانطلاقة الحقيقية للسينما المغربية.. ولم يعد المخرج هو الوحيد الذي يمكنه امتلاك رخصة إنشاء شركة للإنتاج.. ولم يعد شرطا على المخرجين ان يكونوا من خريجي المدارس الفرنسية والسوفياتية والبولونية لكي يتم منحهم البطاقة المهنية …هذه القوانين الجديدة فتحت الباب أمام موجة من الشباب المتحمس الذي ظل لزمن طويل يمارس السينما بدون هوية ..وأصبح الاشتغال على أفلام قصيرة بامكانه ان يوصلك إلى البطاقة المهنية.. وبالتالي الدخول إلى عالم الاحتراف… كنا تقريبا اكثر من أربعين شابا يتلمسون خطواتهم الأولى في الإخراج السينمائي باستعمال تقنية الشريط السينمائي مقاس 35 ملم وليس بتقنية الرقمي او الفيديو كما هو مشاع الان.. وتمت تسميتنا حينها بالجيل الثالث من المخرجين المغاربة .. في طريق الاحتراف والاشتغال على الأفلام.. وحروب المهرجانات.. وسجالات النقاد.. تم انسحاب الكثير منا ..و لم يتبق من هذا الجيل الثالث الان سوى عشرة مخرجين أو أقل … بخبرتي كمساعد مخرج.. وكموظب وكحامل للدكتوراه في السينما وكمعد لبرامج في التلفزيون وكمخرج لأفلام وثائقية وكدارس للإخراج في مدرسة كندية …بهذا الزخم الفكري والتقني قررت اقتحام السينما من باب الفيلم القصير أولا.. وبإنتاج كلي على حسابي الخاص .. كانت لي شقة في الطابق الثالث قرب ماكدونالد وسط مدينة الرباط .. كنت قد اشتريت عقد كرائها … السروت بالدارجة المغربية أو خلو رجل بالمصرية .. كانت قيمة الكراء لا تتجاوز 700 درهم ..اشتريتها على أمل الاستقرار فيها حتى أكون قريبا من كل الاحتياجات الضرورية في العاصمة .. في سنة 2005 اتصلت بحسن بنعبو وهو تقنيي متعدد المواهب .. كان موظفا بالمركز السينمائي.. طلبت منه اللقاء فحضر.. وحينما عرضت عليه مشروع الفيلم القصير.. أكد لي بان الميزانية ستكون ثقيلة جدا .. خاصة كلفة الشريط الخام مقاس 35ملم ..وهوما ما أكده لنا فيما بعد ٬ كريستيان اليهودي الفرنسي المغربي الذي كان يبيع الشريط الخام آنذاك بالدارالبيضاء .. أمام هذا الوضع قررت المغامرة بكل ما أملك .. فلم اجد مفرا حينها سوى بيع ذلك المنزل الجميل .. وهكذا كان ..بعته بأرخص الأثمان ..وبثمنه اشتريت الاشرطة الخامة واكتريت المعدات من المركز السينمائي.. ووفرت ميزانية المحافظة ..وكذا تكلفة مابعد الإنتاج .. ولم يتبق لي سوى التعاقد مع الممثلين …
بريء الشاشة الودود عرفته منذ ستة عشر سنة خلت ، اشتغلنا سويا في ثلاثة أفلام فيلم "موعد في وليلي » الذي نحن بصدده وفيلم "التذكرة رقم 13" كمنتج ..و فيلم "أندرومان"... وكنت في كل عمل من هذه الأعمال أكتشف فيه شيئا جديدا… في بداية الرحلة سألت عنه بعض معارفه ودلوني عنوان أخيه كان يملك محلا للفتوغرافيا بشارع محمد الخامس آنذاك … في مساء يوم أحد مازلت أتذكر.. حملت سيناريو فيلمي القصير الذي يحمل عنوان « موعد في وليلي « واتجهت الي محل الفتوغرافيا بشارع محمد الخامس وتركت له السيناريو هناك .. انتظرت اتصاله بعد أسبوع فاتصل ..حددنا موعدا لمناقشة السيناريو والتقينا ..كان يدقق في كل شيء ..في كل صغيرة وكبيرة.. وفي أحداث السيناريو ..كان غير مقتنع بمرور الشال فوق وجه الممثل في كل مرة كانت تهرب منه الممثلة . بدون ان يعرف الهدف من ذلك .. ولما رأى ذلك في المونطاج وما حققه من نجاح هو والممثلة المبدعة عالية الركاب قال بالحرف: برافو … مضينا عقدا بكل يسر وسهولة ..لكن الاختيارات الفنية و لوازم الفيلم كانت صعبة للغاية .. ديكور التصوير كان صعبا لان حكاية الفيلم تدور بكاملها في الموقع الأثري وليلي .. توظيف الخيول كان أيضا صعبا..اختيار ملابس خاصة كاستعمال لباس محاربي الرومان وأسلحتهم ايضا كان صعبا … طموحاتي الفنية كانت شبه مستحيلة.. وكانت تجلدني في كل ليلة ..وكلما وضعت رأسي على الوسادة لكي أنام ..لكن رويدا رويدا وبالصبر الكبير تمكنت من تجاوزها .. فبفضل التواصل والاحترام و الالحاح الدائم على مكاتب وزارة الثقافة.. تمكنت من استخراج أصعب رخصة للتصوير من مديرية الآثار وان أتمكن من حجز موقع اثري على كبره لتصوير الفيلم.. وكذا بفضل تدخل أياد بيضاء مازلت احتفظ لها بالجميل .. كتدخل منتج مغربي جميل وهو فؤاد شالة لدى المنتج السينمائي صارم الفاسي الفهري الذي كان حينها مديرا لاستديوهات سيني دينا بالبيضاء وبفضلهما تمكنت من الحصول على سلاح و لباس جنود الرومان بالمجان ..فقط بوضع شيك ضمان حتى يتم استرجاع تلك الملابس والأسلحة .. لا اخفي عليكم انني كنت متخوفا جدا..جدا ..كانت مغامرة كبيرة ومجرد ارتكاب خطأ بسيط ستنهار عملية الاستعداد والتصوير معا ..وأصبح في الأخير لا منزل ولا فيلم قصير …ههههه .. أذكر أنه عندما انطلقت أطوار التصوير في فيلم "موعد في وليلي" ونحن في مدينة مولاي إدريس زرهون ، وجدنا صعوبة كبيرة في المبيت.. حيث لا وجود لفنادق هناك سوى "فندق وليلي" الذي أغلق أبوابه منذ مدة..واستأجرنا دورا للضيافة...فتسابق كل واحد منا إلى أحسن غرفة ما عدا بنعيسى الجراري..حافظ على ابتسامته المعهودة وهدوء الكبار، وحمل ملاءة ووسادة وصعد إلى شرفة الدار ونام بعيدا عن الكل.. وحتي عندما وقع شنآن مع مهندس الصوت بسبب الغرف وجمع أمتعته وغادر دار الضيافة ..بنعيسى هو من ذهب لإرجاعه وطيب خاطره بكلام وابتسامة .. عندما بدأنا التصوير ..كان في كامل حيويته ومهنيته .. همه الأساسي هو التفاني فيما تطلبه منه كمخرج .. أتذكر جيدا كم ضحكنا كثيرا حينما رفض الحصان الامتثال للممثل الذي كان يلعب دور الجندي الروماني وبالمناسبة كان اسمه رحال برطيع …وحفاظا على مخزوننا من الشريط الخام مقاس 35 ملم ..كنا نقوم بإعادات كثيرة قبل التصوير ..فطلبنا من صاحب الحصان التدخل لتهدئة روع الحصان .. جاء الرجل وطلب مني ان يسحب الحصان خارج منطقة التصوير لعشر دقائق ويعود به مستعدا للتصوير.. رفضت طلبه بحجة غروب الشمس الذي يداهمنا .. وطلبت منه ان يهدئ من روعه فقط بمداعبة غرته ان استطاع .. ظل الرجل صاحب الحصان في حيرة أمره ..ثم استجمع قوته و توجه الي وقال ..إذن ارجوكم لا تخبروا احدا بهذا الأمر .. قلنا له.. هيا قم فقط بما يلزم فغروب الشمس على الأبواب ..اخرج الرجل سجارة ووضعها في فم الحصان وأشعلها .. فعل ذلك أمام دهشة الجميع ..فوالله أن الحصان بدأ يدخن بشكل طبيعي كالانسان تماما… وحينما انتهى من التدخين وضع له كأس شاي على حجر ….فأخذه الحصان بجحفلتيه العليا والدنيا وشربه بجرعة واحدة …ونحن أمام هذا المشهد نسقط على الأرض من الضحك .. التفت إلي صاحب الحصان وقال : الان سيكون مطيعا ..يمكنكم التصوير .. وذاك ماكان فعلا ..انهينا التصوير بنجاح . لا أنكر أن مرافقة بنعيسى الجيراري لي في هذه الرحلة السينمائية..كانت فأل خير علي وعلى الفيلم كله .. وبداية موفقة في عالم سينمائي صعب مليء بالمطبات والصراعات والضرب تحت الحزام ….. عندما تسألني عن هذا الممثل الفذ المتواضع جدا.. سأقول لك بانه ابن الشعب البار ..لا ينتبه إلى الكماليات أبدا.. تشعر وأنه أغنى بكثير مما تظن… قنوع في كل شيء.. في مأكله ومشربه وحتى في طلباته المادية ..حتى عندما انتهينا من التصوير اكتشفنا عيبا تقنيا في التقاط صوته .. وظل اليوم كله يعيد تسجيل صوته في مختبر المركز السينمائي حتى نجح في ذلك… وبدون مقابل … في فيلم « أندرومان"..حين أسندت له دور مرافق بوغابة ..وهو ذلك البدوي البسيط الذي يعشق السلطة ويعيش في كنف بوغابة لارضاء هذا المبتغى البعيد المنال .. كان يأتي كل يوم لزيارتي في مكتب الإنتاج لنناقش الكثير من الجزئيات الخاصة بالشخصية .. وفي بعض الأحيان ..كان يجلب معه بعض الملابس الخاصة كاقتراح لملابس الشخصية ..تشعر وكأنه يحمل هم العمل معك .. لا أنكر أنه تحول في فيلم "أندرومان" عندما غاب مساعد المخرج .. من ممثل إلى دركي لتنظيم سير العمل ..ونجح في ذلك بتوظيفه لملكته الإبداعية التواصلية التي تمتح من روحه المرحة.. حيث يجعل الجميع في انضباط تام بدون كلام جارح أو غير لائق..فلم يعد أحد يتدمر من كثرة الانتظار..ولم يعد احد يعتبر تدخلات المحافظة أوامر علوية ..كل ذلك بوجه بشوش وبراءة مبدعة،وبخفة دم ودماثة أخلاق .. لا ينكر أحد أن لكل ممثل صفات ظاهرية طافية على محياه ، يستقبلك بها منذ الوهلة الأولى.. وتطرق بابك - هاته الصفات - دون أن تكلف نفسك عناء البحث عنها أو التنقيب في تلابيبها ..و لا غرو ان شعورا ينتابك بمعرفة قبلية للشخص منذ زمن.. لكن هي السبل فقط من تفرقت بكما .. هو ذاك ما كنت أشعر به منذ أول لقاء لي صحبة هذا الودود الطيب .. وسأكون صادقا مع نفسي إن قلت، أن صاحبنا بنعيسى الجيراري يستحق لقب " بريء الشاشة الودود» بامتياز .. فبالنظر لوجهه وكذا لأدواره ..ستقف على مسحة من البراءة في الملامح لا يمكن ان تخطئها العين .. مسحة تفرض نفسها عليك دون عناء..وتجعلك مغرما بصفاء دواخله ونقائها..وتساهم بشكل كبير في امتلاكه لملكة الإقناع ..تلك الملكة الرابط الأساس بين المرسل والمتلقي … حبه للفن والسينما عموما، حب طفولي بمسؤولية الكبار..يعتبر تصوير أي فيلم لديه كفسحة ربيعية .. آو قل .. كتلك الخرجات الدراسية التي كنا ننتظرها ونفرح بها ونحن تلاميذ صغار .. يفكر في كل صغيرة وكبيرة وتشعر أنه يحمل معك هم النجاح .. هكذا هو بنعيسى..في غضبه تستشف لمسة حب واحترام.. وفي فرحه اعتراف وتقدير .. لا مثيل لشخصيته..إنه ببساطة بريء الشاشة الودود .. المفرد بصيغة الجمع.. بنعيسى الجيراري.. محبتي إليك يا صديقي. والى الحكاية المقبلة ..حكاية قط الشاشة المدلل رفيق بوبكر