من جديد، سقط أستاذٌ مغربي ضحية العنف الهمجي في مدينة أسا. وحسب المعطيات التي تم نشرها حتى الآن فقد كان الأستاذ بصدد إنجاز محطة تقويمية، ولاحظ أن أحد التلاميذ يحاول الغش من خلال تسلم ورقة عبر النافذة من أشخاص آخرين خارج قاعة الاختبار. ولأنه، وفقط لأنه، قام بواجبه التربوي والمهني ومنع عملية الغش، فقد هاجمه التلميذ وأشبعه ضربا ورفسا أمام الجميع مما نجم عنه إسقاط سنين من أسنان الأستاذ، وإصابته بجروح وكدمات في أنحاء مختلفة من جسده. طبعا، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها أستاذ لاعتداء من هذا القبيل والمؤكد أنها لن تكون الأخيرة. فقد سبق أن كان كثير من الأساتذة المغاربة ضحايا للضرب والجرح بالسلاح الأبيض، وللرمي بالحجارة، ولأصناف أخرى من الاعتداءات. وعقب كل اعتداء تتكرر نفسُ الأسطوانة المشروخة، ويُعاد نفسُ الكلام عن "العنف المدرسي"، وتظهر أصناف من "المُحللين" و"المُنظرين" الذين لا يقفون عند حدود "العلم" فقط وإنما يذهبون إلى حد "الزيادة في العلم" أيضا. وبعد كثير من الجعجعة تعود الأمور إلى ما كانت عليه، أو حتى أنها تصير أسوأ، ويجد الأستاذ المغربي نفسه داخل حجرة الدرس بين نارين: نار العنف المادي واللفظي والنفسي الذي يتعرض له من طرف بعض المتعلمين، أو حتى بعض أولياء أمورهم أحيانا، ونار العقوبات الإدارية الصارمة التي يصبح عرضة لها إذا ما حاول ممارسة حقه في الدفاع الشرعي عن نفسه. وحتى حين يلجأ الأستاذ المعتدى عليه إلى المساطر القضائية فكثيراً ما تتحالف ضده الولاءات، والمال، والنفوذ، وعديمو الضمائر من موظفي الضابطة القضائية، والنيابات العامة، وحتى بعض المحسوبين ظُلماً على سلك القضاء الجالس، لكي يحولوه من ضحية ومعتدى عليه إلى مُجرم، بينما تلتزم الإدارة الوصية الصمت وتنتظر صدور الحكم النهائي لتدرجه في الملف الإداري للأستاذ وتعاقبه بدورها. والنتيجة هي أن الأستاذ المغربي اليوم، وخاصة في السلكين الإعدادي والتأهيلي، لم يفقد فقط ما يُفترض أن يكون له من هيبة وحُرمة وتوقير، وإنما صار هاجسُه الأول والأخير أن يتفادى الوقوع في المشاكل بأي ثمن. والمؤسف أن ذلك "التفادي" لا يمكن أن يتم، موضوعيا، إلا على حساب العملية التعليمية التعلمية وعلى حساب الجو التربوي داخل الفصل. وقد كان، ربما، من الغريب فعلا أن نرى نائبة في البرلمان المغربي مؤخرا تسائل الوزارة الوصية على القطاع، في جلسة علنية وعمومية للأسئلة الشفوية، مستنكرة أن يتقدم أستاذ بشكاية قانونية في مواجهة تلميذ اعتدى عليه بدل أن تستنكر الاعتداء على الأستاذ. فتقديم شكاية من طرف الأستاذ يُعتبر، في نظر حضرتها، "عملاً غير تربوي". أما الاعتداء عليه أثناء مزاولة مهامه التعليمية والتربوية، وإهدار كرامته أمام طلبته، فهو (ربما!) مؤشر على حُسن التربية وعلى السلوك القويم في نظر "ممثلة الأمة". صحيحٌ أن الأساتذة ليسوا كائنات من "عالم الآلهة" وأنهم بشرٌ مُعرضون مثل الجميع لارتكاب أخطاء، ومخالفات، وجُنَح، أو حتى لاقتراف جنايات. وصحيحٌ أن لا أحد يعلو على القانون. وصحيحٌ كذلك أن للمتعلمين حقوقاً لا يجوز لأي كان انتهاكُها أو المس بها، وأن لهم باعتبارهم بشراً كرامة ينبغي أن تُحمى وأن تُصان. لكن الأستاذ، بدوره، لا يقل كرامة ولا حقوقاً عن باقي البشر. وباعتباره موظفا لدى الدولة المغربية فإن من واجبها أن تحمي حقوقه وكرامته وأن تضمن له الأجواء التربوية الملائمة للقيام بمهمته. ولا أريد أن أضيف هنا أي وصف شاعري لهذه المهمة لأننا أخذنا حتى الآن ما يكفي من الكلام الشاعري الذي لم يحدث قط (للأسف الشديد) أن تحول إلى فعل. وبالتالي فقد أصبح بلا معنى على الإطلاق. أجل، وبعد الذي حصل في أسا وفي غيرها، فلا معنى اليوم لأن يُرَدد على مسامعنا، مرة أخرى، بأن "المعلم كاد أن يكون رسولا"، أو بأن "مَنْ علمني حرفا صرتُ له عَبْداً"، لسبب بسيط هو أن هذا الكلام خارج روح العصر تماماً. فالمطلوب اليوم من الرسالة التربوية والتعليمية هو أن تُكَون مواطنات ومواطنين لا إماءً وعبيداً. والأستاذ، أو المعلم، لا يكاد يصل إلى نهاية الشهر إلا بشق الأنفُس. وهو لا يحظى حتى بفرصة حقيقية للاستجمام والاستراحة في فصل الصيف، فأحرى أن يكون له التبجيل والتوقير الذي يحظى به الرسل والأنبياء. وعليه، كفى كذباً وضحكاً على الذقون! فالحري بكل مدبجي هذه الخطب العصماء، التي فقدت لونها من كثرة الاجترار، أن يوفروا علينا كل تلك الرطانة البلهاء، وأن يتركوا جانباً دغدغة المشاعر ومغازلة العواطف، عسى أن يفسحوا المجال للسؤال الحيوي الذي يواجهنا اليوم: أي مدرسة عمومية نريد؟ هل نريد مدرسة تنهض فعلاً بمهام التربية والتكوين بالجودة المطلوبة، وتُصانُ فيها كرامة وحقوق كل أطراف العملية التعليمية التعلمية؟ أم نريد مجرد فضاءات نحرس فيها المراهقين لساعات معينة خلال النهار فقط لكي لا يظلوا في الشوارع؟ إذا كانت الغاية تتمثل في الرهان الثاني، أي في توفير فضاءات لحراسة المراهقين فقط، فالدولة ليست إطلاقا في حاجة إلى أساتذة ويكفيها التعاقد مع شركات الأمن الخاص. أما إذا كانت هناك، بالفعل، إرادة حقيقية في إصلاح المنظومة التعليمية، وتكوين الأجيال الجديدة بما يضمن للبلاد تحقيق تطلعاتها التنموية المشروعة، فهذا يستوجب أن تكون المدرسة لمن يريد الدراسة. وينبغي أن نستحضر، أولاً وأخيرا، أن مهمة الأستاذ هي التكوين وليست بتاتاً هي حراسة وإصلاح المنحرفين من متعاطي أقراص الهلوسة، وحاملي الأسلحة البيضاء، ومروجي المخدرات. ولربما كان من المفيد أن نتذكر هنا أن "التلميذ" الذي كسر أسنان الأستاذ في مدينة أسا قد سبق له أن قضى عقوبة حبسية وتمت إعادته، رغم ذلك، إلى الفصل. ولا أعرف حتى الآن وفق أي نظرية تربوية يُعادُ سجين سابق للاختلاط مع التلميذات والتلاميذ داخل أسوار المدرسة، ولا أي "قُدوة حسنة" يمكنه أن يقدمها لهؤلاء اليافعين، ولا أي قوة وأي تحالفات أو تواطؤات هي تلك التي أعادت وافداً من وراء القضبان إلى الجلوس وسط المتعلمين. إنها قمة الاستهتار وأعلى درجات انعدام المسؤولية تجاه التلاميذ قبل أن تكون حُيال الأستاذ النزيه، الشجاع، الذي ضحى بسلامته البدنية وعرض نفسه للخطر حرصا على حسن سير المحطة التقويمية، وضمانا لتكافؤ الفرص بين المتعلمين. ومن أقل واجبات الجهات المسؤولة، بعد أن وقع ما وقع، أن تفتح تحقيقا دقيقا من أجل تحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات الضرورية، وإعادة الاعتبار للأستاذ المعتدى عليه، وتكريمه، والتنويه بنزاهته وشجاعته. أما إذا تجاوزنا هذه الحالة إلى الوضع العام للمدرسة العمومية المغربية، وما يعانيه المتعلمون الجادون والأساتذة اليوم، فالكل مدعو، سواء تعلق الأمر بالسلطة الحكومية المسؤولة أو بالمركزيات النقابية أو بالسلطة التشريعية، إلى العمل على سن تشريع خاص لحماية المتعلمين الجادين والمنضبطين، والأساتذة وأطر الإدارة التربوية، من كل الأجسام الغريبة والأعشاب الضارة. ولا ينبغي أن يقتصر الأمر على إصدار النصوص وإنما لا بد من وضع آليات أمنية خاصة لحماية المدرسة من المخدرات، وأقراص الهلوسة، والأسلحة البيضاء، وكل مظاهر الجريمة والانحراف. فالمدرسة (وأكرر ذلك) ينبغي أن تكون لمن يريد الدراسة. ومهمة الأستاذ (وأكرر ذلك أيضا) هي التكوين وليست بحال من الأحوال هي حراسة الجانحين أو إعادة إدماجهم لأن هناك مؤسسات، وآليات، وموظفين، وميزانيات، لهذه الغاية. وما لم نر قانونا خاصا لحماية التلاميذ الجادين، والأساتذة، و أطر الإدارة التربوية، وما لم تُنْشأ ميكانيزمات خاصة للأمن المدرسي، فسيكون علينا أن نقيم في القريب جنازة رسمية للراحلة المسماة قيد حياتها ب"المدرسة العمومية المغربية"، حتى لا أقول إن أوان هذه الجنازة الرسمية نفسَه ربما يكون قد فات.