كيث وارد أستاذ بارع في اللاهوت وفيلسوف إنجليزي، شغل سابقا أرفع كرسي في اللاهوت والعقيدة بأوكسفورد، وهو اليوم يشغل الكرسي ذاته بمعهد غريشام في لندن. هو عضو الأكاديمية البريطانية، ومساعد رئيس المؤتمر العالمي للأديان، وله أكثر من عشرين مؤلفا. الدين قوة مدمرة تغذي التعصب والتزمت والعنف، ومن دونها يمكن للبشرية أن تعيش في حال طيب حسن. والصفحات الطويلة والمظلمة من تاريخنا الإنساني، وواقعُنا المعاصر، كأنما يؤكدان هذا الحكم ويبقيان التساؤل الحذر قائما بين المجتمعات: هل شر الأديان أكبر من خيرها؟ في هذا الكتاب الذي يحمل سؤالا كبيرا خطيرا، يقدم الأستاذ الجامعي المختص جوابا عن التساؤلات المحيرة، ويستعرض الانتقادات الموجهة للدين مفردا وجمعا، ويفندها الواحدة تلو الأخرى. ويفحص أدلته من زوايا التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، ثم يقدم مرافعة حقيقية من أجل سلوك ديني كفيل بتقديم الخير للنفس والمجتمع.
يرى وارد أن من السفاهة القول إن الدين خطير، إلا إذا كان المتحدث يقصد ديناً بعينه، فعليه في هذه الحالة أن يقول إن الدين الفلاني هو الخطير ثم يأتي بعد ذلك بسلطان مبين.
الدين والعنف ويرى المؤلف أن الإسلام أصبح مشكلة حقيقية للديمقراطيات الغربية اللائكية، ولذلك يستحق هذا المشكل النظر المطول، لوجود مجموعات مسلمة جعلت أهم انشغالاتها القضاء على هذه الديمقراطيات بالقوة والعنف، وإحلال المجتمع الإسلامي العالمي الخاضع لحكم الشريعة والقانون الإسلامي محلها.
ويتهم وارد الكاتب الإسلامي الشهير سيد قطب بأنه منبع هذا التوجه وملهمه في كتابه "معالم في الطريق"، وساهم السياق السياسي العالمي المتسم بالنضال اليساري البروليتاري ضد الإمبرياليات في غمس خطاب سيد قطب ومعاصريه في هذا المناخ، ليقدم البرهان على أن الإسلام لا يقل نضالا وكفاحا عن الاشتراكية والشيوعية ضد الرأسمالية والبرجوازية المتعفنة. وفي السياق نفسه يتساءل المؤلف عما جرى للمسيحية، وكيف تحولت ديانة ولدت سلمية متسامحة إلى عقيدة للفرسان المحاربين الغزاة الذين يفتشون البيوت والضمائر؟ وكيف صار سهلا على الأباطرة والملوك أن يجعلوا الدين والآلهة في صفهم، تبارك سلطانهم وتعزز صولجانهم.
لم يكن الدين المسيحي دينا للإمبراطورية الرومانية، ولكنه كان دينا للعبيد والفلاحين والفقراء والمستضعفين. ولم يكن المسيح نموذجا للملوك المحاربين، بل دخل القدس على ظهر حمار لا على صهوة جواد مسلح فاخر. لكن العجيب أنه بعد مرور أربعة قرون على وفاته، صارت المسيحية هي الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية. ومع مرور الوقت أخذت هذه الديانة تتشرب المظاهر السياسية والاجتماعية والثقافية، ودخلت إليها العادات والتقاليد والأيدولوجيات، حتى انهارت الإمبراطورية الرومانية وجاءت إلى المسيحية القبائل الأوروبية الشمالية المحاربة عن طريق الغزوات، وتحول المسيح إلى إله محارب يقود فيالقه العسكرية أحد الحواريين –جاك- الذي ظهر في الأحلام على رأس الكتائب بسيف يقطر دما. ثم اكتملت عسكرة المسيحية بالفتوحات الإسلامية من المغرب والمشرق الإسلاميين، فأضيف البعد الديني إلى البعد الإثني والقومي لأوروبا.. وجاءت الحروب الصليبية.
الحروب والدين لا جدال في وقوع حروب دينية عبر تاريخ الإنسانية، فالكاثوليكيون حاربوا البروتستانتيين، والسنة حاربوا الشيعة، والهندوس حاربوا المسلمين.. لكن بعد الفراغ من حجة التاريخ، لا يمكن لأحد أن يماري في أن معظم النزاعات لم تكن دينية في جوهرها. وحتى في حالات الحروب الدينية، لم يكن العامل الديني منفردا في التأثير، بل كان له شركاء آخرون، كالعامل الاجتماعي والإثني والسياسي والاقتصادي.
للعثور على نماذج من الحروب اللادينية، لا داعي لأن نتعب أنفسنا بالبحث في صفحات التاريخ البعيدة، فها هو النصف الأول من القرن العشرين قريب جدا منا ويكفي للبيان والحجاج، إذ قتل فيه من البشر أكثر مما قتل في باقي العصور. والحربان العالميتان الأولى والثانية، لم تشتعلا لأسباب دينية.
فالدواعي كثيرة معقدة، أبرزها الرغبة في العلو والسيطرة، والعزة القومية، وتوسيع الإمبراطوريات والهيمنة الترابية. وعندما استدعي العامل الديني للدخول في أتون الحرب كما فعلت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، كان الدين واحدا والرب واحدا، وحشر الدين ها هنا لتعزيز الوازع القومي ليس إلا، ولم يكن للدين أي أثرة من السلوك والالتزام العملي. فأشد الحروب ضراوة وفتكا في التاريخ إذن لم تكن دينية. وفضلا عن ذلك، في النصف الأول ذاته من القرن العشرين، سقط ملايين القتلى في بلدانهم وبأيدي جيوشهم في البلدان الشيوعية، ففي الاتحاد السوفياتي الغابر قتل نحو 20 مليون شخص، وفي الصين 65 مليونا، وفي كوريا الشمالية مليونان، وفي كمبوديا مليونان. وكلها أنظمة شيوعية أخذت على عاتقها تطهير مجتمعاتها من أبنائها لسبب سياسي خالص لا وجود فيه للدين والتدين. وتمتد اللائحة الرهيبة حتى مطلع قرننا الواحد والعشرين، إذ ذكر تقرير المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2006، أن عدد المرحلين من مساكنهم داخل أوطانهم وصل إلى 25 مليونا طردتهم حكوماتهم من أراضيهم لأسباب سياسية واقتصادية وبيئية. أما المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية –المصدر الأكثر مصداقية في إحصائيات الحرب- فقد ركز تقريره لعام 2006 حول التوازن العسكري على المناطق الساخنة للعنف والتهديد العسكري: إيران والعراق وأفغانستان وكوريا الشمالية والصين. في المنطقتين الأخيرتين لا وجود لبعد ديني، أما التهديد الإيراني فمرده رغبة في امتلاك أسلحة نووية أكثر من أي اعتبار ديني. أما العراق وأفغانستان، فالمظاهر الدينية واضحة وعميقة، لكن التقرير ذكر أيضا البعد الإثني والهوياتي والصراع على السلطة ومصادر الطاقة والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والاضطهاد، على أنها الأسباب الأولى للعنف والحرب، ولا يستخدم الدين إلا عند الحاجة للتبرير عندما يكون ذلك ممكنا. ولا ينبغي أن ننسى أن الحروب في العراق وأفغانستان أشعلتها قوى إمبريالية غالبة -الولاياتالمتحدةوروسيا- سعت لقلب الأنظمة الحاكمة وفرض هيمنتها، وصار الدين بعد ذلك عاملا ضمن العوامل، لكنه جاء استجابة لمثيرات سابقة. كما ذكر التقرير أن أكثر من 260 مجموعة مسلحة غير نظامية، لا يحضر البعد الديني إلا عند قليل منها. وشدد على التصاعد المثير للخصخصة العسكرية باستخدام مجموعات من المرتزقة -قرابة 30 ألفا- في العراق وحده، والدين غائب تماما عند هذه الكتائب الخاصة.
الدين والحياة الشخصية يعقد المؤلف فصلا خاصا عن الدين وأثره في الحياة الشخصية، مجيبا عن خمسة أسئلة: هل الإيمان مصدر سعادة أم معاناة للإنسان؟ وهل ينتج التزاما أخلاقيا وإيثارا على النفس؟ وهل يرتبط بالمرض العقلي أو بالصحة والتوازن العقلي؟ وهل الدين مجرد وهم؟ وهل هو حصيلة خلل في الدماغ؟ وبما أنه من الصعب القيام ببحث عالمي يشمل جميع الأفراد المتدينين لمعرفة سعادتهم من شقاوتهم بالدين، فإن هذه المهمة قد تكفل بها الباحثون والمتخصصون في الحياة النفسية والاجتماعية للناس حسب المؤلف.
وبناء على آلاف البحوث والتجارب، فإن الملتزمين دينيا وروحيا، المؤمنين بالله وضرورة التعبد له، هم أسعد الناس في العالم وأطولهم عمرا وأحسنهم صحة وأكثرهم اطمئنانا وراحة ضمير، فالدين ليس سبب معاناة وقلق وشعور بالذنب.
وحول علاقة الدين بالمجتمع محافظة أو تغييرا، ذكر المؤلف أن الدين يقوم بدور كبير في استقرار المجتمع وتمتين العلاقات بين فئاته، ولكنه أيضا قد يكون عامل تغيير ورفض للتقليد والاستبداد والفساد. والدين أيضا سبب رئيسي في التعاطف مع المنكوبين والمحتاجين والمساكين، إذ أثبتت الدراسات أن المتطوعين لخدمة الناس يحركهم في الغالب وازع ديني. واستشهد المؤلف بأبحاث الأطباء النفسيين والعقليين الذين أثبتوا غياب أي علاقة بين التدين والأمراض النفسية والعقلية وأنواع الشخصيات البشرية. والخلاصة عند كيث وارد أن الدين أبعد ما يكون عن الاختلالات الفردية والاجتماعية والصحية والنفسية والعقلية، بل على العكس تماما، فمنافع التدين أكثر من اللاتدين.
الخير النابع من الدين الفصل العاشر والأخير من هذا الكتاب المثير، عود على بدء في الدفاع عن خيرية الدين ونفعيته للخلق أجمعين. ولقد قيل –وفق ما ذكره المؤلف- إن الدين قوة مخربة هدامة، ما حلت بقوم إلا أشقتهم وأتعبتهم وفرقتهم، وزرعت فيهم التعصب الشنيع، والبغض المقيت، والعنف الخطير، والتزمت العليل.
ألم تذهب مصداقية المسيحية أدراج الرياح بسبب الحروب الصليبية الطويلة ومحاكم التفتيش الحمقاء؟ ألم تلوث سمعة الإسلام بسبب المجموعات الدينية المسلحة؟ والهندوسية.. ألم تكشف عن وجهها البشع وهي تشعل الحرائق في مساجد المسلمين وتذبح غير الهندوس باسم الدين؟ فما أهنأ العيش بلا دين! ويرد وارد قائلا: بناء على تلك الحجة، فلنا أن نقول إن السياسة أكبر قوة تخريبية تدميرية في التاريخ الماضي والحاضر، ففي روسيا وكمبوديا قتل الملايين باسم أيدولوجية سياسية اشتراكية، وفي أميركا اللاتينية اختفى ملايين الناس في حملات عنف لا نظير لها أشعلها رجال سياسة من اليمين، ناهيك عن التزوير في الانتخابات والنفاق الأكبر والأصغر، والكذب الطويل والقصير.. ألا تكون حياتنا أكثر سعادة بلا سياسة؟ ويمكن القول أيضا إن العلم هو الآخر مصدر دمار وخراب وقتل وحروب، ألم يكن وراء القنابل الذرية والجرثومية والأسلحة المحرمة دوليا؟ ألم يكن وراء التلاعب بالجينات الآدمية والغذائية؟
والحق أنه لا يمكن الاستغناء عن السياسة والسياسيين لتنظيم الحياة والحصول على القيمة، ولا يمكن الاستغناء عن العلم والعلماء لتيسير الحياة على الناس واكتشاف المجهول، فالخيرات في السياسة والعلم أكثر من السيئات.
كذلك يقال عن الدين والمتدينين، فما أفقر هذه الحياة لو كانت بلا أنبياء، لا حواريين ولا صحابة ولا لوثر كينغ ولا غاندي أو تيريزا وغيرهم.
أما في واقعنا المعاصر، فيرى وارد في آخر كلمات من كتابه، أنه على الأديان أن تركز على تزكية جوهر الإنسان وتنمية قلبه ليكون مشعا بالخير والجمال والحق، عن ذوق وتجربة ذاتية حقيقية، وأن لا تضخم الجانب الشكلي والظاهري للتدين، لأن الأنبياء كانوا قمة في العطاء والبذل وفداء الإنسانية بقلوبهم الكبيرة المتعلقة بالحق الأعلى وليس بمظاهر زائفة كاذبة. عرض: الحسن السرات