تناقََش المآسي دائماً وكأنها حدثت في فراغ، بينما تكون كل مأساة، في الواقع، مشروطة بمحيطها المحلي والدولي. وأحداث 11 شتنبر 2001م لا تُستثنى من هاته القاعدة. ليست هناك أدلة دقيقة وقاطعة حول مُدبّر ضربات نيويورك وواشنطن، أو متى طُرحت أول مرة. هذا الكتاب ليس معنياً بالأساس بما حصل في ذلك اليوم. فقد كان هناك سيل من الصور والأوصاف جعلها تكون أكثر أحداث العنف مشاهدة وعالمية والأفضل من حيث التغطية الإعلامية خلال الخمسين سنة الأخيرة. ما أريده هو أن أكتب عن المحيط، عن التاريخ الذي سبق هذه الأحداث، عن عالم يُعامَل عملياً وكأنه موضوع محرَم في ثقافة محدودة أكثر فأكثر، تحتفي بمحاسن الجهل وتشجع على عبادة الغباء وتُمجّد الحاضر بصفته مساراً لا بديل له، موحية بأننا نعيش جميعاً في جنة استهلاكية. إنه عالم توَلِد فيه خيبة الأمل اللامبالاةَ، ولهذا السبب، تُشجَّع مِن فوق كل أشكال الهروب من الواقع عبر الخيال. الأزمة المتنامية في الأرجنتين، والتي ترمز إلى النفق المسدود الذي وصلت إليه أصولية السوق، بلغت أوْجَها في 5 شتنبر 2001م. تمّ تجاهُلها، فتلتْ ذلك انتفاضة لمختلف الطبقات الاجتماعية، ثم سقوط رئيسيْن للجمهورية في ظرف أسبوعين. لقد تعرض رضا هذا العالم على نفسه لهزة عنيفة بسبب أحداث 11 شتنبر 2001م. ما جرى (هجوم إرهابي مخطط له بإحكام على رموز القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدةالأمريكية) كان إخلالا بأمن البرّ الأمريكي؛ حدثا لم يتخوف منه ولا تخيّله أولئك الذين يخترعون اللعب الحربية لوزارة الدفاع (البنتاغون). الصدمة النفسية لم يسبق لها مثيل. هاهُم الخاضعون للإمبراطورية يردّون على ضرباتها بالمِثل. أريد أن أسأل: لماذا لم يتأثر الكثير من الناس في مناطق غير مسْلمة من العالم بما وقع؟ ولماذا احتفل آخرون كثيرون، حسب عبارة أسامة بن لادن المثيرة للقشعريرة، بكون «أمريكا ضُربت من طرف الله سبحانه وتعالى على أعضائها الحيوية»؟ في ماناغْوا، عاصمة نيكاراغوا، تعانقَ الناس في صمت. في بُورْطو أليغري، الواقعة في جنوب البرازيل العميق، ثار شبان غضباً في قاعة حفلات كبرى غاصة بالناس عندما أراد مطرب الجاز الأسود الزائر افتتاح عرضه بترديد «بارك الله في أمريكا»، فردّوا عليه بإنشاد «أسامة، أسامة». في نهاية الأمر، ألغِي الحفل الموسيقي بالمرة. كما كانت هناك مظاهر البهجة في شوارع بوليفيا. وفي الأرجنتين، حيث تظاهرن خلال سنين عديدة لمعرفة كيف ومتى «أخفى» الجيش الأرجنتيني أبناءهن، رفضت «أمهات المفقودين» المشاركة في الحِداد المعلن رسمياً. وفي اليونان، منعت الحكومة نشر استطلاعات الرأي التي بينت أن الأغلبية العظمى كانت مؤيدة للضربات، كما أن الجماهير الكروية رفضت الالتزام بدقيقتيْ الصمت داخل الملعب. في بكين، وصلت الأخبار في ساعة متأخرة من الليل فلم تشاهَد إلا بعض الألعاب النارية الموقدة احتفاء بالضربات، ولكن في الأسبوع الموالي كان ردّ الفعل أوضحَ. فبينما ظل المكتب السياسي المركزي للحزب الشيوعي الصيني متردداً لأكثر من أربع وعشرين ساعة، أصدرت وكالة الأنباء الرسمية الصينية، «هسينْوا»، شريط فيديو قصيراً يضم صور أحداث 11 شتنبر 2001م، مدعوماً بموسيقى هوليوودية لكي يتلذذ الناس باللحظة على مَهلٍ. كما عُرض شريط فيديو ثانٍ تمّ فيه مزج صور الأحداث بصور من فيلم «كينغ كونغ» (الغوريلا العملاق) وأفلام أخرى عن الكوارث. كما أعرب طلبة العاصمة بيكين الذين استجوبتهم صحيفة «نيويوركر»الأمريكية عن سعادتهم بكل صراحة. وذكّر بعضهم الصحفي المصدوم بغياب ردّ الفعل لدى الغرب عندما قصفت الطائرات الحربية التابعة للحلف الأطلسي السفارة الصينية في بلغراد. قتِل حينها ستة صينيين فقط مقارنة مع الآلاف الثلاثة التي سقطت في نيويورك، إلا أن الطلبة الصينيين أكدوا على أن أولئك الستة بالنسبة إليهم لهم نفس أهمية ضحايا نيويورك. الحاجة إلى شرح هذه الردود لا تعني أيّ تبرير لفظاعة أحداث 11 شتنبر. إنها محاولة للذهاب أبعد من التفسير التبسيطي القائل: «إنهم يكرهوننا، لأنهم يحسدوننا على حرياتنا وثرواتنا». بكل بساطة، ليست هاته هي الحقيقة. يجب علينا أن نفهم اليأس، ومعه كذلك التحمّس القاتل الذي يدفع الناس إلى التضحية بأرواحهم. وإذا استمر جهل رجال السياسة الغربيين للأسباب وواصلوا فعل ما فعلوه في السابق، فإن الأحداث ستتكرر. انتهاك الحرمة له بعض القيمة العلاجية، ولكن اعتماده خطة سياسية ليس مفيداً في شيء. كما أن حروب الانتقام المقنعة إلى حد ما التي تُشن في لحظة الغضب ليست أفضل. إن محاربة الاستبداد والجور باستعمال وسائل استبدادية وجائرة، ومقاومة تعصّب مخلص لقضيته وعديم الرأفة باتخاذ موقف مشابه في التعصب وعدم الرأفة، لن يخدم قضية العدالة ولن يجيء بأية ديموقراطية. بل من شأن ذلك أن يمدد مسلسل العنف. لقد خلقت الرأسمالية سوقاً وحيدة، لكن دون أن تمحي الفوارق القائمة بين العالميْن اللذين يواجهان بعضهما البعض عبر قاسم ظهر لأول مرة في القرن الميلادي الثامن عشر وصار مُُمأسَساً في القرن التاسع عشر. وشهد معظم القرن الميلادي العشرين عدة محاولات لتجاوز التقسيم عبر مسلسل من الثورات وحروب التحرير الوطنية ومزيج من الإثنتين، لكن في النهاية أبانت الرأسمالية بأنها بارعة ورَجوعة أكثر من سواها. وقد أدى انتصارُها إلى جعل العالم الأول خزاناً للثروات والمدبّر الرئيس لقوة عسكرية لا تخضع لأية مراقبة. أما العالم الثاني، باستثناء كوبا، فإنه محكومٌ من طرف نُخب تخدم العالم الأول أو تسعى إلى تقليده تقليداً أعمى. هذا الانغلاق في السياسة والاقتصاد تنتج عنه عواقب حتمية وخيمة ، حيث يتم تذكير المجرَّدين من القوة بضعفهم على نحو مستمر. في الغرب، الردّ العادي يتمثل في الانغماس في الرتابة التي تسود الحياة اليومية. أما في بقية العالم، فالناس يصبحون مرتبكين، ويشعرون بالعجز وتوتر الأعصاب أكثر فأكثر، فتتضاعف حدّة الغضب والإحباط واليأس. لم يعد بإمكانهم التوكل على الدولة لتقدم لهم المساعدة. القوانين تتحيّز للأغنياء. هكذا يبدأ الأكثر منهم يأساً، بحثاً منهم على حياة ذات معنى مختلف أو فقط لتكسير الرتابة، في العيش وفق قوانينهم الذاتية. العجز فيما يخص المتطوعين للانضمام لن يحصل أبداً. الدعاية للصنيع، أي تكريمُ الضعيف للقوي، سوف تدوم. إنه ردّ فعل أفرادٍ مُرَذذين على عالم لم يعد يُنصت، على رجال سياسة صاروا قابلين للتبديل، على شركات تسعى لجني الأرباح بأي أسلوب كان وعلى شبكات الإعلام العالمية المملوكة لنفس الشركات والتي انقفلتْ في تبعية متبادلة مع رجال السياسة. هذا هو البؤس الوجودي الذي يُوَلد الشعور بانعدام الأمن ويرعى كراهيات قاتلة. وإذا لم يتم جبر الضرر، فإن انفجارات العنف المتفرقة سوف تستمر وتزداد حدتها. إن أعمال العنف لا تتوقف على إرادة زعيم منفرد، مهما يكن كاريزمياً، فاتناً للجماهير، ولا على بنية منظمة وحيدة، أو وجود بلد بعينه أو تعصب عقيدة ظلامية معينة يكون المؤمنون بها مشحونين بصور مجيدة عن حياة الآخرة. للأسف، العنف شامل. فهو يتخذ أشكالا متعددة في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية. كما أنه ليس صحيحاً أن جلّ هذا العنف موجَّه ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية. المتعصبون الدينيون من كل لون كثيراً ما يُعنفون إخوانهم في الدين ممن لا يبدون خالصين في تدينهم أو صارمين مثلهم في سبيلهم إلى الله، ويكونون بذلك أشد نقداً للخرافات أو للطقوس الجوفاء التي لا معنى لها. هناك حقيقة كونية يحتاج “البنديت” (“المعلم”/ “العارف”) ورجل السياسة إلى الإقرار بها، وهي أن العبيد والفلاحين لا يطيعون أسيادهم دائماً. مرّة تلو الأخرى، خلال الاضطرابات التي تركت أثرها في العالم منذ عهد الإمبراطورية الرومانية، أثمر مزيج معين من الأحداث ثوَراناً لم يكن متوقعاً على الإطلاق. ترى لماذا سيكون الأمر مختلفاً في القرن الميلادي الحادي والعشرين؟ أريد أن أكتب عن الإسلام، عن الأساطير المكونة له وأصوله وتاريخه وثقافته وثرواته وانقساماته. لماذا لم يعرف الإسلام “عصر الإصلاح” مثلما عرفته المسيحية؟ كيف صار الإسلام متحجراً بهذا الشكل؟ هل يلزم أن يكون تفسير القرآن حكراً على علماء الدين؟ وماذا تمثل السياسات الإسلامية اليوم؟ ما هو المسار الذي أدى إلى تصاعد هذا التيار في عالم الإسلام؟ وهل يمكن عكس هذا التوجه أو تجاوزه؟ تلكم بعض الأمور التي أبحث فيها على أمل أن تشجع على مزيد من النقاش والجدال داخل “دار الإسلام” وخارجها. وتجنّباً لأي سوء فهم، لا بد لي أنْ أعترف بالآتي. المعتقدات الدينية لم يكن لها أي دور في حياتي الخاصة. فقد كنت لاأدرياً منذ الخامسة أو السادسة من عمري. وعند بلوغي عامي الثاني عشر، صرتُ ملحداً مخلصاً وظللت كذلك منذئذ، على غرار الكثير من أصدقائي الذين كبرتُ معهم. ولكنني ترعرعتُ في هذه الثقافة التي أغنتْ حياتي. من الممكن جداً إذن أن يكون المرء جزء من ثقافة معينة بدون أن يكون مؤمناً بالله. كان المؤرخ إسحاق دُويتشر يعتبر نفسه يهودياً غير يهودي، متبنياً بذلك تقليداً قديماً من التشكيك الفكري يعدّ سبينوزا وفرويد وماركس بعض رموزه. لقد فكرتُ ملياً في هذا الأمر واعتبرتُ نفسي أحياناً مسلماً غير مسلم، إلا أن التسمية ليست مناسبة تماماً، لأن لها نبرة غريبة. لا أقصد بهذا أن “دار الإسلام” تفتقر إلى مثقفين وفنانين علمانيين. ففي القرن الماضي (أي العشرين) وحده، نجد ناظم حِكمت وفايز أحمد فايز وعبد الرحمان منيف ومحمود درويش وفاضل إسكندر ونجيب محفوظ ونزار قباني وبْرامُودا أنانْتا تورْ وجبريل دْيوب مامْبيتي وآخرين غيرهم. لكن هؤلاء هم شعراء وروائيون ومخرجو أفلام، ولا يوجد لهم أندادهم في العلوم الاجتماعية. النقد الموجَّه إلى الدين يكون دائماً مضمَراً. لقد صارت الحياة الفكرية مقزَمة، مما جعل الإسلام نفسَه ديناً جامداً وارتجاعياً. وُلدتُ مسلماً، وأحدُ أخوالي، الذي كان يعتقد (خطأً) بأن الإسلام هو المصدر الرئيس للقوة المعنوية لدى الفلاحين المعدَمين على أراضي عائلتي الإقطاعية، هو الذي دمدم الشهادة في أذني اليمنى. كان ذلك في 1943م. أما المكان فهو لاهُورْ، التي كانت آنذاك تحت الحكم الإمبراطوري البريطاني. كانت لاهور مدينة كوسْمُوبُوليتية، متعددة الأعراق والثقافات، يشكل المسلمون أغلب سكانها، ويليهم السيخ عن قرب في المركز الثاني، ثم الهنود في المركز الثالث. كانت المساجد ومعابد الهندوس وتلك الخاصة بالسيخ (المسماة “غوردوارا”) تغمر الأفق في المدينة العتيقة. كانت المأساة على وشك أن تقع، ولكن لا أحد كان يدرك ذلك. جاءت المأساة بعد ذلك بأربع سنوات على شكل رياح موسمية مصحوبة بأمطار حمراء. كان عمري أربع سنوات تقريباً في شهر غشت المعلوم، عندما غادرت أخيراً الإمبراطورية البريطانية العتيقة الهندَ وتعرضت هذه الأخيرة للتقسيم. مُنحت دولة إسلامية، باكستان، لمسلمي الهند، مع أن أغلبهم كانوا إمّا غير مكترثين وإمّا غير مُدركين لِما سيعنيه ذلك. إسم “باكستان” يعني حرْفياً “أرض الأطهار”، الشيء الذي ولد فرحاً عارماً عبر أرجاء البلاد، خاصة لدى اللاجئين الذين أتوا إليها عن طواعية. شخصياً، لا أحتفظ بأي ذكريات طفولية عن التقسيم، إطلاقاً. التطهير الديني الذي تميزت به تلك السنة في المناطق الشمالية والشرقية من الهند حيث قسِّمت شبه القارة الكبرى وفق معايير دينية لم تؤثر على طفولتي. تغيرت لاهورْ كلياً. تعرض كثير من الهندوس والسيخ للاغتيال على يد جيرانهم، وفرّ الناجون منهم إلى الهند. كما عرف المسلمون في مدن شمال الهند نفسَ المصير. التقسيمات عادة ما تكون بهذا الشكل، بغض النظر عن الدين، ولو أن حضور الدين يخلق حماساً زائداً. ترجمه وأعده للنشر د. إسماعيل العثماني