بناء على مخطط بيكر الثاني صاغ المغرب مقترحه لحل النزاع في الصحراء باختيار حل الحكم الذاتي، وقد رأى فيه الكثيرون محاولة من الحكومة المغربية لربح الوقت، لكن يبدو أن الإدارة المغربية جادة في اقتراحها لإنهاء نزاع دام أكثر من 35 سنة رهنت مقدرات البلاد وأعاقت المسار الاندماجي بالمنطقة المغاربية برمتها. أهمية الإقتراح تكمن في أنه يتجاوز ذهنية الكل أو لاشيء، ويسعى إلى إيجاد حل يقوم على "التكييف المعقول"، أي إيجاد حل يرضي كل الأطراف و يحفظ ماء الوجه للجميع، بحيث لا يكون هناك غالب أومغلوب، وتتنازل الأطراف لبعضها عن الأساسي في القصة بالنسبة لكل طرف. فالحكم الذاتي يضمن للمغرب ماء وجهه بمنحه السيادة الكلية على الأقاليم الصحراوية، ويرضي كذلك كبرياء الجزائر بتخويل جبهة البوليساريو حكما حقيقيا للمنطقة. و الحل يطلب من كل طرف مراجعة بعض المقولات و المبادئ و التوجهات العميقة في سياسته. فالمغرب عليه الإلتزام باتجاه "الإرجاع" الديموقراطي، أي إرجاع السلطة من المركز السياسي في العاصمة إلى الجهات و إلى المواطنين. و لكسب ثقة البوليساريو ينبغي أن يمنح ضمانات حقيقية تؤكد لها بما لا يدع مجالا للشك بأن الحكم الذاتي سيكون كاملا و ليسا حكما خاضعا للوصاية المركزية كما كانت استقلالية الأكراد زمن صدام حسين. ومن الجانب الآخر على البوليساريو أن تضرب صفحا عن مبدإ "سيادة الدولة"، الذي في عمقه لايزيد عن كونه إيديولوجية واكبت الاحداث الدولية وتشكل الكيانات القطرية في القرنين الأخيرين و هي الآن آخذة في التآكل، و خير مثال على ذلك تنازلات الدول الأوروبية عن بعض صلاحياتها السيادية لمؤسسات الإتحاد . وينبغي أن تأخذ في الإعتبار أن شعوبا كثيرة حقيقية ليست شعوبا سيدة تعيش في دول مستقلة، كما تدل حالات شعوب البسك و الكطلان في إسبانيا، أو شعوب البريطون و الغال و الباسك في فرنسا أو حتى الكيبك في كندا، وقليلة هي الدول التي تتميز بالصفاء الإثني والعرقي. وكل الدعوات القومية هي صناعات سياسية تقوم على أوهام وأساطير ليس إلا. حل الإستقلال الذاتي كما يطرحه المغرب سيمكن من تجاوز حالة اللاسلم و اللاحرب والإنتظارية، والتي وإن كانت ترهن التنمية في كل المنطقة، فخطرها على جبهة البوليساريو أكبر لأنها قد تتجمد سياسيا هناك وتتطبع وضعية الحصار التي تضع نفسها داخلها لتكتسب دينامية مستقلة، أي أنها تخاطر بأن تتماهى "الدولة الصحراوية" مع مخيمات تندوف وأن يتمأسس هذا الكيان بفعل الاعتياد، مع مرور الوقت وعدم وجود البديل. ومعلوم أن المؤسسات لا ترتبط وجودا وانعداما بأسباب وجودها فالمؤسسات تدوم باستقلال عن أسبابها الحقيقية أو حتى و إن اندثرت هذه، أي أن خطاب بوليساريو حول إستقلال الصحراء كيتوبيا، يوشك أن تكون وظيفته التاريخية هي بناء شيء سياسي للصحراويين في مخيمات تندوف ليس إلا، إن رفضت البوليساريو تحويل وظيفته التاريخية إلى نيل الحكم الذاتي الموسع، لأن هناك فرق شاسع بين المثال الإيديولوجي ووظيفته التاريخية. وتجاوز الحالة الإنتظارية بالتوصل إلى اتفاق حكم ذاتي سيؤدي إلى تجاوز الإنتظارية التنموية ليس في المغرب فحسب، و إنما لكل دول شمال إفريقيا، وستسهم خاصة في تفعيل اتحاد المغرب العربي الذي ينذر بالإنهيار في هذه الأثناء، وهو ما يثير استياء حتى المنافس المباشر لهذا الإتحاد أي الإتحاد الأوروبي، والذي يريد أن يحيط نفسه بحزام أمن، و أن يكون مخاطبه موحد الصوت في الشمال الإفريقي، كما يرى بأن أخطار الإرهاب، الهجرة و جيران جنوبيين مفقرين كلها عوامل تجعل من بناء حد أدنى من الإندماج الإقتصادي في الجار الجنوبي، ضرورة حيوية بالنسبة للإستراتيجية الأمنية الأوروبية، ومشكلة الصحراء تحول دون هذا البناء، و هو ما يثير استياء الأوساط الأمنية الأوروبية خاصة أمام تسرب القاعدة إلى الصحراء الإفريقية، وهو ما سيدفعها إلى الضغط على مؤسسات الإتحاد لتكثيف جهودها لإيجاد حل واقعي للمشكلة لن يبتعد عن حل الاستقلال الذاتي الذي يقترحه المغرب. وهذا الإقتراح هو من ناحية أخرى حل لإشكالية الدولة المعاقة الذي تريد أن تؤسسها جبهة البوليساريو في الصحراء، فقد ولى الزمن الذي كانت تخرط في الدول تخريط عشواء، كما شائت مصالح الدول الإستعمارية حسب استراتيجيات عزل الثروات الطبيعية عن الكثافة السكانية وإقحام أقليات موالية يسند إليها حكم الأغلبيات الشعبية وترك قنابل موقوتة حدودية وإثنية، وغيرها من الإستراتيجيات التي تضمن عودة الإستعمار من النافذة بعد أن أخرج من الباب و التي تؤدي عادة إلى بروز كيانات مشوهة، تكسبها الإيديولوجية القانونية الدولية طابع القداسة كدول سيدة، بينما هي من الناحية الواقعية لا تزيد عن أن تكون تخريط خاطئ، كما تؤكد أدبيات الإقتصاد السياسي الدولي، دول في صحاري قاحلة، محرومة من مجالات حيوية و لا تتوفر حتى على منافذ بحرية. الحكم الذاتي سيمكن الصحراء من عمق ديموغرافي، اجتماعي واقتصادي تتكامل معه وتفلت بالتالي من أن تؤسس كيانا مشوها جديدا والحكم الذاتي هو في الوقت ذاته حل لتجاذبات الولاء، فمعلوم أن القبائل الصحراوية كانت تعلن بيعتها لسلطة المخزن المركزية، وهذا الولاء كان بمثابة ضرورة شرعية بالنظر إلى واجب البيعة للإمام للخروج من ربقة الجاهلية، وحتى القبائل التي كانت تعلن التمرد و تدخل في حالة السيبة لم تكن تناقش الولاء الديني و إنما السلطة الإدارية للمخزن، من ناحية أخرى، وجدت قبائل لا تعلن و لاءها للمخزن المغربي و إنما تنتمي إلى إتحاد قبلي يمتد بجذوره إلى العمق الموريطاني، و هذا التضارب في الولاءات لم تكن تخضع لمنطق إقليمي ترابي بالنظر إلى ترحال القبائل الدائم و عدم التزامها بإقليم معين وهو ما أدى إلى تموج واختلاط بين مجالات الولاء و مجالات السيبة، وهو ما يجعل حل الحكم الذاتي حلا واقعيا للمعضلة، إذ يطرح "حلاتشاركيا" لمشكلة تأبى الحلول التقسيمية لعدم تحددها الإقليمي الواضح، وتداخل الولاء يفرض حلا تداخليا شرط أن تتوفر حسن نية الأطراف والهندسة الدستورية المناسبة. وفي الوقت ذاته فإن مقترح الحكم الذاتي الموسع سيحل مشكلة تعارض الشرعية الدولية والشرعية الدينية والثقافية المحلية في الصحراء، فإذا كانت الشرعية الدولية تعكس أساسا نظام ويستفاليا الغربي المحتد و الذي يحبس العالم في إطارات جغرافية مقدسة، ورفع في القرن الماضي شعار "قداسة الحدود الموروثة عن الإستعمار"، فإن نظام استقلال ذاتي سيمكن من إدماج هذا المنطق التجزيئي الذي يتعارض والشرعية الدينية والثقافية المحلية، وفقط من باب الضرورة في إطار المشروعية الدينية التي تنادي بوحدة الأمة الإسلامية وحصر التفتيت و التجزئ في حده الأدنى. ومن جهة أخرى، على جبهة البوليساريو أن تقوم بقراءة استراتيجية حصيفة، فالظروف الدولية التي قادت إلى تحويل صراع طبقي في أساسه، -حيث كان ينشط الشباب المؤسس في حركات اليسار المتطرف في الجامعات المغربية- إلى صراع يحمل مطالب قومية، هذه الظروف لم تعد قائمة، فمعلوم أن صمم النظام المغربي بداية عقد السبعينات أمام المطالب الاجتماعية لمناضلين صحراويين، سيدفع بهم إلى تصريفها في قنوات بديلة سهرت عليها قوى المعسكرالشرقي وبتوكيل ليبيا و الجزائر، اليوم كل هذه العناصر تغيرت جذريا فلا النظام المغربي باق على درجة الصمم التي كان عليها، و لا قنوات التصريف الإشتراكية استمرت في سخائها كما أن المناخ الدولي قد ابتعد كثيرا عن مقولة "حركة التحرير" فتقريبا لم يعد لهذه المقولة محل في إطار تبدو فيه الحرب الوحيدة المشروعة هي الحرب على الإرهاب، وفقدت مقولات حركات التحرير، الإنقلابات العسكرية وحتى الثورات الشعبية بريقها وائتلاقها. وصار النضال الوحيد المشروع هو النضال السياسي وبالوسائل السلمية والذي عادة لا يؤدي إلى غالب ومغلوب وإنما إلى حلول و سط تقوم على تنازلات متبادلة. وعلى البوليساريو أن لاتغتر في هذا الصدد بدعم مجموعات دولية تصارع هي نفسها لأجل البقاء، بل وتتوسل بورقة البوليساريو وتستعملها كقارورة أكسجين. من ناحية أخرى فقد أظهرت التجارب فشل كل محاولات إجراء إستفتاء تقرير المصير و بما في ذلك الذي حاولت إجراءه إسبانيا نفسها زمن حضورها في الصحراء، والأمر لايزيد مع الوقت إلا تعسرا و استعصاء فليس من المحتمل توافق الأطراف على معايير موحدة لمن سيشملهم الإحصاء، و هو ما سيؤدي إلى إفشال كل المحاولات والمبادرات الأممية في هذا السبيل كما فشلت من قبل. وأخيرا، فإن من مصلحة جبهة البوليساريو أن تأخذ المقترح المغربي مأخذ الجد، وعوض رفضه ينبغي أن تفكر في طرق استثماره وأن تعد الضمانات التي ينبغي أن يوفرها المغرب لإنجاح المشروع، و من الأفضل أن تمتنع عن انتاج ركام إيديلوجي ينظر لرفض المقترح المغربي فلاتستطيع الخروج منه بعد أن تغطس فيه فتضيع على نفسها فرصة تاريخية، و كذلك لاينبغي أن تماهي بين إقتراح المغرب للحكم الذاتي و اقتراح فرنسا على مستعمراتها السابقة استقلالا ذاتيا، أو حتى إندونيسا في تيمور الشرقية، ففي هذه الحالات حصل مرور من اقتراح فاشل للاستقلال الذاتي إلى استقلال و في الحالة المغربية حصل مرور من اقتراح فاشل لتقرير المصير إلى اقتراح الحكم الذاتي. لأن الظروف تختلف ولأن المغرب هنا ببساطة صاحب حق حسب المشروعية الدينية، التاريخية، الواقعية والثقافية.