تتفق تعريفات الشرعية السياسية على أن رضا المحكومين وقبولهم بمن يدير شؤونهم هو الذي يعطي له الحق في ممارسة السلطة. لكن مثل هذه التعريفات هي تعريفات إجرائية للشرعية السياسية لا تكشف سوى عن مؤشرات وأدلة هذه الشرعية، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الثقافي بين هذه المجتمعات التي تمنح الرضا والقبول لحكامها لكي يبدو شرعيين في نظرها، لأن الشرعية في واقع الأمر هي قيمة، وبالتالي تنتمي إلى الثقافة وليس إلى السياسة. ولهذا ارتبط معنى الشرعية السياسية بتطور الثقافات الإنسانية، فالشرعية كانت ترتبط بالمقدس في مرحلة الثقافات القائمة على اللاهوت الديني وعلى الأسطوري والبطولي، فالسلطة في تلك المرحلة لا بد أن تستند شرعيتها والقبول بها إلى رموز تلك الثقافة التي تنهل من معين الديني والمقدس والبطولي والملحمي، بينما نرى في مرحلة الحداثة التي خلقت في أوروبا ثورة ثقافية وحضارية منذ القرن السابع عشر. ارتبط معنى الشرعية السياسية بتطور الثقافات الإنسانية، فالشرعية كانت ترتبط بالمقدس في مرحلة الثقافات القائمة على اللاهوت الديني, وفي مرحلة الحداثة انتقلت من المقدس إلى الإنساني فقد ابتعدت الثقافة عن الديني والمقدس والبطولي، ووضعت بدلا عن ذلك الإنسان في مركز الكون حيث تدور حوله كل القيم المرتبطة به كالحرية والإرادة والعقل، وبالتالي أصبح ما تحيل إليه هذه الثقافة الجديدة من قيم ومعان هي مرجعية الشرعية السياسية للسلطة، ولم تعد القداسة والتفويض الإلهي والاقتداء بالأسلاف والبطولة مرجعيات لشرعية السلطة، لأن كل هذه الرموز أمست تنتمي إلى ثقافة تراجعت وورثتها ثقافة أخرى تعلي من شأن عقل الإنسان وحريته وإرادته، فنشأت تبعا لذلك شرعية جديدة تستند على التفويض الإنساني وليس التفويض الإلهي حيث يحق للأفراد المتساوين في الإرادة وحرية العقل أن يفوضوا من يدير شؤونهم العامة فيضفون قيمة الشرعية على تصرفاته وأفعاله. هكذا تخلق مفهوم جديد للشرعية السياسية في بوتقة ثقافة الحداثة يرتكز على قاعدة رضا وقبول الجماعة طوعيا بمن فوضته أغلبيتهم بممارسة السلطة بمقتضى عقد مؤقت يستند في شرعيته إلى شرعة تمثل إرادة الجماعة وتبين حقوق وواجبات طرفي العقد، وبالتالي ظهرت مفاهيم أخرى ارتبطت بالشرعية السياسية، مثل الدستور والحرية السياسية والديمقراطية ودولة القانون. لقد كانت الحداثة قطيعة معرفية وثقافية وسياسية مع ما سبقها، فنشأت في أحضانها شرعية سياسية جديدة مرجعيتها الذوات العاقلة الحرة التي يضفي اتفاق أغلبيتها قيمة الشرعية على من بالرعية. لقد حازت ثورات الربيع العربي على مشروعيتها بمجرد توافر أسباب ودوافع قيامها، ولكن هذه المشروعية تبرر فقط عملية هدم البنيات السياسية للنظام السابق، فهي تضفي مظلة المعقولية على الثورة أثناء الصراع مع النظام القائم، وهي عمرها قصير ينتهي بنهاية النظام، أما بعد انتصار الثورة وبداية مرحلة تأسيس البديل فيصبح سؤال الشرعية السياسية ملحا، لأن الإجابة عليه هي حجر أساس البنيات السياسية والقانونية للنظام السياسي الجديد. لقد بدأت ثورات الربيع العربي تحاول الإجابة على سؤال الشرعية السياسية حسب ظروف كل قطر من هذه الأقطار، ولهذا نرى التنافس بين القوى التي شاركت في الثورة يتحول إلى صراع عنيف وان لم يكن مسلحا حتى الآن. من المعروف أن الشرعية في مثل حالة الثورات العربية، أي في حالة إزالة النظام السياسي الحاكم، يكون موضوعها البنيات السياسية والقانونية التي يستقر عليها النظام الجديد، حيث يتم تثبيتها في شرعية يتوافق أغلبية من يحق لهم التصويت في المجتمع على الرضا والقبول بها، فتصبح دستورا بعد أن أضفي القبول والرضا قيمة الشرعية على كل ما تحويه من مبادئ ومفاهيم وقيم، وبالتالي فإن ما نراه من حراك وصراع بين القوى السياسية في هذه الثورات هو خلاف حول المبادئ والمفاهيم التي يجب أن تضفى عليها قيمة الشرعية السياسية. وإذا نظرنا إلى هذه المبادئ والمفاهيم التي أصبحت بعد انتصار الثورة موضوع خلاف بين هذه القوى نجد أن معظمها هي الشعارات التي كانت ترفعها المظاهرات أثناء الثورة في المدن وفي ساحات التحرير. أهم هذه المفاهيم والمبادئ التي كانت تعبر عن الحقوق والطموحات والرؤية لمستقبل الحياة السياسية في دولة ما بعد الثورة يمكن أن نجملها في: الحرية السياسية، وحرية التعبير والتفكير، والاحتكام إلى قواعد الديمقراطية عند الاختلاف، ودولة مدنية تتساوى فيها الحقوق والوجبات بين المواطنين. نجحت هذه الثورات في اقتلاع كل ما هو سياسي، فأسقطت الأنظمة ومؤسساتها السياسية وحررت الشعوب من ديكتاتوريتها، ولكنها لم تمس مرجعية الشرعية السياسية لهذه الأنظمة لم يكن هذا الخلاف ظاهرا أثناء الصراع مع العدو المشترك، ولكن بعد انتصار الثورة وسقوط النظام أخرجت مرحلة التأسيس هذا الخلاف إلى ساحة الصراع حول شرعنة هذه المبادئ والمفاهيم، وبما أن شرعنتها تعني إضفاء قيمة الشرعية السياسية عليها، إذن كان لا بد من استدعاء الثقافة باعتبارها هي الحاضنة لكل القيم. من هنا جاء الاختلاف حول إشكالية الشرعية السياسية في ثورات الربيع العربي، وهذا في نظرنا يرجع إلى سبب جوهري يتمثل في أن هذه الثورات كانت ذات أبعاد سياسية، فقد تحولت حالة الرفض والقنوط بين مختلف فئات المجتمع إلى حالة تمرد عفوي ارتقى إلى مرحلة الفعل الثوري المتميز بوضوح الهدف وبثبات الزخم الجماعي الذي يتغذى من ارتفاع سقف التضحيات. لقد كان محرك هذه الثورات سياسيا بالدرجة الأولى، فالفعل الثوري كان موجها ضد طغيان وفساد الأنظمة وانسداد أفق المستقبل السياسي أمام هذه الشعوب، بالتالي فإن المبادئ والقيم التي حملتها شعارات الثورة كانت في الحقيقة هي الصيغة السياسية المضادة لهذه الأنظمة والمعبرة عن التطلعات السياسية لهذ الفئات في مواجهة الديكتاتورية واحتكار السلطة وفسادها ومصادرة حرية التعبير والحق في الاختلاف وانعدام المساواة وفي مواجهة تغول الدولة وشخصنتها وعدم خضوعها للقانون. لقد نجحت هذه الثورات في اقتلاع كل ما هو سياسي، فأسقطت الأنظمة ومؤسساتها السياسية، وحررت الشعوب من ديكتاتوريتها، ولكنها لم تمس مرجعية الشرعية السياسية لهذه الأنظمة، لأنه في الواقع لم تكن هذه المرجعية في البنيات والمؤسسات التي سقطت بل توجد في الثقافة التي لم يمسها التغيير، وذلك لأن هذه الثورات لم تسبقها ثورة ثقافية على غرار ما حدث لثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فالثورة الفرنسية على سبيل المثال سبقها ما عرف بعصر الأنوار، وهي ثورة ثقافية قطعت مع معظم قيم ومبادئ ومفاهيم الثقافة السابقة، فلما قامت الثورة السياسية وجدت مرجعية شرعيتها السياسية في قيم الثقافة الجديدة، التي تأسست على قيمة العقل بدلا من الميتافيزيقي، وعلى العلم بدلا من الغيبي، وعلى المساواة بين أفراد النوع البشرى بدلا من التفرقة الجنسية أو الاجتماعية، وعلى قيمة المواطنة بدلا من التمييز العرقي أو الديني، ولهذا فإن الخلاف حول شرعية السلطة السياسية كان يجري انطلاقا من قيم الثقافة التي ترسخت قبل قرنين من الثورة السياسية. هذا لم يكن حال ثورات الربيع العربي التي لم تسبقها ثورة ثقافية تؤسس لقيم ومفاهيم ومبادئ جديدة، فالثقافة العربية حافظت على إرثها القيمي والمعرفي، وظلت تدور في فضائها الميتافيزيقي ويتغذى مخيالها من المقدس والملحمي والقدري والبطولي والإلهامي، وظلت جميع الأنظمة السياسية العربية بمختلف أشكالها قادرة على أن تستمد مرجعية شرعيتها السياسية من هذه الثقافة. لم يكن بإمكان ثورات الربيع العربي أن تتجاوز ثقافة مجتمعاتها، وبالتالي بحثت عن مرجعية لشرعيتها السياسية من داخل قيم هذه الثقافة، وذلك بقصد تبيئة المفاهيم والمبادئ التي كانت تمثل شعارات الثورة وتريد أن تؤسس عليها مؤسساتها وبنياتها السياسية، وقد ترتب على ذلك أمران: أولا: أن هذه الثورات ظلت تستمد مرجعية شرعيتها السياسية من الثقافة نفسها التي كانت الأنظمة السابقة أيضا تجد فيها من القيم ما يضفي عليها شرعية سياسية. عندما قامت الثورات ظلت تستمد مرجعية شرعيتها السياسية من الثقافة نفسها التي كانت الأنظمة السابقة أيضا تجد فيها من القيم ما يضفي عليها شرعية سياسية
ثانيا: أدى الاحتكام إلى قيم نفس الثقافة لإضفاء الشرعية السياسية على هذه الثورات إلى صراع بين القوى التي شاركت فيها، فالطرف الذي يحاول انطلاقا من هذه الثقافة إضفاء الشرعية السياسية على بعض المبادئ والمفاهيم التي رفعها أثناء الثورة وجد نفسه في صدام مع طرف آخر يعد تلك المفاهيم والمبادئ هجينة ودخيلة ومتناقضة مع كل قيم الثقافة، وبالتالي لا يمكن أن تمنحها هذه الثقافة أي قيمة تضفي عليها الشرعية السياسية، فكل المبادئ والمفاهيم من أمثال الحرية السياسية وحرية الاعتقاد وإرادة الأمة والمساواة الدينية والجنسية، كلها لا تجد سندا ولا مرجعا قيميا في هذه الثقافة بشقيها التقليدي العرفي والديني. فالثورة السياسية وحدها لا تستطيع أن تشرعن هذه المفاهيم وهذه المبادئ، ومن هنا جاء الخلاف وجاءت مشكلة البحث عن حاضنة لهذه المبادئ والمفاهيم في ثقافة لم تتغير منظومتها القيمية والمفاهيمية والرمزية، مبادئ ومفاهيم نشأت في أحضان ثقافة تجعل من الإنسان بعقله وحريته صانعا لكل القيم، بينما يراد تسكينها في ثقافة لا ترى في الإنسان سوى متلق للقيم. هكذا بدا مشهد الصراع بين قوى ثورات الربيع العربي حول مرجعية الشرعية السياسية لهذه الثورات، صراعا حول الثقافة وليس حول السياسة، مما يجعله أبعد عمقا وأشد خطورة وتهديدا لمآل هذه الثورات.