أشرت في مقال " تحية لماليزيا حكومة وشعبا، فالدفاع عن فلسطينوالقدس شرف لا يستحقه إلا الأحرار والحرائر..." إلى أن القضية الفلسطينية تشكل محورا هاما في السياسة الخارجية الماليزية، فقد افتتحت منظمة التحرير مكتبها التمثيلي في كوالالمبور منذ العام 1981، بتمثيل دبلوماسي كامل، وذلك بعد تولي مهاتير محمد منصبه كرئيس للوزراء في ولايته الأولى، ما شكل بداية لدعم ماليزي عميق للقضية الفلسطينية في مواقع الفعل الدبلوماسي الماليزي الأساسية ، و بالرغم من ان الحكومات الماليزية السابقة اهتمت بالقضية الفلسطينية، إلا أن هذا الاهتمام السابق لمهاتير محمد لم يكن عنصراً أصيلاً في السياسة الماليزية، بل كان دعماً إنسانياً أحياناً، وجزءاً من التفاعل مع قضايا العالم الإسلامي أحياناً أخرى، لكن بصعود محمد مهاتير للسلطة ، أصبحت القضية الفلسطينية ومواجهة الخطاب الصهيوني جزءاً أصيلاً من السياستين الداخلية والخارجية الماليزية، وامتد التضامن وتكامل الدعم للنضال الفلسطيني بين المستويين الشعبي والرسمي... ومن المؤكد، أن إيمان محمد مهاتير ودعمه المطلق للقضية الفلسطينية ومعاداته الشرسة للمشروع والفكر الصهيونيين انعكاس مباشر لفكره السياسي المنطلق من عقيدته الدينية، فقد عزا رئيس الوزراء الماليزي الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بلاده وما سمي بالنمور الآسيوية عام 1997 إلى التدخلات الصهيونية ومؤامراتهم على بلاده. كما أن خطابه السياسي تجاه إسرائيل والصهيونية كان مباشراً وحاداً وجريئاً في كافة المناسبات، ورغم مطالبات إسرائيل بالاعتذار مراراً، إلا أنه وحكومته رفضوا التراجع عن انتقاداتهم الحادة لإسرائيل والصهيونية.. وقد دعمت ماليزيا منظمة التحرير بعد توقيع اتفاق أوسلو، وأكدت على أنها تساند كل ما تقبل به منظمة التحرير في سبيل تحقيق الدولة والاستقلال، لكن في المقابل حافظت على تحفظها وعدم ثقتها بإسرائيل وخطواتها التالية.. واستمر الدور التقليدي لماليزيا بتقديم الدعم المالي والفني للسلطة الوطنية الفلسطينية الناشئة بشكل مباشر أو عبر المنظمات الأممية ذات الصلة، كما استمر الشارع الماليزي بدعم القضية الفلسطينية، وشهدت البلاد مظاهرات واسعة لمساندة القضية الفلسطينية، خاصة عند كل عدوان إسرائيلي على قطاع غزة منذ العام 2007، إلا أن أكبر المظاهرات المساندة كانت تلك التي خرجت رفضاً لقرار "ترامب" بنقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبار المدينة المقدسة عاصمة لدولة إسرائيل عام 2017، إذ شارك الشارع الماليزي بقوة في هذه المسيرات بحضور رئيس الوزراء السابق رزاق نجيب و بمشاركة محمد مهاتير ... وألقى رئيس الوزراء الماليزي محمد مهاتير خطابات قوية ومساندة للحقوق الفلسطينية في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عامي 2018 و2019، و على إثرها تلقى اتهامات بمعاداة السامية وتحقير اليهود، إلا أنه دافع عن مواقفه واستمر عليها معتبراً أن تهم معاداة السامية تهدف لتكميم الأفواه ومنع انتقاد جرائم الاحتلال..بل أعلنت ماليزيا في تشرين الأول أكتوبر عام 2019، على هامش أعمال القمة ال18 لدول عدم الانحياز عن فتح سفارة ماليزية في فلسطين بتمثيل دبلوماسي كامل، تقام مؤقتاً بالعاصمة الأردنية عمان لتعذر فتحها في الأراضي الفلسطينية بسبب معيقات الاحتلال ... والملاحظ بعد 1981 أن التضامن الماليزي الرسمي بامتداده الشعبي مع القضية الفلسطينية، انتقل من التضامن العام الذي لم تكن فيه القضية الفلسطينية حاضراً إلزامياً في المحددات السياسية الماليزية، إلى الدعم العضوي الذي أدمج فيه محمد مهاتير القضية الفلسطينية في خطابه الرسمي وسلوكه السياسي الداخلي والخارجي، و هذا التضامن العضوي، ترجم إلى سلوك سياسي و دبلوماسي و إقتصادي ، فماليزيا تستضيف نحو 5 آلاف فلسطيني، منهم ألفا طالب جامعي يدرسون في الجامعات الماليزية لدرجات البكالوريوس والدراسات العليا، ضمن منح دراسية مجانية تمنحها الحكومة والجامعات الوطنية للطلبة الفلسطينيين. والجدير بالذكر، أن قرار رفض ماليزيا دخول المنتخب الإسرائيلي للإسكواش لأراضيها للمشاركة في بطولة العالم المقرر انطلاقها في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021، ليس بالقرار الفريد ، فقد سبق لرئيس الوزراء محمد مهاتير أن أعلن في مطلع 2019 عن عدم رغبة بلاده في استضافة أي سباحين إسرائيليين في بطولة السباحة الدولية البارالمبية المزمع عقدها في يوليو 2019.وقد اجتمع المجلس الوزاري الماليزي منتصف شهر يناير 2019 ، وقرر اعتماد موقف رئيس الوزراء بمنع السباحين بالإضافة للامتناع عن استضافة أي بطولات أو مؤتمرات دولية قادمة تشترط مشاركة إسرائيليين.. هذا الموقف القوي فسره وزير الرياضة والشباب "سيد صادق" بقوله:" إذا فشلنا في الحفاظ على مصالح اخواننا الفلسطينيين من أجل بطولة رياضية فإننا نكون قد ضيعنا ضميرنا وبوصلتنا الاخلاقية..." والموقف الماليزي المشرف جاء في وقت سارعت فيه الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية -تحت وطأة الضغوط- نحو التطبيع مع الاحتلال الصهيوني.. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه لماذا في الوقت الذي تسارع فيه القيادات العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني وقبول قطاعات واسعة من الشعوب العربية باتفاقيات التطبيع بل و انجرافها باتجاه التطبيع الشعبي ، نجد أن ماليزيا حكومة و شعبا تناهض التطبيع بقوة؟ الجواب عن هذا السؤال كامن في عنصرين هامين: أولا – دينامية و قوة المجتمع المدني الماليزي، ففي ماليزيا تنشط عشرات آلاف المنظمات الأهلية في شتى المجالات. وتمثل القضية الفلسطينية إحدى أهم القضايا الجاذبة للحراك الشعبي الماليزي حيث تتولى عشرات المنظمات الحقوقية والإغاثية والدينية أدوارا مهمة في حشد الموقف الشعبي لنصرة القضية الفلسطينية ودعم صمود الفلسطينيين.. كما تتواجد أكثر من عشرة منظمات أهلية مختصة في القضية الفلسطينية تضم في عضويتها عشرات الآلاف وتشمل التيارات الأيدولوجية والخلفيات العرقية والدينية الماليزية المختلفة. ولكون نظام الحكم في ماليزيا نظاما ديمقراطيا مفتوحا، فإن هذه المنظمات الأهلية تمثل محركا أساسيا للرأي العام الماليزي تحرص الحكومة والأحزاب السياسية جميعها على استرضاءه والاستجابة لتوجهاته... ثانيا- لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبه "أب الماليزيين " محمد مهاتير في جعل القضية الفلسطينية قضية مركزية، فقد جمع رئيس الوزراء السابق محمد مهاتير بين الصلاحيات الدستورية الواسعة والخبرة السياسية والادارية العميقة بالإضافة لشخصية كاريزمية استثنائية و مؤمنة... فالرجل التسعيني لم يتردد في مواجهة النظام الحاكم مرات عديدة أثناء عمره الطويل، وهو كما يقول للمقربين منه يحب التحدي، ولولا هذه الطبيعة الشخصية لما عاد من استراحة التقاعد إلى قيادة المعارضة وإدارة أكبر تحول سياسي في تاريخ البلاد منذ الاستقلال. و ظهرت هذه الطبيعة الصلبة لمهاتير بشكل واضح في قراره منع الرياضيين الصهاينة في وقت تتزايد فيه زيارات الوفود الرياضية والسياسية الصهيونية للعواصم العربية والإسلامية، فقوة مهاتير نابعة من الشرعية التاريخية وشرعية الإنجاز وصدق وطنيته وإيمانه، فغالبية الشعب الماليزي تكن للرجل الاحترام الكبير ... وهذا ما تأكد من خلال محطات سياسية مختلفة، ففي 2018 شهدت ماليزيا ثورة هادئة أحدثها الشعب الماليزي بوعيه و إدراكه ،عندما دفع باتجاه انتقال ديموقراطي للسلطة و أعطى صوته للمعارضة ، و كان ذلك بدافع الثقة في باني الأمة الماليزية و أب الشعب الماليزي بكل أطيافه، ففي 2013 فشل تحالف أنور إبراهيم في إزاحة نجيب عبد الرزاق من السلطة، لكن عندما تحالف مع مهاتير نجح و تمكن من محاكمة رئيس الوزراء السابق في سابقة لم تحدث في ماليزيا، و هو ما يعني أن التحدي الذي رفعه مهاتير و معه أغلبية الشعب هو محاربة الفساد و بناء دولة الحق و القانون و سيادة القانون، و بنظرنا ، قبول مهاتير بالعودة للسلطة كان من أجل تحصين البلاد مستقبلا من إنحرافات الساسة والسياسات. فالرجل ينظر لبلده على أنها أغلى من نفسه و فوق مصلحته الشخصية و السياسية.. و تجربته أكدت ذلك، فلم أصادف مواطنا ماليزيا لا يحترم الرجل و يشهد بفضله و نزاهته و تواضعه و حبه لبلده و دينه.. فمهاتير يريد ان يعلم الماليزين إصطياد السمك بأنفسهم بدل منحهم السمك جاهزا، على حد تعبير الحكمة الصينية، فهو عاد للسلطة في عام 2018 لوضع آليات قانونية وتنفيذية تمكن الشعب من ممارسة رقابة شديدة على السلطة والمال العام و منع تكرار حالات الفساد التي تمت في عهد عبد الرزاق.. و ما من شك أن هذه الاجراءات ستكون في صالح ماليزيا و تطورها و في صالح الاجيال القادمة ..فكما نجح الرجل في مواجهة الأزمة المالية لعام 1997 ووضع مجموعة من الضوابط القيود التي تمنع حركة رؤوس الاموال الساخنة باعتبارها السبب الرئيس في التأثير في السياسات المالية و النقدية وتخفيض قيمة العملة الوطنية والتأثير سليا في جهود التنمية ، و أصبحت وصفته العلاجية منهجا تتبعه مختلف البلدان لمواجهة الحالات المشابهة ، و رأينا كيف اقتبست أمريكا و أروبا سياساته لعام 1997 لمواجهة الازمة المالية للعام 2008..كذلك فإن مواجهته للفساد بعد 2018 أصبح منهجا يدرس في الجامعات ، و دول من مختلف العالم تحاول اقتباس تجربة ماليزيا لمواجهة فيروس الفساد.. والأهم فإن الرجل بعد عودته للسلطة حاول أن يجد حلولا و آليات بديلة للاشتغال لمواجهة الوضع الاسلامي المتردي، فقد دافع عن القضية الفلسطينية وواجه الممارسات الصهيونية العدوانية ضد غزة، وصرح جهارا بأنه ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، ورفض بشكل قاطع اعتراف الادارة الامريكيةبالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، كما عبر عن رفضه لصفقة القرن في الوقت الذي عبرت السعودية والامارات عن دعمها لسياسات ترامب، كما دعا الى قمة مصغرة إسلامية لتدارس هذه القضايا ووضع ألية إسلامية فعالة للاشتغال، واستبعاده لمجمل البلدان العربية، تعبير عن رفضه لسياسات هذه الأنظمة والقائمة على قاعدة الإفساد والانبطاح وخيانة الأوطان وهدم ثوابت الأمة .. وقد تم استضافة القمة في "كوالامبور" يوم 19-12-2019 وركزت القمة على سبعة مجالات رئيسية: وهي التنمية الاقتصادية، والدفاع والحفاظ على السيادة، وقيم الثقافة والحرية والعدالة، إضافة إلى مواكبة التكنولوجيا الحديثة... وتم عقد القمة بغياب السعودية، التي سبق أن انتقدها محمد مهاتير، في يوليو 2018، عندما قال في لقاء صحفي إن بلاده "مصابة بخيبة أمل من السعودية". وفي افتتاح القمة قال رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد إنه لا يريد الحديث عن الدين، ولكن عن شؤون المسلمين في العالم الإسلامي، وذلك في ظل المآسي والأزمات التي تعيشها الأمة الإسلامية، وذكر منها أزمات اللجوء والحروب الداخلية وفشل الحكومات واحتلال الأرض وظاهرة الإسلاموفوبيا...وأوضح أن مداولات القمة تسعى لمعرفة الأسباب وراء مشكلات الأمة الإسلامية، وإيجاد حلول للتغلب عليها... بعد هذه القمة سيترك مهاتير محمد منصبه و يعود لتقاعده، رغم أنه رفض تقديم الاستقالة في البداية، لأن الاتفاق المبدئي الذي تم عقده قبل الانتخابات قضى بأن يقدم مهاتير استقالته في 2020 ويخلفه في السلطة أنور إبراهيم، لكن التوتر تزايد بين الرجلين في ائتلافهما بعد امتناع مهاتير عن إعلان جدول زمني محدد للوفاء بوعده بتسليم السلطة لأنور.. ولا ينبغي فهم موقف "مهاتير" من رفض الاستقالة، على أنه تمسك بالسلطة فقد تركها في 2003 و هو في أوج عطائه و لازال بمقدوره إدارة البلاد، لكن فضل التقاعد وترك منصب المسؤولية لقادة جدد، وقد عاد للسلطة مكرها ، وربما الضغوط التي مورست عليه من قبل "الحلفاء" و "الخصوم" ، هي نتاج لمواقفه المناهضة للكيان الصهيوني و لصفقة القرن، ومحاولته الجادة لتشكيل تحالف إسلامي فعال وقوي ... فتحية تقدير وإجلال لهذا الرجل الذي نتمنى أن تنتشر عدواه بين مختلف أقطار العالم العربي والاسلامي ولا يمكن لمثله أن يصلوا الى السلطة في ظل أنظمة استبدادية تعيق الابداع وتقيد حرية الرأي وتمنع أي إمكانية للتداول السلمي للسلطة.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..