الأسبوع الماضي فرضت وزارة الاتصال قيودا جديدة على حركة كاميرا قناة الجزيرة بالمغرب، وألزم مسؤولو هذه الوزارة مكتب القناة بالرباط بضرورة التوفر على إذن مسبق قبل الانتقال إلى أية منطقة خارج الرباط للتصوير أو للحديث مع المواطنين. وقبل هذا، رفضت الوزارة منح الاعتماد لصحافيَين مهنيين (أنس بنصالح ومحمد البقالي)، يعملان في المكتب، بدعوى أن تقاريرهما “لا تعجب الحكومة”، وقبل هذا، تم إغلاق نشرة المغرب العربي التي كانت تبث من الرباط كثاني غرفة أخبار بعد الدوحة. وطبعا لا ننسى أن المدير السابق لمكتب القناة القطرية، حسن الراشدي، حوكم أمام القضاء، وعوقب بالحبس موقوف التنفيذ على تصريح “كاذب” بثته القناة عن أحداث سيدي إفني، على لسان أحد قياديي انتفاضة اجتماعية... كل هذا ماذا يعني؟ هناك سوء فهم كبير بين «CNN» العرب والمغرب، لماذا؟ بعض المسؤولين في وزارة الداخلية وبعض الأجهزة الأمنية يعتبرون أن القناة القطرية تعادي المغرب، وتركز فقط على الجوانب السلبية في يومياته، وأن جل طاقم تحريرها من “الإسلاميين”، وأن هؤلاء لهم أجندة خفية غرضها توظيف شعبية القناة وقوتها من أجل دعم التيار الأصولي في العالم العربي، وزعزعة الأنظمة المحافظة في المنطقة، ويضربون مثلا على ذلك بصعود “حماس” في غزة، واكتساحها للانتخابات الأخيرة، وكل هذا بفضل “البروباغندا” التي تبثها القناة القطرية كل يوم في عقول العرب والمسلمين، ومفادها أن فتح كلها شر وحماس كلها خير. ثم ماذا؟ البعض يضيف إلى كل هذا أن القناة القطرية موجهة من قبل الدولة الراعية ضد دول “الاعتدال العربي”، والمغرب طبعا جزء من هذا المحور الذي يضم مصر والسعودية والأردن وأغلبية الدول العربية، وأن هدف قطر ليس تبني أجندة “محور الممانعة” (إيران وسوريا ولبنان)، ولكن اللعب بورقة “الحركات الإسلامية” و”فصائل المقاومة” لتحسين الموقع التفاوضي للدوحة تجاه واشنطن، وأن الجزيرة ليست تلفزة بل أداة دبلوماسية فعالة، توجه مدفعيتها حسب نوع المعركة، وحسب العدو المستهدف من قبل الساسة القطريين... إدارة القناة لا ترى الأمر بهذه الصورة، وهي تقول إنها استثمرت الملايين من الدولارات في مكتب الرباط، قناعة منها بأنها أحسن عاصمة عربية تتوفر على هامش كبير من حرية الإعلام والصحافة، وأن اتهامات الرباط بانحياز القناة إلى صف الإسلاميين كلام مرسل لا توجد أرقام دقيقة تدعمه، وأن جل المسؤولين المغاربة لا يتحدثون أمام الكاميرا ويفضلون “الصمت”، في حين أن الإسلاميين يستغلون أفضل من خصومهم “سلاح الصورة”. وفي موضوع ارتباط خط التحرير بالخط الدبلوماسي للدولة الراعية للقناة، يقول القطريون إنه لا حسابات لديهم مع الرباط، وإنهم كانوا، ولايزالون، مستعدين للاستثمار في البلد ودعم مساره التنموي، وإن ما وقع من “احتكاكات” كان وراءه نفوذ الدولة السعودية بالمغرب أيام كانت هناك سحب عابرة في سماء الجارة الكبرى الرياض وأختها الصغرى الدوحة، وإن هذا الخلاف صار جزءا من الماضي، ولا يجب أن تبقى آثار رماله عالقة في الرباط. وجهتا نظر تستحقان العرض معا، ولكن دعونا نتحدث بمنطق “المصلحة” الوطنية. قناة الجزيرة اليوم هي وحش إعلامي.. إمبراطورية ميزانيتها السنوية أكثر من مليار دولار (القناتان العربية والإنجليزية، والوثائقية، والجزيرة للأطفال، والجزيرة مباشر، والموقع على الأنترنت، وترعى الدراسات والأبحاث ومركز التكوين والتدريب، بالإضافة إلى عشرات المشاريع الأخرى، مثل شراء حصص في تلفزيونات تركيا والبوسنة، وتمويل أفلام عالمية). القناة العربية لوحدها يشاهدها من 70 إلى 80 مليون عربي، واتفقنا أم اختلفنا حول خط تحريرها، فإنها أصبحت قناة عالمية تنافس CNN وBBC. فهل من مصلحة المغرب، الذي فشل “مهندسو” الإعلام فيه في إنشاء تلفزة ترضي المغاربة، وليس جيرانهم في المحيط العربي أو الإفريقي، أن يتخاصم مع هذه القناة، وأن يعلن الحرب عليها؟ قطعا الجواب: لا، وهذا الجواب لا يعني الاستسلام لقوتها أو الخضوع ل”نفوذها”، أبدا. الحل هو ترويض الوحش، وهناك مثل مغربي ظريف يقول: “اليد التي لا تستطيع كسرها قبّلها وادع عليها بالقطع”... الجزيرة كمجموعة إعلامية كبرى محتاجة إلى المغرب، لأن لها جمهورا في هذه البلاد الواسعة، وهو يريد مادة قريبة منه وإلا تحول إلى غيرها من القنوات، والمغرب بحاجة إلى “السلم” مع القناة، لأن له صورة وموقعا ومصالح في المنطقة، ويجب أن يدافع عن كل هذا من الداخل وفي المحيط العربي ووسط الجالية المسلمة في أوربا. ولهذا، لا بد من البحث عن “مساحات مشتركة” للقاء بذكاء وحرفية إعلامية ودبلوماسية. يستطيع السيد الناصري أن يقفل المكتب في الرباط ويطرد كل صحافيي القناة من هناك، لكنه لا يستطيع منع القناة من استضافة أكثر الأصوات “عداء” للمملكة على الهواء مباشرة من أية عاصمة أوربية أو عربية. ليس المغرب لوحده من “يؤاخذ” القناة على عدد من الأشياء، وبعض هذه المؤاخذات منطقي، لأنه في الأصل أخطاء مهنية، وبعضه غير منطقي أصله عداء بعض الأنظمة للإعلام الحر والمستقل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يجب الخلط بين قناة الجزيرة ودولة قطر، رغم أن هذه هي صاحبة تلك. هناك معادلة أكثر تعقيدا خلف هذه العلاقة، لأن الساسة القطريين يعرفون أن مصداقية أية وسيلة إعلام رهينة بدرجة الاستقلالية والمهنية الموجودة بحوزة هذه الأخيرة. وهذا لا يعني أن الدبلوماسية القطرية لا تتدخل في عمل القناة، وحالة السعودية تثبت ذلك، ولكن صحافيي الجزيرة يتوفرون على هامش للحرية أكثر من غيرهم.. هذا الهامش وراءه إرادة سياسية لأصحاب القناة، وليس مكتسبات نضالية ل”جامعة الصحافيين العرب” العاملين في الدوحة، ولهذا فمهما بلغت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وقطر من درجات التحسن، فإن القناة لن تغير خط تحريرها كليا إزاء المغرب، ولهذا لا بد من الجلوس للحوار والتفاوض مع عقول هذه القناة، ولا بد من رفع درجة تواصل المسؤولين المغاربة مع قنوات الإعلام الدولي، وهذه مهمة سياسية وإعلامية وليست مهمة أمنية.