ليست اللغة أداة تواصل فقط بين أفراد المجتمع ، بل تعتبر مقوم من مقومات الهوية الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، وكما قال الفيلسوف الألماني جوهان هردر(القرن 18) في كتابه “أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية”: فان” ثقافة شعب من الشعوب هي بمثابة الدم الذي يسري في شرايين أفراده”. وفي خضم النقاش الوطني الدائر اليوم حول المشهد اللغوي بالمغرب، وفي خضم التحامل على اللغة العربية ومحاولة النيل منها ونعتها بالقصور، فان السينما التي تعكس الهوية الثقافية واللغوية لشعب ما، انخرطت بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا المسلسل التحاملي من خلال إقحام اللغة الفرنسية في الأفلام وأحيانا استعمالها استعمالا مفرطا وكأنها لغة وطنية للشعب المغربي. الشيء الذي لا نراه في الانتاجات السينمائية العالمية. اللهم إذا استعملت لغة أجنبية في شريط ما كتعبير عن جنسية أو ثقافة أخرى لمقارنتها بالثقافة الأصلية للسينمائي. أما في أفلامنا المغربية فأصبحت اللغة الفرنسية واقعا مفروضا علينا. وهنا نتحدث عن الاستعمال الإيديولوجي والثقافي للغة الفرنسية من طرف نخبة سينمائية تعيش قطيعة ثقافية مع المجتمع المغربي، وإلا فلا احد من المغاربة يرفض تعلم أو الكتابة باللغة الفرنسية، ولا احد من الأدباء والمثقفين المغاربة ينكر تأثير الأدب الفرنسي عليهم. وكاتب هذا المقال احد المتخرجين من شعبة اللغة الفرنسية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ويدرس باللغة الفرنسية. لكننا تعلمنا من موليير الذي أصبحت لغته تنعت به (لغة موليير) ضرورة الاعتزاز باللغة الأم وان العالمية تدرك عن طريق المحلية. فلا شكسبير ولا موليير كتبا بلغة أخرى غير لغتهما الأم، ولا المخرج مارسيل كارني أو مارسيل بانيول أو جون غونوار أو كودار أو تريفو اخرج شريطا سينمائيا بلغة غير اللغة الفرنسية أو وظف توظيفا إيديولوجيا لغة أجنبية. ونحن نرى اليوم كيف أن فرنسا التي تحمل شعار الحرية والديمقراطية والمساواة والتي نبذ فلاسفتها في عصر الأنوار التعصب، أصبحت متعصبة لهويتها الوطنية من دون البلدان الأوروبية الأخرى. وقد تأثرت السينما الفرنسية اليوم، كما تأثرت بالتوجهات الاستعمارية في الحقبة الكولونيالية، بهذا التوجه الوطني الغير العقلاني وجعلت من المهاجر خاصة المغاربي إنسان حقير ورزمة من المشاكل. أو ليس حري بنا كذلك نحن الشعوب المستضعفة أن ندافع عن هويتنا الوطنية بدون تعصب؟ من المؤكد انه سينمائيا، قد يكون استعمال اللغة الفرنسية موظفا دراميا ليرمز لثقافة ما أو نمط عيش ما في الفيلم، لكن حين تصبح بديلا عن اللغة الأم، أو تستعمل إلى جانب اللغة الأم، فهذا يعد تحيزا لإيديولوجية لغوية معينة وثقافة بلد آخر. على أن هذه الظاهرة التي تنم أحيانا عن استيلاب فكري ولغوي، لها علاقة بالانتاجات السينمائية المشتركة بين المغرب والبلدان الأوروبية، وبالأخص فرنسا التي غالبا ما يسعى بعض المخرجين المغاربة إلى الاستفادة ماديا من الإنتاج المشترك معها مقابل استعمال اللغة الفرنسية، كشرط من الشروط التي تفرضها الجهات الفرنسية للاستفادة من دعمها. وهذا طبعا يعد تهديدا لانتاجاتنا السينمائية وللغتنا وثقافتنا الإسلامية العربية- الامازيغية. على أن هذا لا يعني إقصاء أو محاربة كل الانتاجات المشتركة مع الدول الأجنبية أو فرنسا، شريطة أن تحترم خصوصيتنا الثقافية واللغوية. من جهة أخرى نجد أحيانا الاستعمال الغير المبرر للفرنسية في ضرورة كتابة السيناريو بالفرنسية لمن يريد تقديمه للجنة الدعم، أو كتابته بالعربية ثم ترجمته إلى الفرنسية، وكذلك تقديم ملفات المشاريع السينمائية وغيرها بالفرنسية. ولا أتحدث هنا عن الذي اختار أن يكتب بالفرنسية، فهذا حق مشروع لأي مبدع. لكن أن تفضل اللغة الفرنسية على اللغة العربية أو تعطى الأفضلية لمن يكتب بالفرنسية على الذي يكبت بالعربية، فهذا غير مشروع ويعد تجنيا على المبدع أو صاحب مشروع سينمائي. أما على مستوى استعمال اللهجة العامية أو الدارجة فالمشكل أصبح يتمثل في استعمال دارجة مبتذلة لا ترقى إلى ذوق المشاهد ولا تساعده على الارتقاء بلغته ولهجته وذوقه ومعارفه، بدعوى أنها تعبر عن واقعنا الاجتماعي وكئن المغاربة يتحدثون يوميا بتلك اللهجة الساقطة والااجتماعية. وهذا توجه أصبح ينخر جسم السينمائيين تحت تأثير(يا لفظاعة التقليد) مخرجين عالميين بالأخص أمريكيين اختاروا استعمال لغة ساقطة في الحوار الدائر بين الشخصيات. مما يعني أن السينما ببلادنا عوض أن تكون عاملا من عوامل الارتقاء الفكري والفني والجمالي، قد تصبح عاملا من عوامل الانحطاط والتدني اللغوي. فأحيانا عندما نشاهد شريطا مغربيا يخيل إلى المرء أن مخرجه وكاتب السيناريو لا مستوى ثقافي ولا تكوين اكاديمي لهما. وهذا ناتج عن أن المخرجين المغاربة وحتى كتاب السيناريو، وخلافا لما يجري في بلدان أخرى كمصر، لا يتعاملون مع الأدب المغربي ولا مع الرواية المغربية التي تحتوي على مقومات الإبداع الحقيقي، والتي بامكناها أن تؤدي إلى كتابة سينمائية متميزة. وناتج أيضا عن أن المخرج أو كاتب السيناريو لا مشروع ثقافي أو نهضوي له، إلا هاجس الربح المادي وتسويق الشريط كيفما كانت مضامينه. وان كنا نعتقد أن هناك سيناريوهات جادة لكن يتم إقصائها. وأخيرا فان من جراء هذا التعسف اللغوي هو أن السينما المغربية الناطقة بالامازيغية لا زالت لم تحقق انطلاقتها الفعلية. بل هناك من السينمائيين المغتربين من يريد طمس الهوية الامازيغية المغربية واستبدالها بهويات أجنبية حتى يضمن الاغتناء من ذلك. وهذا موضوع آخر سنعود إليه لاحقا. * ناقد سينمائي