حين أعفى الملك محمد السادس رئيس الحكومة المعين، عبدالإله بنكيران، من مهمته بعد ما عُرف إعلاميا ب"البلوكاج الحكومي"، خرج الحزب الإسلامي باجتهاد عجيب فعلا. ثمن القرار الملكي القاضي بإعفاء أمينه العام من التعيين برئاسة الحكومة، وأشاد بخصال أمينه العام وحسن إدارته للمشاورات الحكومية في بلاغ قوي مبرئا إياه من مسؤولية تأخر ولادة الحكومة، ثم عاد ليثمن قرار الملك تعيين سعد الدين العثماني مكانه. ذلك رغم أن بلاغ الديوان الملكي الذي صدر حينها كان قد ربط بين قرار إقالة بنكيران وتعيين شخص آخر مكانه، وبين السعي إلى تجاوز وضعية الجمود. وبعد اجتماعات ونقاشات وتبادل وجهات نظر قرر الحزب الاستمرار في الحكومة، وضمت هذه الأخيرة الاتحاد الاشتراكي و"العجب لكحل". المتغير الأهم، الذي أنتجه رد الحزب على قرار إعفاء الأمين العام من رئاسة الحكومة، هو فسح المجال لبعثرة مشهد سياسي كان توجه أكبر قوة سياسية في المغرب يميل به نحو الترتيب وبعض الوضوح. بدأت تظهر تحالفات غير إيديولوجية بالضرورة، يمكن القول، إنها براغماتية. ظهرت رهانات جديدة واستشراف مختلف للمشهد السياسي. بدأت بعض الوجوه تتحرر شيئا قليلا من "حالة الخنوع العام" بالقدر ذاته الذي بدأت وجوه أخرى تمرّغ نفسها طواعية في زرابي الخنوع. وهي حالة إيجابية عموما وإن اختل ميزان التفاعلات لصالح الانبطاح. المهم أن أحزابا بدأت تستعيد المبادرة، وأخرى بدأت تحن إلى عودة الصمت العام. فما العيب مثلا في أن يرى الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية أن المستقبل الانتخابي سيكون للإسلاميين، وأن تأمين المستقبل "الاستوزاري" مرتبط بالبقاء قريبا من هذا الحزب، الذي يبيض ذهبا في كل محطة انتخابية. الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية اختار الدخول في تحالف قوي مع حزب العدالة والتنمية، ودعم التوجهات والقرارات والإصلاحات الحكومية التي تمثل "منطقة مشتركة" بين الحزب الإسلامي والحزب الشيوعي. حاول، على الأرجح، أن يكون براغماتيا. فحزب "التقدم والاشتراكية" لا يحقق نتائج انتخابية قوية، وتحالفه مع الحزب الإسلامي سيضمن له مقاعد في الحكومة، وقد يستفيد من تحالفه، أيضا، على مستوى المجالس والجماعات عبر التفاهمات على المواقع والمناصب والاصطفافات وغيرها من حسابات السياسة المحلية. وقد تعرض هذا التوجه الذي سار على نهجه بنعبدالله لانتقادات حادة من طرف مناضلين بالحزب رفضا للتحالف مع حزب "أصولي" "ديني" طلبا "للمناصب والمغانم". لكن، لننتبه إلى نقطة أراها مهمة في هذا المقام. طبعا يحق لمناضلي حزب الكتاب انتقاد توجهات قادته، و"الامتعاض" من تحالفه مع الحزب "الرجعي"، (وإن كان تقارب اليسار والإسلاميين من أكبر المعاصي التي تثير سخط المخزن)، لكن يبقى أن اجتهاد نبيل بنعبدالله (الدخول في تحالف قوي مع المصباح) ينم عن مستوى مقبول من استقلالية القرار الحزبي، وإن بحس براغماتي. لنفترض أن هذا الجانب البراغماتي الصرف هو ما حرّك بنعبدالله، لا بأس أن ينتقده مناضلو حزبه من باب حماية "الإيديولوجيا الشيوعية المجيدة"، لكن هل يحق لغير المناضلين نسف هذا التوجه؟ أم هل أخطأ نبيل بنعبدالله الرهان؟ هل خذله حزب العدالة والتنمية حين تنازل بسهولة عن رئيس الحكومة المعين بادئ الأمر؟ بعد إعفاء الملك، استنادا إلى الدستور، لوزراء حزب الكتاب بالحكومة الحالية بصفتهم وزراء في حكومة بنكيران، خرج حزب التقدم والاشتراكية ببلاغ قريب في نازلته العامّة (الإعفاء) من بلاغ أمانة حزب المصباح، وأقوى دلالة في عبارته ولغته ولفظه من بلاغ الإسلاميين، (الذائقة الشيوعية المتمردة حاضرة). والآن يواجه الحزب الخيارين ذاتهما: الاستمرار في الحكومة، أو النزول إلى المعارضة. نزوله هذا قد يعني أن الحزب يعتزّ فعلا، لا قولا فقط بمناضلي حزبه المعفيين وأن المعركة لم تنته، بقاؤه في الحكومة قد يعني أن الحزب مطالب بتحضير "تيار الاستوزار" الخاص به، على شاكلة تيار "الاستوزار" الإسلامي، بشروط مختلفة ودفتر تحملات جديد..