تذكرت هذه الأيام التي أخذ الجميع يتقاذف فيها مفهومي المسؤولية والمحاسبة، ما قاله المفكر المغربي علي أومليل في دراسة له حول مفهوم الفرد. يقول "للمفهوم في لغته الأصلية تاريخ ونشأة وتداول (…) وحين ينقل فهو ينقل مجردا من حمولته التداولية. في اللغة الأصلية يتكون ‘الشيء" أولا، ثم يُصاغ المفهوم ليعبر عنه، أما في اللغة الناقلة (وهو يقصد هنا العربية)، فإن البدء يكون بالكلمة المجردة لتنوب عن الشيء"، ثم يجمع كل تحليله الذكي في بضع كلمات: "هناك البدء بالتجربة، وهناك البدء بالكلمات".. الكلمات التي تبقى معلقة في الصفحات وفي أصوات الذين يلوكونها عن علم أو من دونه. لا شك أن ما أقدم عليه رئيس الدولة من "معاقبة" مجموعة من المسؤولين السياسيين والسامين والإداريين، بسبب الاختلالات التي شابت مشاريع ضخمة بالحسيمة، من شأنه أن يضفي نوعا من الارتياح لدى المغاربة وسكان الريف الذين يحتجون منذ ما يقرب من سنة على الحيف الذي يطالهم منذ عقود. ويمكن اعتبار هذا "العقاب الملكي" رغبة في دخول عهد جديد تربط فيه المسؤولية العمومية بالمحاسبة. ولكن هناك صوتا داخليا (لا أعرف إن كان شيطانيا أم ملائكيا) يهمس لي بأن تلك الخطيئة الأصلية – المتمثلة في "البدء بالكلمات" الذي يطبع علاقة مجتمعنا بالعديد من المفاهيم التي أنتجتها الحداثة الغربية- قد تحول ما جرى إلى مجرد "حالة رمزية".. مجرد هزة خفيفة تحرك أوراق الشجرة وتسقط بعضا منها، وليس "زلزالا" يجثث النبتة السيئة من أصلها. وما يقوى من "زن" وإلحاح هذا الصوت عليّ أن المغرب والمجتمع المغربي مازالت تغلب عليه بنية الجماعة والقبيلة، وما تفرضه من تراتبية هرمية صارمة لا تترك للكائن هامشا كافيا ليتطور ويصير فردا كاملا في فردانيته. والحال أن مفاهيم مثل المسؤولية والمحاسبة نشأت هناك في مجتمعات تقوم على الفرد. فهذا الفرد الكامل في فردانيته هو الذي يمكنه أن يكون مسؤولا، ويحس بثقل المسؤولية. والفرد هو الذي يستطيع (عبر ما يرسيه من مؤسسات) أن يكون مصدرا للمحاسبة ويقبل أن يكون موضوعا لها في الآن ذاته. وهذا ليس متاحا بعد للكائن المغربي، الذي يعتبر المسؤولية علامة "رضا" من تلك اليد العليا التي يحسها دائما قريبة من رقبته، قد تربت عليها وقد تصفعها. هذا ليس متاحا بعد للكائن المغربي الذي لا يقيم وزنا لأي محاسبة مؤسساتية، بل يخشى فقط "عدم رضا" السلطات العليا، لأنه يحدس بفطرته أنه مازال في كنف حكم يعتمد كثيرا على "الأسلوب السلطاني".