إن مفهوم «حالة الطبيعة» و«مفهوم» العقل «ومفهوم» الحرية ومفهوم» المساواة «ومفهوم» المواطن «ومفهوم» «حقوق الإنسان»، هي المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها فكر الأنوار الذي مهد للثورة الفرنسية وعملت هذه على ترويجها، وهي مفاهيم قد شرع مؤخرا في تبيئتها في فكرنا وثقافتنا، ولاشك أن من يقرأ الطهطاوي المثقف ذو المنحى السلفي يلاحظ كيف كان يحاول ويناور لنقل مضامين تلك المفاهيم إلى اللغة العربية التي لم تكن تقدم له الكلمات التي تناسبها، فراح يستعمل المفاهيم الفقهية محاولا تقريب المعنى بواسطتها إلى ذهن قارئه، ولكم كانت المسافة واسعة والهوة عميقة بين مفهوم «الحرية» في قاموس الثورة الفرنسية وبين مفهوم «الرخصة»، الذي وضعه الطهطاوي كمكافئ لها (رخصة الإفطار أثناء رمضان للمريض المسافر.... تلك هي الحرية «في نظره»، وعندما أراد الطهطاوي التعبير عن «الحرية والمساواة» مقترنين هكذا، كما في شعارات الثورة الفرنسية، نجده يكتب «ما نسميه بالعدل والإحسان، يعبرون عنه بالحرية والتسوية»! أما لفظ «الحرية» فلم يكن في قاموسه الأصلي صالحا للاستعمال كمكافئ لمفهوم الحرية في فكر الثورة الفرنسية، لأن قاموس «الحرية» عند الطهطاوي في قاموسه الإسلامي العربي، هي صفة لمن ليس عبدا رقيقا، وبالتالي فلا معنى أولا يمكن الحديث عن الحرية بالنسبة لغير العبيد الأرقاء. أما التطور الذي حدث في الألفية الثالثة مقارنة مع القرن الماضي في مجال تأطير مثل هذه المفاهيم السابقة، فهو حلول كلمة «ثقافة» محل كلمة «إيديولوجيا» بمدلولاتها المختلفة، وهكذا أصبحنا نقول: «ثقافة التسامح» و«ثقافة حقوق الإنسان»...، بدلا من «إيديولوجيا التسامح» و«إيديولوجيا حقوق الإنسان»، فهما الأكثر استعمالا وبروزا لأنهما لا يقومان مقام لفظ «الإيديولوجيا»، ولا يزالان يحتفظان بمواقعهما الثقافية وبمجالاتهما الفكرية الخاصة، لأنهما يعبران في الغالب عن شيئ ينتهي إلى تصنيف غير التصنيف الطبقي، ويدخل بكيفية خاصة في المعنى الأنتربولوجي للكلمة، لأن الكلمات لها تاريخ، والعديد منا يقفز بينها ويعمل على إنزال الواحدة منها مكان الأخريات، خصوصا وأن الكلمات عندما تتحول إلى مفاهيم يكون لها تاريخ آخر أوسع وأغنى. لنأخذ كنموذج وعلى سبيل المثال فقط لا الحصر، كلمة التسامح «توليرانس» وتطورها، فقد ولدت في القرن 16 خلال الحروب والصراعات الدينية التي عرفتها أوربا بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهى الصراع بالتسامح مع البروتستانت وبشكل متبادل بينهما، ثم أصبح التسامح يمارس اتجاه كل المعتقدات والديانات، وفي أواخر القرن 18 وتحديدا في القرن 19 لم يعد التسامح سجينا للحقل الديني بل أصبح مقترنا بحرية التفكير بوجه عام كنتيجة لبروز ملامح الحداثة الأوربية ومظاهرها، وبفعل توفر عدة شروط ثقافية وسياسية منها على الخصوص وجود دولة القانون والمجتمع المدني وانتشار فكر الأنوار وفلسفته. وفي الثقافة العربية الإسلامية وقواميسها اللغوية، فالتسامح هنا لايحيل على المعاني الحديثة التي تطرقنا إليها، بقدر ما يعني بالأساس الكرم والسخاء والجود والمساهلة، حيث يتم إلغاء مبدأ المساواة وإرساء علاقة عكسية تقوم على اللامساواة بين المنعم بكسر العين والمنعم عليه بفتح العين، وبالنسبة لمفكري الإصلاح ورواد عصر النهضة، فجمال الدين الأفغاني سيرى في شعار التسامح المقترن بالحرية مجرد غطاء لإخفاء الأطماع الغربية للسيطرة والاستعمار وهدم الوحدة الدينية التي هي في نظره أساسا للوحدة السياسية، مما جعله يهاجم الذين يروجون للتسامح، أما محمد عبده تلميذ الأفغاني فقد دافع عن أهمية ومكانة التسامح في الإسلام، وكانت لديه رغبة قوية لأثبات التسامح في الإسلام كتقليد وكممارسة سواء في مجال الاعتقادات الدينية أوفي مجال الفلسفة والعلم، بين المسلمين أنفسهم أوغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وإن كان محمد عبده لم يهتم كثيرا بالإشكال اللغوي فهو يستعمل التسامح وأحيانا كلمة التساهل، وميله إلى محاولة إثبات ممارسة المسلمين للتسامح عبر تاريخهم ربما قبل غيرهم، وهي العادة التي دأب عليها الكثير من أصحاب الاتجاه الإصلاحي من السلفيين. أما المثقفون المعاصرون الذين انخرطوا في التعامل مع هذه الإشكالية فنجد أن أطروحاتهم تختلف، فالتناول الفكري لمحمد أركون لا يلتقي مع التحليل الأكاديمي المقدم من طرف الدكتورين محمد عابد الجابري وعلي أومليل، فمحمد أركون وفق تصوره الخاص ينتهي إلى القول بكون التسامح لم يعرفه السياق الإسلامي تاريخيا، لأن العقل الديني أو ما يسميه أيضا ب «العقل الأرثوذكسي» لم يفكر قط في التسامح بمعناه الإيجابي الحديث، بل أقصى ما فكر فيه هو نوع من التسامح السلبي، كما تشخص مثلا عند العرب في مفهوم الحلم (بكسر الحاء) الذي هو في الحقيقة تعبير عن الشفقة التي يحملها القوي للضعيف أو المنتصر للمنهزم، وهذا يختلف جوهريا عن المعنى الإيجابي الحديث للتسامح كقيمة من قيم الحداثة المؤسسة على المساواة، وبالتالي فالتسامح في نظر أركون لا يمكن أن نجده إلا في مرجعيته الأوربية، بعيدا عن كل إسقاط لهذا المفهوم الذي نحن اليوم في أمس الحاجة إليه. أما المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فهو يضع أطروحته النظرية في تعارض تام مع أطروحة محمد أركون الذي انطلق من معنى ومفهوم محدد للتسامح استلهمه من جذور الثقافة الأوربية، عكس الجابري الذي نقب في التراث الإسلامي والعربي الذي يعتبر تراثا مشتركا للإنسانية جمعاء، بحيث وجد الجابري تجلياته المشرقة المبحوث عنها في مفهومي الاجتهاد والعدل كما ورد استعمالهما عند المعتزلة وابن رشد، واعتبر بالخصوص تناولهما لمبدأ العدل صوتا متميزا في مجال التسامح، وفي المقابل سجل ملاحظات وانتقادات على الفقيه والفيلسوف الإسلامي أبو حامد الغزالي الذي لم يكن متسامحا مع مخالفيه من المذاهب الأخرى، ومن الأسماء المتسامحة التي ذكرها الجابري الإمام أبو حنيفة الذي نقل عنه قوله: «لا تكفر أحدا بذنب ولا تنفي أحدا من الإيمان» فهو دفاع عن الإيمان بشكل معتدل ومتسامح قريب من المفهوم الليبرالي المعاصر إذا صح هذا التعبير، وبالنسبة للأستاذ علي أومليل فإن أطروحته تقترب من أركون وتبتعد قليلا عن الجابري، ويسجل لنفسه موقفه الخاص عندما يصرح أن عدم معرفة الأسلاف في الماضي البعيد والقريب بمفاهيم: التسامح، الحرية، الديمقراطية، الحداثة وحقوق الإنسان باعتبارها تصورات تم إبداعها في القرن 18، لا يمنع هذا أبدا من تأصيلها ثقافيا في تراثنا، وهي المهمة التي أسند دورها للمثقفين، وبهذا الرأي يكون أومليل قد اتفق ضمنيا مع الجابري ولم يعترض على مسعاه الفكري والاجتهادي في قراءته للفكر الإسلامي وتجديده له، وعمله على تأصيل المفاهيم الكونية الحاملة للفكر الحقوقي في مضان وسياقات تراثنا. وفي مجال ذي صلة بمفهوم التسامح، يمكن إدراج سؤال الهوية والحق في الاختلاف والتعدد الثقافي، وفي هذا السياق نستحضر كنموذج تصريحات الأستاذ عبد السلام ياسين الذي انتقل إلى رحمة خالقه بشأن المسألة الأمازيغية من خلال كتابه: «حوار مع صديق أمازيغي» الذي يقصد به صديقه محمد شفيق وما جمعهما من زمالة قديمة في رحاب التعليم، فوجه له هذه الرسالة التي هي في نفس الوقت خطاب موجه لكل مكونات الحركة الأمازيغية، ويتلخص موقفه كما يتضح بجلاء من ثنايا الكتاب في قوله الصريح: «بكون الهوية التي تدعو إليها الحركة الأمازيغية حسب رأي الأستاذ هوية أرضية دنيوية أنانية، قوامها لغة الأجداد وتاريخهم، وأنها ليست سوى نداء الجاهلية.... وشعاراتها، صنم يعبد من دون الله، وهي بالإضافة إلى ذلك «الردة» الثالثة عشر. وعليه فالقول بالهوية الأمازيغية في نظر الأستاذ ياسين قول انشطاري يقسم الفرد إلى انتماءين: بربري وإسلامي، وهي في نظره على العموم دعوة قبلية، ولم يخرج عن هذا السياق الأستاذ أحمد الريسوني في تصريحاته التي أدلى بها مؤخرا في العاصمة القطرية بالدوحة، وعلى النقيض من ذلك تماما، ترجم الأستاذ سعد الدين العثماني موقفه التسامحي المتميز الذي عبر عنه في عدة محطات، نشرت إحدى حلقاته في جريدة العالم الأمازيغي حول الأمازيغية في الفقه الدستوري المقارن، وأيضا حواره الهام الذي نشر في جريدة «التجديد» حول دعوته الصريحة إلى ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور المغربي في شهر أبريل سنة 2011، مع اعتباره اللغة الأمازيغية أقدم مكون من مكونات الهوية الوطنية والإسراع في الاعتراف بواقع لا يمكن الاستمرار في إنكاره.