تلخص حياة عبد العزيز التازي الذي توفي يوم الثلاثاء الفائت عن عمر يناهز 91 عاما، قصة الأشخاص العصاميين الذين بدؤوا من الصفر، وتحولوا إلى رجال أعمال كبار. لكن حياته أيضا تنطوي على تحد خاص، حيث يمكن لرجل أعمال أن يمتلك موقفا سياسيا، وأن يدعم أكثر السياسيين «تطرفا»، وأن يتمكن رغم ذلك من تحقيق النجاح. في صالة عريضة، كان مولاي إسماعيل العلوي (الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية) متكئا على وسادة، بينما جمع من المعزين يتدفق على المنزل حيث يوجد النعش. كانت جنازة رجل أعمال لا يعرف عنه الجيل الجديد سوى شيئين: علامة «ريشبوند»، وابن مثير للجدل اسمه كريم التازي. كان عبد العزيز التازي قيد حياته، رجل صناعة غيّر أسلوب المغاربة في تأثيث منازلهم، كما في مشط شعرهم، لكنه أيضا كان شخصا ذا موقف سياسي حاد. وبحسب التصنيفات التي كانت رائجة في زمن كانت السياسة فيه مرادفا للمغامرة، فقد كان التازي «متطرفا»، شيوعيا بعبارة أدق. شيوعية قديمة! كان العلوي موجودا في تلك الصالة لأنه فقد «رفيقا» طالما دعم حزبه في أكثر الأوقات شدة، أي عندما كان حزب التقدم والاشتراكية في نسخته القديمة، وكانت تسميته الحزب الشيوعي المغربي ثم حزب التحرر والاشتراكية لاحقا، موضعا لنبذ رسمي. «كنا حينها ممنوعون من العمل، فقد صدر قرار من السلطان بمنع الحزب الشيوعي المغربي، ثم ضيقت السلطات فيما بعد على حزب التحرر والاشتراكية، لقد كنا بشكل ما، ملاحقين ومطاردين، لكن عبد العزيز التازي كان بجانبنا». وبالرغم من أن العلوي لم يعش تلك الفترات العصيبة من تاريخ حزبه، إلا أن الحكايات التي رُويت عما كان يمثله رجل ذو مال في حزب كانت تبغضه السلطات، ما زالت ملتصقة في ذاكرته. «لم يكن ذلك سهلا بالنسبة إلى رجل في طور صنع ثروة.. كان يبدو غير عابئ بالخسائر الممكنة لموقفه. لقد كان ذلك بالنسبة إلي أمرا جديرا بالاحترام». بشكل مبكر، وجد التازي نفسه متقبلا لفكرة النضال السياسي، وفي تلك السنوات الكئيبة من عقد الخمسينيات، حيث كان السلطان منفيا، والبلاد مستعمرة بيد من حديد، كان التازي الذي بالكاد بدأ يشق طريقه في الأعمال، بوصفه تاجرا في سوق درب عمر بالدارالبيضاء، يكون رأيا بخصوص ما يجب فعله إزاء الوضع السياسي الذي يحيط به. في بداية الأمر، قرر أن ينضم إلى صفوف حزب الشورى والاستقلال، وهو كيان تتجمع فيه نخب عائلية ذات صيت مرموق. «كانت فترة قصيرة على ما يبدو، قضاها في ذلك الحزب، ثم غادره»، يقول العلوي. «في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي المغربي نشطا، لكن في ذلك الوقت، كان نادرا أن يتحول شخص من حزب كالشورى والاستقلال إلى الحزب الشيوعي المغربي. يكاد الأمر يكون تغييرا بالنقائض». لكن ما حدث لعبد العزيز التازي كان إعجابا بشخصية أكثر منه ميلا إلى عقيدة سياسية لحزب. «كان هو وعبد الله العياشي (1923-2006) صديقين، تعرفا على بعضهما وتكونت بينهما ثقة كبيرة. لم يكن التازي حينها رجل أعمال كبير، ولكن العياشي كان مناضلا بارزا في الحزب في ذلك الوقت. لا أعرف بالضبط ماذا حدث للتازي حتى وجد نفسه في حزب شيوعي، بيد أنني أعرف أن العياشي هو من سيستقطبه. لقد كانا معا مقاومين للاستعمار». ابنه كريم، يتذكر كيف أن والده وجد نفسه في الحزب الشيوعي المغربي: «كان من المؤسسين لهذا الحزب بالدارالبيضاء. كان عضوا نشطا وفاعلا. فقد كان رفيقا لعبد الله العياشي، وبالكاد كانا يفترقان، وبالتالي كان من الطبيعي أن يكون «شيوعيا» مثلما كان العياشي». عائلة في خدمة موقف لم يكن التازي وحده «شيوعيا»، فقد كانت أفراد آخرين من عائلته شيوعيون أيضا. «كان عمي حسن عضوا في منظمة «الهلال الأسود»، حيث كان ينفذ الناشطون الشيوعيون بحماس عمليات ضد المستعمر. وكان والدي شيوعيا مكلفا بأعمال التواصل والتنسيق». كما يقول كريم. ليست هناك مواد كثيرة بخصوص النشاط الذي كان يمارسه التازي في الحزب الشيوعي المغربي. «كان والدي كثير الإلحاح على عبد الله العياشي بأن يكتب مذكراته، لكنه للأسف الشديد لم يفعل ذلك. كانت تلك المذكرات لو كتبت، ستكون شهادة مفصلة لكل الأدوار التي قام بها والدي لصالح الحزب الشيوعي المغربي، وأيضا لصالح المقاومة». في تلك المرحلة، سيسجن التازي بسبب نشاطه السياسي. يقول ابنه كريم: «لقد سجن والدي لفترة، مثلما حدث لباقي رفاقه، وعندما أوقف العياشي كان من الطبيعي أن يعتقل رفيقه التازي أيضا». وبعد خروجه من السجن، قرر أن يغادر البلاد، ثم عاد إليه مرة جديدة. في تلك الفترة التي عاد فيها التازي من فرنسا، وعمره لا يتجاوز ثلاثين عاما، سيتعرف على سيدة ستصبح زوجته. وبحسب رواية رائجة في حزب التقدم والاشتراكية، فإن عبد العزيز التازي سيقابل من ستكون زوجته مستقبلا في الحزب الشيوعي المغربي. «لقد كانت زوجته شيوعية أيضا»، كما يقولون. وفي الواقع، كما يحكي مسؤولون في حزب التقدم والاشتراكية، فإنه من الصعب تحديد من كان الأسبق إلى الانضمام إلى الحزب الشيوعي، لكنها ستكون ذات صيت سياسي داخل حزبها. فقد كانت أول امرأة أرسلها الشيوعيون المغاربة مطلع الستينيات، كي تمثلهم في المؤتمر العالمي للمرأة بالاتحاد السوفياتي آنذاك. وبشكل معين، فقد كانت قصتهما حالمة: شيوعيان تعرفا على بعضها البعض داخل حزب شيوعي. «والداي معا من عائلة واحدة، أضف إلى ذلك أنهما كان يعملان في خلية الحزب الشيوعي المغربي بالدارالبيضاء، وتلك دائرة ضيقة من حيث عدد الأشخاص». ظلت زوجته تورية التازي مخلصة بشكل ما، لرفاقها الشيوعيين السابقين، كما كان حال التازي أيضا: «كنا نذهب إلى بيتهما في الدارالبيضاء في بعض المرات. وغالبا كنا نقابلها وحيدة، وفي بعض المرات، برفقة زوجها. ما زلت أشعر أن تورية التازي بقيت تلك السيدة التي عرفها الشيوعيون في الخمسينيات، كما كنت أعرف أن زوجها لم يخذلنا يوما»، يتابع العلوي. كان منزل التازي في الدارالبيضاء قبلة للكثير من الشيوعيين السابقين أو المعارضين الاشتراكيين الذين كانوا فخورين بأن يكون رجل أعمال كبير شيوعيا مثلهم: «كانت الكثير من القضايا تناقش في منزل والدي»، يقول كريم التازي، «لكن بشكل تدريجي، بدأت تلك الاجتماعات تتخذ طابعا أقل حزبية، فقد حافظ على تعاطفه مع رفاقه الشيوعيين القدامى، لكنه لم يعد يتدخل في شؤون التنظيم كما كان يفعل من قبل، وبقيت صلاته الرئيسية بالحزب محصورة في عبد الله العياشي وعلي يعته». وكانت هذه العلاقات شخصية بدرجة كبيرة، وعلى سبيل المثال، فقد خصص التازي وزوجته منزلهما في الدارالبيضاء لإحياء الذكرى الأربعينية لوفاة ندير يعته، ابن علي يعتة، في ماي من العام 1996. «بالفعل، تكلف والدي بحفل الأربعينية، فقد كان يعتبر ندير ابنا له مثلما كانت علاقته بعلي يعته في المستوى نفسه للعلاقات التي كانت تجمعه بعبد الله العياشي». يقول كريم. الأب والابن لم يحضر عبد العزيز التازي يوما مؤتمرا للشيوعيين المغاربة، سواء في تلك السنوات الهائجة في زمن الاستعمار، أو طيلة التحولات التي خضع إليها الحزب بعد ذلك، لكن أمواله كانت مستمرة في التدفق على الحزب. «كان يدعم الحزب من الناحية المادية، كما كان يفعل من الوجهة المعنوية.. لقد كان موجودا كل مرة كان الحزب بحاجة إلى مساعدة»، كما يقول العلوي. وفي الغالب، وبحسب ما قال قياديون آخرون من حزب التقدم والاشتراكية، فإن التازي كان يمول مؤتمرات الحزب، كما يدعم حملاته في الانتخابات. «كانت محفظة نقوده دائما مفتوحة لدعم الشيوعيين وهم ينتقلون من تسمية لأخرى»، يؤكد ابنه كريم، ثم يضيف: «لم يكن ليمتنع عن مساعدة رفاقه القدامى حتى وإن لم يكن مرتبطا بالتنظيم بالكيفية التي كان عليها في السنوات الأولى». وبالطبع، كان للوالد تأثير على محيطه الأقرب، أي أبناءه. كريم التازي مثلا يتذكر كيف أنه في نونبر من العام 1976، وكان مراهقا حينها، شارك في حملة لحزب التقدم والاشتراكية بالدارالبيضاء، وهي أول معركة انتخابية يخوضها الشيوعيون المغاربة بعد تغيير اسمهم للمرة الثانية. «كان اللون المخصص للحزب لونا بلا طعم، يشبه لون الحجر.. كان ذلك لوحده تحديا للحزب في حملته التواصلية، لأن الناس كانت تجد صعوبة في تمييزه من خلال الأوراق التي كانت توزع عليهم»، يقول كريم، ثم يردف: «طلب مني والدي أن أرتدي قميصا بذلك اللون، وكانت هناك قمصان كثيرة بهذا اللون تكلف بطبعها لهذا الغرض ووزعها على المناضلين، وسلمونا بالحزب كميات من المنشورات، وشرعنا في التوزيع، وكان معي في تلك الفترة ندير يعته (ابن علي يعته)». ثورة صناعة البلاستيك «ذهب إلى فرنسا، حيث كان الكثير من الشيوعيين المغاربة مقيمين هناك، هاربين من بطش الفرنسيين في المغرب». يقول ابنه كريم، وفي مقامه الفرنسي، لاحت أمامه فرصة: «لقد تعرف إلى فرنسي يملك معملا لصناعة البلاستيك، وزار مصنعه، وشعر بالدهشة من الإمكانات التي يمكن أن تتيحها مادة البلاستيك. في تلك اللحظة، كانت الفكرة محسومة بالنسبة إليه، وسيعود لاحقا إلى المغرب لتنفيذ طموحه». سيصقل التازي شخصية جديدة، مبتعدة عن النشاط السياسي، ومركزا على الأعمال. وكانت مشروع البلاستيك يحتاج إلى فكرة دافعة. في ذلك الوقت، كان الوسيلة الوحيدة المستعملة لتصفيف الشعر هي المشط المسطح، وكان ملائما لشعر الفرنسيين أكثر من المغاربة. «كانت هذه المسألة تثير تفكير والدي، فقد كان يعتقد بأن الأمر غير عادي، لأنه كان من المستحيل أن تمشط شعرك كمغربي بمثل ذلك المشط، ناهيك عن أنه لم يكن بمقدور جميع المغاربة أن يقتنوه». وحينها، قرر التازي أن يحصل المغاربة على المشط الخاص المناسب لشعرهم. «كان هو من حدد الشكل الدائري للمشط، ورغب في أن يكون وزنه خفيفا، وعمليا وبمقبض صغير. وفي غرفة صغيرة، بالمنزل الذي كان يقطن فيه مع زوجته في حي لاجيروند بالدارالبيضاء، شرع التازي في صناعة المشط مستثمرا حوالي 5 ملايين فرنك، وكانت تلك ثروة صغيرة في ذلك الزمن. كان التازي يسوق منتوجه عبر الدوائر التقليدية في سوقي درب عمر وكراج علال في الدارالبيضاء، وحقق نجاحا منقطع النظير. فقد كان المشط الجديد يباع في المدن كما في القرى، وأصبحت تشكل موضة بالنسبة للشبان، يحملونها معهم في جيوبهم حيثما أرادوا. وما زال هذا المشط حتى اليوم، موجودا في بيوت المغاربة كيفما كانت طبقاتهم الاجتماعية. وبالنسبة إلى شخص كان يؤمن بالشيوعية فيما مضى، فقد كانت فكرة مشط لا طبقي، منتوجا وطنيا مناسبا. «لقد بعنا منذ ابتكار هذا المشط، حوالي 400 مليون وحدة»، كما يقول كريم التازي. لكن سرعان ما سيضغط عليه المنافسون، لأن «والدي لم تكن لديه شهادة للملكية التجارية، فأصبح مشطه ينتح في سنوات السبعينيات من لدن حوالي 20 شركة أخرى». ولاحقا، وفي عام 1965، وبسبب رفض الشركة الفرنسية للاستيراد التي كانت تحتكر تجارة الاسفنج، أن تتعامل معه، قرر أن ينشئ شركة «ريشبوند»، لصناعة الأثاث باستعمال مادة الإسفنج، وكان المغاربة آنذاك غير معتادين على الأثاث المصنوع من هذه المادة. وبدأ ب18 عاملا، لكن فكرته نجحت، وشركته تشغل الآن حوالي 1200 مستخدما. كان عبد العزيز التازي يُراكم النجاحات في أعماله، ويتحول إلى واحد من كبار الصناعيين المحليين، ورغم ذلك لم ينس الرفاق. «لم أسمع يوما أن التازي تعرض لمضايقة من لدن السلطات بسببنا»، كما يؤكد العلوي، لكنه يستدرك موضحا: «بالنسبة لمن لا يعرفون التازي، فهو لا يهاب أن يتعرض للمضايقات بسبب موقف يجد نفسه مرتاحا له، ولا أعرف ما إن كانت الإدارة قد حاولت أن تعترض أعماله، أو تشدد المساطر ضده، لكنه في نهاية المطاف، كان رجلا ناجحا.. إذا كان قد حدث هذا، فقد وقع في فترة حديثة». «هذا أمر غريب بالقياس إلى المعايير الحالية»، كما يشير ابنه كريم، ف»والدي لم يتعرض لأي مضايقات من لدن السلطات في عهد الملك الحسن الثاني، وقد كانوا يعرفون بأنه شيوعي أو متعاطف مع الشيوعيين». ولم تتعرض أعمال التازي لمضايقات سوى في السنين الأخيرة بسبب مواقف ابنه كريم، الذي يحتل منصب مدير لشركة «ريشبوند». «سيكون مستعصيا على الفهم ألا يلاحق رجل أعمال في تلك الحقبة، بشراسة من لدن نظام سياسي كان يمقت الشيوعيين على ما يبدو، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أيضا أن والدي لم تكن لديه أي صلة بالنظام أو السلطة. لم يكن يتواصل معهم، وهم لا يفعلوا ذلك أيضا. كانوا يراقبونه، لكنهم كانوا يتركونه حرا، كان الأمر عبارة عن تقدير كبير لوالدي من لدن السلطة في ذلك الوقت». كريم نفسه سيلتحق شهر يناير الفائت بالحزب الاشتراكي الموحد، وهو كيان يساري راديكالي. وفي هذا يكون للتعبير القائل «من شابه أباه ما ظلم» أكثر دقة، ويوافق كريم على صحة هذه العبارة أيضا في تلخيص حكاية والده.