يمشون في الشوارع. يحضرون حلقيات نقاش الطلبة، ويسمعون قبل بداية كل مداخلة "الطلبة والطالبات تحية نضالية من داخل اطارنا العتيد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب"، وإن كان الأخير محضوراً عملياً منذ سنوات، يواصلون الحضور، ويتدخلون لإبداء رأيهم. يقصدون الميناء، يحاولون أمام الكاميرا ممارسة هواية الانصات لهموم البحارة، وحين ينطق أحد هؤلاء في وجههم "ما عنديش بو الوقت"، يضحكون "بزز منهم"، وفي نفسهم يرددون "أشنو جابنا هنا؟ !"… "جابكم الحراك الذي لم يستطع أحد تلجيمه أو اختراقه أو حقنه بالمسكنات كما فعلتم وتفعلون في أكثر من جهة ومنطقة". حراك الريف، فرض على المسؤولين الوزاريين النزول إلى شوارع الحسيمة وقراها ودواويرها شبراً شبراً، وجعل قبلهم، الوالي اليعقوبي، يطوف الأحياء ويحاول نقاش الأهالي والشباب مباشرة. فرض الحراك إلى اليوم على الأقل، الخروج من نفق لغة الخشب وعبارات "سوف.. وإننا.. ونحن نخطط.. ونحمل لكم.. ونعدكم.."، وانتقل "بزز" من المسؤولين إلى ممارسة طرح لغة الأرقام، وطرح مشاريع محددة بالزمان ورهينة التزامات واضحة يمكن تقييمها وتمكين أهل الريف من حق تنفيذ مقولة "إن عدتم عدنا". إن عدتم للنكت بوعودكم عدنا نحن إلى الشارع أكثر قوة. أمام كل هذا. وجب من باب الانصاف تذكر بشر مثلنا مثل أهل الريف، لهم حاجيات، معاناتهم عنوان للفقر ودنك العيش اليومي مع الحرمان أكثر من ما يمكن تخيله. طيلة سنوات العمل في رحاب صاحبة الجلالة، قادتني ظروف العمل إلى عمق جبال الأطلس الكبير والصغير والمتوسط. حيث البشر خارج التاريخ. لا ماء ولا كهرباء، أقرب مستشفى يبعد عن المرضى حين يسقطون فريسة شبح الموت وهو يطوف بأجسادهم مئات الكيلومترات، المدارس أشبه بإسطبلات الحيوانات، الطرق والمسالك تصلح لمرور الدواب فقط، بنيات تحتية هشة، مشاريع التنمية البشرية على الورق فقط، شباب لا يرون في التحصيل العلمي فائدة تخرجهم من الفقر، أما الشابات فيحرمن بقوة الواقع من تجاوز التعليم الابتدائي ودخول المدرسة، عند أسرهن التعليم "ترف"، والتواجد داخل البيت لقضاء أغراضه وجلب الماء كل صباح "أفضل منه". هناك في إقليمأزيلال عشرات الدواوير تنشد الحياة ولا تجدها. بين أحضان جبال إقليم إملشيل لا يعرف البشر الأحزاب السياسية وعندهم فقيه الجامع هو رئيس كل شيء، وأطفالهم يومياً بين الحياة والموت إلى أن يخرجوا من هناك أو يصارعوا هناك أيضاً لأجل الحياة وإن لم يستطيعوا إليها سبيلاً. نواحي تنغير المجتمع المدني بإمكانياته الذاتية يعوض الدولة في أحيان كثيرة، المنازل تشبه الكهوف. عند ضفاف نهر "درعة" لا يحصل جيرانه من المغاربة على رشفة ماء صالحة للشرب منه، بجماعة "كتاوة"، واحدة من مناطق إقليم زاكورة، التي تعرف على مدار السنة شحاً في الموارد المائية، قرابة 30 دوار يبحثون في رحلات الشتاء والصيف، عن مصادر مياه الشرب. نواحي المدن الصغيرة في الأطلس المتوسط أزرو إيفران إيموزار الكندر الحاجب، وداخلها، تصادف الأطفال الصغار نهاية الأسبوع وطيلة أيام العطل يجوبون أماكن الاصطياف، يبيعون أي شيء صالح للتجارة لكسب قوت عيش عائلاتهم، العطلة بالنسبة إليهم إشاعة، والعمل سلوك مفروض عليهم لأكل القوت وانتظار الموت إن باغتهم المرض، هناك أيضاً عاملات الحقول يعاملن مثل "العبيد". في هذه المناطق تزوج القاصر ضد رغبتها مقابل مهر زهيد يرى فيه الأب خلاصاً من فراغ جيبه وإن لشهر واحد… هناك مشاهد أشد قصوةً لا يمكن للحروف والجمل هنا تلخيص واقعها. للريف أشقاء في المعاناة وواقعهم أشد سواداً من ما تعيشه الحسيمة وجيرانها. للريف أشقاء في كل جهة بالمغرب، أناسه بسطاء مسالمون حين تزورهم يعطونك انطباعاً أنك تملك كل شيء يملكونه، لكن في المقابل أنت القادم من المركز أو "المغرب النافع" كما يوصف، لا يملكون معك أبسط شروط المواطنة وحقوقها المستحقة. هل تنتظر الدولة بكل تناقضاتها ومصالحها ومؤسساتها أن يلهم الريف أشقاءه وينقل لهم انتفاضته اليوم ضد واقع العيش، أم سيجعل حراكه من الحكومة واقفة طيلة ولايتها، تجول الشوارع وتحاول زرع المشاريع لتثمر في الواقع سلوكا ونهجا واختياراً لا رجعة فيه؟ المستقبل القريب يحمل الأجوبة. والريف حفر اليوم في أذهان المغاربة أنه "ما ضع حق وراءه طالب يحتج لانتزاعه".