منذ خروجه من الحكومة، بات حزب الاستقلال مهتما أكثر بالتأطير الثقافي والفكري لمناضليه، تزامنا مع احتفاله بذكرى الثمانين لتأسيس نواته الأولى، إذ دعا من داخل كلية الحقوق أكدال يوم الجمعة الماضي، في ندوة علمية، إلى التفكير في آفاق 2024، عبر استشراف «تحولات المشهد السياسي الوطني خلال العشرية المقبلة»، وتحديد «الفرص ومصادر القلق بالنسبة إلى المغرب» في سياق التحولات الدولية الراهنة. أولى التحولات التي يجب رصدها تلك التي تتعلق بالجوار الإقليمي. حسان بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية، أبرز أن هناك جوارين للمغرب: الأول «جار يفرض تحديات ويتيح فرصا»، يتمثل في إسبانيا بامتدادها الأوربي الغربي، والثاني «جار يفرض تهديدات ومصدرا للعوائق»، تمثله الجزائر بامتداداتها في المغرب الكبير ومنطقة الساحل. الجار الأول يفرض تحديات لها امتدادات في الحاضر، يقول بوقنطار، أبرزها مشكلة الثغور التي تحتلها إسبانيا، ومشاكل الهجرة، أما الوضع المتقدم فلابد أن ينتقل إلى «التبادل الحر المعمق»، وتحديات حقوق الإنسان والحكامة، غير أن انحصار أوروبا جيوسياسيا في العقد القادم، «يمنحنا فرصا كبيرة، لكنه في المقابل يطرح علينا الكثير من التحديات». أما الجار الثاني فهو على خلاف ذلك، «يتأرجح بين الاستقرار وإكراهات الانتقال»، سواء في الجزائر التي تعيش مرحلة غموض، أو ليبيا التي قد تسقط في الفوضى، أو تونس التي تُدبر إكراهات الانتقال، مما يعني أن «حلم المغرب الكبير بات يبتعد أكثر» بحسب بوقنطار. وفي قلب هذه التحولات تبقى قضية الصحراء هي التيرمومتر بالنسبة إلى أي استراتيجية إقليمية للمغرب. خاصة وأنها باتت في الجزائر آلية لصنع التوافق داخل طبقتها السياسية، ومن المستبعد أن تقدم فيها تنازلات في فترة ما بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة. ومن نتائج ذلك أن التنافس بين المغرب والجزائر سيستمر، وسيمتد من المنطقة المغاربية إلى منطقة الساحل كذلك. وتستدعي تلك التحديات والتهديدات مجتمعة، بحسب بوقنطار، بلورة استراتيجية تقوم أولا على الاستمرار في إجراء إصلاحات هيكلية، التي «تمنحنا الاستقرار»، وهي إصلاحات تقتضي «إذكاء ثقافة المسؤولية»، ومحاربة الفساد والريع، وتكريس استقلالية الفاعل الحزبي. كما تتطلب بلورة سياسة عمومية بخصوص قضية الصحراء، والتفكير في خطة من أجل الرجوع إلى الاتحاد الإفريقي. العودة إلى إفريقيا استأثرت بمداخلة خاصة في الندوة، حيث دعا عادل الموساوي، أستاذ العلاقات الدولية والمختص في الدراسات الإفريقية، إلى بلورة استراتيجية مغربية خاصة تجاه الساحة الإفريقية، التي تشهد اهتماما متزايدا بها من قبل الدول والقوى الدولية. وقال الموساوي إن إفريقيا مرشحة لأن تشهد «احتضان تضارب وتكامل القوى الدولية التقليدية» مثل أمريكا وأوربا وروسيا، وأيضا صعود دول «البريكس» ممثلة في البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا. كما أنها تعيش على وقع «بروز قوى إقليمية إفريقية» مثل جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا وإثيوبيا، بما يعنيه ذلك من بروز نخب إفريقية لها منظور جديد لدور القارة الإفريقية. إن هذه التطورات تقتضي من المغرب، يقول الموساوي، التفكير في كيفية الالتفاف على المحور الثلاثي (الجزائر، نيجيريا، جنوب إفريقيا)، وترميم محور (المغرب موريتانياالسنغال)، لأن المغرب مطالب بتعزيز دوره الحيوي في منطقة جنوب الصحراء الكبرى. ومن ثم، فهو بحاجة إلى دبلوماسية فاعلة، قادرة على مجابهة ثلاثة تحديات تواجهها دول القارة، وهي الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة، المسؤولة عن تنامي الأزمات السياسية. واعتبر الموساوي أن ملف الهجرة قد يكون مدخلا مناسبا لتفعيل الدور المغربي، خاصة وأن بلد مستقبل ومصدر للمهاجرين، ويقتضي موقعه بلورة سياسة عمومية في هذا المجال. وتقتضي أي سياسة في هذا المجال تفعيل الدبلوماسية الموازية، ودعم البحث العلمي بخصوص القضايا الإفريقية، والحضور في النقاش السياسي والفكري هناك، وتعزيز مكانة المغرب في المنتديات الدبلوماسية الخاصة بإفريقيا. واعتبر الموساوي أن المغرب يفتقر لحد الآن «للوضوح الاستراتيجي» تجاه إفريقيا وقضاياها، وتتسم تحركاته بالظرفية وردود الفعل، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تصور شمولي. اقتصاديا، يملك المغرب خطة واضحة منذ حكومة إدريس جطو، يقول عادل الدويري، وزير سابق وعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، لكنها خطة يبقى «نجاحها رهين بتقوية الإدارة العمومية»، ورهين كذلك ب»هيكلة حكومية تفهم بسرعة وتقرر بسرعة»، وهو «ما نفتقده اليوم»، يقول الدويري في نقد مبطن لحكومة بنكيران. الدويري قال إنه في عهد حكومة جطو تم وضع خطة اقتصادية بناء على اختيارات حددت أربع كتل جغرافية هي أوربا وإفريقيا والمغرب العربي ومنطقة الخليج، لكنها قررت التركيز على «قطاعات محددة، وُضعت لها مشاريع مهيكلة ومؤطرة تقنيا»، وهي خطة تركز على «مهن القرب، وعلى المهن العالمية»، تتمثل في مهن السياحة، ومشتقات الفوسفاط، والمواد الكيماوية، والنسيج والملابس، ومكونات السيارات، ومكونات الطائرات، وترحيل الخدمات، والأجزاء الإلكترونية، وكشف الدويري أن هذه الخطة، وبعد 10 سنوات من وضعها، تمنح المغرب 80 في المئة من العملة الصعبة التي يتوفر عليها. ولنجاح هذه المهن، وبالتالي، الخطة الاقتصادية تم وضع توازن دقيق بين الإنتاج والاستهلاك، وتشجيع التصدير في هذه المهن، لكنه نبّه إلى أنه منذ 2011 «فقدت بلادنا هذا التوازن». الحل اليوم هو أن تقوم حكومة بنكيران بتحليل المؤهلات التنافسية، لأن ما قامت به حكومة جطو سنة 2004، أصبح متجاوزا بعد عشر سنوات، بل إن المغرب «مدعو إلى تحليل متواصل للمؤهلات التنافسية». خاصة وأن المعطيات والتحولات تشير إلى أن المغرب بحاجة إلى اتفاقيات تبادل حر مع دول إفريقيا الغربية، والانتقال إلى جيل جديد من الإصلاحات الاقتصادية.