تتفق مجموعة من الدراسات الاستشرافية، على أن مركز ثقل خارطة العالم السياسية والاقتصادية دخل مرحلة "انزلاق" لا رجعة فيها. وإذا كانت هذه الدراسات تختلف في تحديد أفق هذا التحول الجوهري، فإنها تتقاطع في توصيف التطورات الثقيلة التي ميزت المشهد الدولي على امتداد السنوات القليلة المنصرمة، وعلى محورية تداعياتها في تحديد معالم العالم خلال السنوات المقبلة. هذا جزء من أرضية النقاش التي اجتمع حولها ثلة من الأكاديميين والباحثين والمختصين والخبراء، يوم الجمعة الماضي في الندوة العلمية الأولى التي نظمها حزب الاستقلال بجهتي الرباطسلا زمور زعير، والغرب الشراردة بني حسن، تحت عنوان "التحولات الدولية في أفق 2024: الفرص ومصادر القلق بالنسبة للمغرب". في إطار الاحتفالات بالذكرى الثمانين لتأسيس النواة الأولى لحزب الاستقلال، وإطلاق الدراسة الاستشرافية لتحولات المشهد السياسي الوطني، للإسهام في معالجة الاشكاليات التي سيعرفها المغرب خلال العشر سنوات القادمة. المغرب وتحديات الجوار الإقليمي في هذا السياق نوه أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، الحسان بوقنطار، بأن احتفالات الحزب بهذه المناسبة، لم تبق مشدودة إلى الماضي بل سعت إلى استشراف المستقبل لبناء تصور مجتمعي يأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يشهدها محيط المغرب. مشيرا أنه يصعب توقع ما ستحمله السنوات المقبلة، حيث إن التاريخ والسير الإنسانية والأحداث التي شهدها العالم في السنوات الماضية، تظهر أنه لا أحد كان يتنبأ مثلا بانهيار الاتحاد السوفياتي، ولا باندلاع ما سمي بالربيع العربي. لذلك يضيف بوقنطار، إذا لم تكن لنا القدرة الكافية رغم تطور ما يسمى المستقبليات فهذا لا يعني أننا سنبقى مكتوفي الأيدي بل إن المستقبل معروف يصنعه الحاضر، وهذا سيكون منطلقنا. وأكد ذات الأستاذ المحاضر، أن جوار المغرب هو في الحقيقية، لا يتعلق بجوار واحد بل بجوارين الأول، يتيح له فرصا ويفرض عليه ضغوطات لمسايرته، تمثله إسبانيا بامتدادها الأوربي والأورومتوسطي. وجوار ثانٍ، لا يطرح فقط تحديات ولكن أيضا تهديدات، تمثله الجارة الجزائر، بامتدادها في المغرب الكبير الذي "دخل منطقة الزوابع"، وفي منطقة أخرى كبير (7،8 مليون كلم) مليئة بالتهديدات هي الساحل الصحراوي. وبين بوقنطار، أن هناك تحديات سيواجهها المغرب على المستوى الأوربي متمثلا في الجارة إسبانيا وامتداداتها خلال العشر سنوات القادمة. وهي أولا، مشكل الثغور التي ما تزال تحتلها سبتة ومليلية والجزر الجعفرية. ثانيا، الهجرة التي تطرح إشكال كيفية التوفيق بين تحسين شروط التنقل والحركية وبين مطلب أوربي هو مبدأ الترحيل، الذي يملي على المغرب لعب دور الدركي بما يطرح من مشكلات. التحدي الثالث، تحديد وجهة المغرب مع أوربا بعد الوضع المتقدم. في هذا السياق، ذكر بوقنطار بما يسمى التبادل الحر المعمق، الذي يطرح سؤال ما الأفق الذي سنصله في هذه العلاقات، ثم التحدي الرابع، وهو الحيوية التي تتمتع بها أوربا بالنسبة للمغرب رغم انحصارها الجيوستراتيجي، والتي ستستمر في ممارسة ضغوطها على المغرب من أجل تحسين مؤشرات الحكامة في ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتي يخوض المغرب معارك مستمر حول التقارير التي تصدرها مؤسسات أوربية خاصة في ما يخص مشكل الصحراء. حلم بناء المغرب العربي يبتعد.. وتابع أستاذ العلوم السياسية، أن قدر المغرب هو أن أوربا تمنحه فرصا وتجعله لا تطرح تحديدات ومشاكل، والتحدي الذي تحمله السنوات القادمة هو ضرورة الإصلاحات. مؤكدا أن جوار الجزائري، هو الذي سيطرح تحديات كبيرة على المغرب يمكن أن تصل درجة التهديد، لسبب بسيط وهو أن ما يسمى بمنطقة المغرب الكبير أصبحت الآن تتأرجح بشكل كبير بين الاستقرار والفوضى، وحلم المغرب العربي الكبير يبتعد بشكل كبير. وعلل بوقنطار ذلك، بأن أولوية عدد من دول المنطقة أصبحت هي إعادة بناء نفسها، فإذا استثنينا المغرب الذي استطاع تدبير المرحلة بشكل سلس فالجزائر في مرحلة صعبة تطرح تساؤلات بخصوص الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة والانتخابات الرئاسية المقبلة، وليبيا الكل يتفق أن مؤشر الإرهاب ينتقل إليها ما جعلها تعيش وضعية صعبة أمام غياب الدولة والمؤسسات القادرة على ضمان الاستقرار، وتونس في مرحلة دستورية جديدة، أما موريتانيا فنعرف الصعوبات التي تواجهها. وبالتالي يقول بوقنطار، فإن الجزائر في هذا السياق ستبقى في حالة صراع لسبب أول، هو قضية الصحراء، التي اعتمدت ويتم استغلالها لخلق توافق داخل الطبقة السياسية ولخلق نوع من التوافق السياسي، ثانيا لأن استراتيجية الجزائر في المنطقة هي إضعاف المغرب، ما يؤكد أن الجزائر لن تقدم تنازلات في قضية الصحراء و"لا أعتقد أنه بإمكاننا التقدم في التعاون وبناء المغرب الكبير إلا بالتفاعل بين السياسي والاقتصادي وحل مشكل الصحراء". وتكهن ذات المتحدث، بأن الصراع بين المغرب والجزائر سيمتد إلى منطقة الساحل الإفريقي، التي تطرح على المغرب سؤال الإمكانيات لإنتاج سياسة تواجه استراتيجية الجزائر القائمة على معطى استبعاده الذي تعتبر لأنه لا يتوفر برأيها على امتداد صحراوي في هذه المنطقة، وأنها الوحيدة التي ينبغي أن تبقى الفاعل الأساسي فيها، وقد قامت بعدة محاولات وتعتبر أن أمن الجزار مرتبطة بهذه المنطقة التي تصل فيها حدودها مع مالي مثلا إلى ألف 300 كلم. ليخلص إلى القول، بأن الجوار المغربي صعب ومليء بالتحديات سيما في ما يتعلق بالجوار الشرقي، مثلا مشكلة الهجرة التي تأتي من دول إفريقيا. مشيرا إلى ضرورة أن يكون المغرب متقنعا بعدم قدرته على الاستمرار بقوة إذا لم يواصل الإصلاحات الهيكلية. فالنموذج المغربي يشير ذات الخبير، انبنى على قدرته في مواصلة على الإصلاحات في المجال السياسي من خلال المسؤولية والمحاسبة ومحاربة الفساد، وإقرار تنافسية سياسية على أساس معايير موضوعية ورفض خطاب الابتزاز الذي يتبناه البعض باعتبارهم هم فق من يملكون الحقيقة. وحذر بوقنطار، من مخاطر الأزمة التي تهدد المغرب بتقلص محيطه وعلاقته مع الدول، موضحا أن هناك رأيين في التعامل مع الجزائر الأول، يدعو للتصعيد خاصة في ما يتعلق بإشكالية الحدود، وآخر يعتبر أن المواجهة بين البلدين مهما كانت مآلاتها فهي غير منتجة وستعطل بناء المغرب العربي. معتبرا، أن على المغرب مواصلة الإصلاح وإذكاء سياسة عمومية لتدبير قضية الصحراء من طرف جميع الفاعلين. العمق الإفريقي للمغرب.. بدوره اعتبر عادل الموساوي، الأستاذ الباحث المختص في العلاقات المغربية الإفريقية، أن المغرب يتوفر على رصيد متين في إفريقيا من حيث العلاقات والروابط التي تعود إلى قرون مضت، فضلا عن هويته الإفريقية التي تعبر عن نفسها في البعد الجغرافي ومتابعته للقارة في قضايا تصفية الاستعمار، وكذا مسألة الوحدة الترابية للمملكة. وأشار الموساوي، إلى مواجهة المغرب على امتداد العشرين سنة الماضية لعدد من التحديات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مضيفا أن المغرب خلال العشرية الأخيرة أبدى مؤشرات ثقافية، اجتماعية وسياسية للقارة الإفريقية، وما زال المحدد السياسي هو المتحكم في هذه العلاقات مما يطرح إشكالية غياب الانسجام مع المحددات الأخرى رغم بوادر المراهنة على العلاقات الاقتصادية. وأكد ذات الباحث، أن هناك تحكم للجانب الظرفي في هذه العلاقات وعدم وضوح أو تصور استراتيجي متكامل في تعامل المغرب مع مصالحه الحيوية في أفريقيا. فما هي أهم الرهانات والسبل والآليات الكفيلة بتطوير وتفعيل هذه العلاقات، وبناء سياسة مغربية إفريقية متكاملة؟ رهانات ينبغي على المغرب كسبها في ما يتصل بالرهانات، شدد الموساوي، على أن ضرورة التغيير الموجه وهو تغيير السياسة الخارجية في مستوى الاهتمام في منطقة مع استمرار السياسة الخارجية مع تغيير واضح في الأدوات والآليات، مشيرا إلى حتمية تكييف المغرب لإستراتيجيته مع استراتيجية القوى الكبرى في المنطقة، وفق ما يعرف بالتغيير الموجه استمرار التوجهات السياسية الخارجية الكبرى مع تغيير في الأدوات والاستراتيجية. مضيفا أن هذا المفهوم سيكون مفيدا في تكييف العلاقات المغربية الإفريقية، والرهانات الجديدة التي تعرفها القارة على الصعيد الدولي والجهوي وما يسمى "العبروطني". على الصعيد الدولي تحدث موساوي، على ضرورة تكييف المغرب مع القوى الكبرى وما يعرف بالقوى الصاعدة التي تبحث عن تقوية مكانتها الاستراتيجية في سياق عملية توزيع القوى في العالم على صعيد ديناميكيته وأطرافه، مما يجعل من إفريقيا محلا لتضارب هذه القوى. على الصعيد الجهوي، الساحة الإفريقية في نظر موساوي، أصبحت تعيش على إيقاع متغيرات إقليمية لم تكون واضحة إبان الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، تتمثل في بزوغ قوى إقليمية تتطلع للعب أدوار تنافسية حول الزعامة على مناطق النفوذ وكسب المزيد من التموقع مثل جنوب أفريقيا ونجيريا وكينيا وإثيوبيا، فضلا عن ظهور قيادات ونخب إفريقيا أصبحت تعيد النظر في تحالفاتها الجهوية والإقليمية. كما يرى ذات الباحث، أنه يمكن النظر إلى تطور علاقات المغرب بدول أفريقيا جنوب الصحراء على مستويين: أولا، الالتفاف على ما يسمى بالمحور الثلاثي المكون من الجزائر، جنوب أفريقيا ونيجيريا. والذي ما زال ضاغطا على المغرب، وذلك عبر البحث عن تحالفات ضاغطة قوية وهنا يمكن أن تتم المراهنة على بناء تحالفات أو العمل على تحييد بعض الدول داخل هذا المحور الثلاثي. المستوى الثاني، هو ترميم محور الرباطنواكشوطدكار، وتصفيته من بعض التصدعات والتقلبات سيما مع الجارة موريتانيا. ولكسب هذا التحدي فإن المغرب، مطالب بتعزيز حضوره ف منطقة الساحل والصحراء رغم المؤشرات الإيجابية التي تؤكد على عودته القوية لهذه المنطقة من خلال تكثيف الزيارات الملكية والدبلوماسية الإنسانية وتفعيل العلاقات الثنائية والمساندة العسكرية بفعل أهمية هذه المنطقة الجيوستراتيجية. وشدد ذات المحلل، على ضرورة استغلال المغرب للمتغيرات التي تعرفها المنطقة متمثلة في انهيار نظام القذافي والتهديدات الإرهابية في المنطقة رغم المقاومة الجزائرية لهذه العودة، والتي تحتم على المغرب بناء دبلوماسية فاعلة، والتدبير العقلاني للمشاكل العابرة للحدود مثل الإرهاب الجريمة المنظمة ومشكل الهجرة المطروح بإلحاح الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في استراتيجية المغرب. محركات النمو الاقتصادي على المستوى الدولي من جهته شدد الحاج الزاهد، أستاذ الاقتصاد الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط، على أن العالم العربي والإسلامي يتطور منذ قرنين تقريبا في ظروف صعبة، لكن الأهم هو استشرافه للمكان الذي سينتقل إليه، وهو المستقبل الذي يطلب تفكيرا في مَنْ هم الفاعلون الأساسيون في العالم؟ وما هي القطاعات المنتجة التي تعطي ثروة؟ وأين تحدث التحولات والتصدعات الكبرى في هذا العالم؟ وأشار الزاهد في هذا الصدد، لوجود ثلاثة ثوابت أولا، الاقتناع بأنه لا وجود لوضع لا يتغير حيث ممن الممكن أن تكون في الأعلى وتصير في الأدنى أو العكس، مستشهدا بنموذج كوريا الجنوبيةوالصين التي كان اقتصادها لا شيء قبل 20 سنة. ثانيا، هو ما يوضحه التاريخ من كون الدول التي تغلق عملية الترقي الاجتماعي (مجتمع مؤسسات مفتوحة) يبدأ في الانحدار. ثالثا، ليست هناك دولة تطورت بدون دور الدولة، معطيا نموذج كل من ألمانيا واليابان في القرن 19. كما جعل الزاهد، لمكان التنافس في العالم 4 خصائص: أولا، الثورة التي يشهدها مجال الإعلام والاتصال التي تجعل من أدوات الاتصال أساس العيش والإنتاج. ثانيا، ما يسمى بساط العالم، ومعناه أن مجموعات في العالم يمكن أتتميز على أخرى بغض الطرف على معايير الشهر والعالمية المعروفة فالعالم انبسط في وجه من يحسنون فهمه. أما العنصر الثالث في رقعة التنافس بحسب نفس المحلل الاقتصادي، فهو "تَعَوْلُمُ" سلسلات الإنتاج أي تضافر مجموعة من المناطق الصناعية في سلسلات إنتاج عالمية بكلفة أقل، فالتجارة تحدث في البضائع الوسيطة التي تعاد صناعتها. رابعا، التعاقد واللاخطية، ومعناها أنه لم يعد من الممكن أن نتوقع بشكل كافٍ ماذا سيحدث حيث إن حدثا بسيطا يمكن أن يعطي تحولا كبيرا على مستوى العالم، مثال ذلك اندلاع ما سمي بالربيع العربي من حدث بسيط هو ما وقع في تونس للبوعزيزي. تحولات ستحدث كما أجمل الزاهد، التحولات التي ستحدث في ثلاثة أنواع: جغرافية، قطاعية وسيكولوجية، حيث كان القرن التاسع عشر هو لبريطانيا في التحولات الجغرافية والقرن العشرين هو قرن أمريكي أما القرن الحادي والعشرين فهو قرن آسيوي، كانتقال نحو إفريقيا التي يجب أن نتوقع أن يصل دورها حوالي 2080 لأن هذا التداول هو من سنة الله. والأساسي الذي يجب أن يأخذه المغرب كمعطى، هو أن آسيا أصبحت لاعبا أساسيا في العالم لأن الصندوق الدولي يقول، إن أغلب مبادلاتنا التجارية كانت مع أوروبا وهي شريك غني لكنه لا يزداد غنى، بعكس آسيا التي تزداد غنى ليس بالصادرات ولا بالناتج الخام وإنما بالواردات، مثال ذلك ازدياد واردات الصين خلال خمس سنوات بمائة 17 في المائة عكس أوربا التي لم تزد وارداتها سوي بحوالي 27 في المائة. وأكد الحاج الزاهد، على ضرورة إدماج تقنيات الاتصال في كل مناحي الحياة كيف نعيش ونواصل العيش وكيف نموت، حيث سيتم ربط الناس والمعطيات الواسعة. وهنا تطرح ضرورة استغلالها. وهناك أيضا البيئة التي تتيح فرصا كبيرة وكذلك الاستجابة لهذا العالم التقني، التي يتطلب تكوين كفاءات أفقية، أي كفاءات تستعمل في جميع الظروف وتظل صالحة مع تطورات العصر لا تكون حبيسة تخصص ضيق. وختم الزاهد مداخلته، بضرورة أخذ المغرب بعين الاعتبار للتغيرات السيئة التي يمكن أن تحدث، والكيفية التي يمكن أن نواجه بها الأحداث الطارئة ذات النتائج الكبيرة، وكذلك كيف يمكن أن نتوفر في المغرب على مدن وبيئات للتجديد والابتكار.