لم يأخذ الرأي الفقهي، الذي خرج من مؤسسة المجلس العلمي الأعلى حول الردة، حقه من الاهتمام والمناقشة، وحتى القراءة المعمقة لرأي تجاوز الحكم التقليدي، الذي كان يرى في خروج المسلم من دين الجماعة المسلمة ردة توجب القتل. الرأي الجديد للمجلس ذهب إلى اتجاه جديد يقول بحرية الاعتقاد، وبأن الاحتكام في هذا الباب إلى القرآن الكريم وليس إلى تأويلات السنة النبوية، فالقرآن يجزم بالقول: «لا إكراه في الدين…». المجلس العلمي الأعلى بهذا الرأي صحح فتوى كانت قد خرجت من محرابه قبل سنوات، تذهب عكس هذا الاتجاه تماما، وجاء فيها: «أما بالنسبة إلى المسلمين في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقده ودينه.. ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك الخروج عن دينه، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة… ووجبت إقامة الحد عليه، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‘‘من بدل دينه فاقتلوه''». ولتقفل الباب على أي اجتهاد، أضافت فتوى المجلس: «ولا يجوز الخروج عن هذه الأحكام الشرعية أبدا بشيء من التفسير والتأويل البعيد تحت أي ذريعة، ولا الخروج عنها ولو قيد أنملة». كنا في هذه الجريدة أول من نشر هذه الفتوى، وبدت صادمة بعد تسليط الضوء عليها. الآن راجع المجلس نفسه تحت الضغط السياسي من جهة (أول صلاة جمعة حضرها الملك محمد السادس بعد نشر الفتوى كان موضوعها مخصصا لحرية المعتقد والدفاع عن الإسلام المنفتح)، وتحت الإلحاح الحقوقي على المؤسسة الدينية الرسمية بضرورة الانخراط في العصر، وضرورة الاجتهاد والخروج من الثقافة التقليدية، التي تجعل من آراء القدماء مرجعا لا يجوز الخروج عليه، وكأن الزمن توقف في عصرهم، وفهم مقاصد الرسالة انتهى بموتهم، وما على الخلف من العلماء إلا التنافس في تقليد السلف من الأئمة. بعد هذا راجعت أكثر مؤسسة محافظة في البلد موقفها من أكثر القضايا تعقيدا اليوم.. «حرية المعتقد». هنا جاءت وثيقة سبيل العلماء التي أقرت بحرية الاعتقاد، وربطت بين الحديث النبوي عن قتل من بدل دينه وأسباب نزوله أو وروده، وهو الأمر المتصل بواقع الحرب، حيث كان تغيير الدين زمن حروب النبي (ص) مرتبطا بتغيير الولاء للجماعة، والانتقال من جيش إلى آخر، ومن خندق إلى آخر، فيصبح تغيير الدين هنا بمثابة الخيانة العظمى للدولة زمن الحرب في وقتنا الحالي. ومن المعلوم أن هذه الجريمة يعاقب عليها بالقتل في جل دول العالم إلى اليوم. وتأسيسا لحرية الاعتقاد، نقرأ في وثيقة المجلس العلمي الأعلى: «وإن من أبرز الحقوق والحريات التي كفلها الدين للإنسان حق وحرية الإيمان نفسه، كما هو مقرر في صريح القرآن: ‘‘لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي'' [البقرة: 255]،‘‘وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر'' [الكهف: 29]. فبعد التذكير والبيان وظهور الحق من الباطل والرشد من الغي، تبقى على الفرد أو الجماعة مسؤولية الاختيار… وذلك من غير إكراه ولا إلزام على هذا الاختيار. ولقد كان القرآن الكريم يتنزل مذكرا رسول الله (ص) مرارا بهذا الأمر لما كان يجد في نفسه من عدم استجابة قومه: ‘‘فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر'' [الغاشية: 22]، ‘‘أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين'' [يونس: 99]، وهذا سر من أسرار قوة هذا الدين حين يؤمن الفرد اختيارا واقتناعا بكلماته، وبسلطان من داخله لا من خارجه، إذ قوته في الكلمات التامات نفسها». فرق كبير بين الفتويين الأولى والثانية، وقد صدرتا عن المجلس نفسه والتركيبة ذاتها، وهذا ليس عيبا، وإن كان البعض قد استغربه، واتهم المجلس بالتبعية للسياسيين وغياب الاستقلالية لديه، لكن هذا ليس مهما الآن. المهم أن علماءنا الإجلاء فتحوا عقولهم على العصر، وآذانهم للمجتمع من حولنا، حيث صار الإسلام في قفص الاتهام ظلما وعدوانا، بفعل توحش داعش وإرهاب القاعدة وتطرف السلفية الجهادية وانغلاق الوهابية وجمود الإخوانية. بهذه المناسبة، لا بد من إبداء ثلاث ملاحظات على هذه النازلة بسرعة يقتضيها المقام والمقال. أولا: هذا الرأي الجريء، والذي فيه اجتهاد أصيل بدأه علماء آخرون في مصر والسودان وإيران وماليزيا، مؤشر إيجابي على أن علماءنا استيقظوا من سباتهم العميق، وخرجوا من ثقافة التقليد إلى ثقافة التجديد، حتى وإن كان مجتمعنا محافظا، ومتأثرا بنمط التدين المشرقي المحمول على أكتاف البترودولار وآلاف القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي تسوق التشدد والتطرف والانغلاق. ثانيا: هذا الرأي التجديدي في حرية الاعتقاد، الصادر عن المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه الملك باعتباره أميرا للمؤمنين، هو أفضل عنوان عن الدور المطلوب اليوم من مؤسسة إمارة المؤمنين أن تلعبه في الدفع في اتجاه ترشيد التدين، وإرساء دعائم الوسطية والتجديد في المنظومة الفقهية والتشريعية الإسلامية، وفي إبعاد الدين عن الاستغلال السياسي، من قبل الجماعات الدينية أو الأحزاب السياسية، أو حتى السلطة الحاكمة، التي لها سوابق غير حسنة في توظيف طربوش أمير المؤمنين في الصراع مع أحزاب المعارضة، كما فعل الملك الراحل الحسن الثاني، الذي جعل من الدين الرسمي سلاحا ضد معارضيه، وقيدا على فكر مجتمعه وتطوره. ثالثا: لم نسمع أي أصوات معارضة لفتوى «حرية الاعتقاد» صاعدة من التيارين الرئيسين وسط الإسلاميين المغاربة، وأقصد حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح من جهة، وجماعة العدل والإحسان من جهة أخرى. التياران معا إما سكتا عن الموضوع، أو أيدا هذا التوجه، وهذا أمر إيجابي في كل الأحوال، ومعناه أن «الإسلام الرسمي» و«الإسلام السياسي» بينهما نقاط التقاء وتقاطع، وكلاهما يعيش تحت وقع التحولات الجارية حولهما، داخليا وخارجيا، في عالم أصبحت ثقافته مبنية على ثلاثة ثوابت كبرى تخترق كل الدول والحضارات وأنماط التفكير، وهذه القيم هي: الحرية والسلام والرفاهية.