لَمَّا أجَابَ جُحَا المريض طَبِيبَهُ بِأنّهُ يُدَخِّنُ، نَصَحَهُ أن لا يَفْعَلَ وَتَقَاضَى أتعابه. تلقَّفَ جُحَا الوصفة السحرية، وارتدى بذلة الطبيب. فلما أجابه زبونه العليل بأنه لا يُدَخن لم يَجد جُحَا جَوَاباً وقال له: اسمع يا هذا، عليك بالتدخين، ثم الان بهذا الأسلوب الفريد أسّس جحا مدرسة إصلاحية في العلاج صَمَدَتْ زمنا طويلا. في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بصمات لجحا الطبيب، يتلخص مصل العلاج في عدم الإكتراث بأسباب الداء ومصادره عن طريق التشخيص الدقيق. يكفي أن تترك المبادرة الحرة للمريض كي ينقذ نفسه بنفسه، وتقف وراء هذا الأسلوب في الإصلاح إرادتان: إرادة تخشى الإحاطة بالموضوع واستكناه عمقه درءا لما قد ينجم عن تعميق البحث من مفاجآت لا تسرُّ عَدُوّاً ولا حبيباً. ولجحا قاعدة عاملة في هذا المنهج: فهو لمّا وقف أمام الناس في السوق يبيع محتوى جَرّةٍ، ظَاهِرُهَا عَسَلٌ وباطِنُها نِفَاياتٍ، قال لمن حاول غَرْزَ أُصبعه للتذوق: قِفْ يا هذا، ستصل إلى ما لا تُحْمَد عقباه !! أما الإرادة الثانية فهي بحكم التجربة فسرت أدواء الناس والمجتمع بأنها أعراض مزمنة غير قابلة للعلاج، والمرضى استأنسوا بعللهم، وهم إما يائسون أو هالكون لا محالة، فلا داعي للقلق: ولذلك يبقى المتسول متسولا في الشارع العام إلى أن يَقْضِي، واللص في حركة نشيطة داخل أسوار السجن وخارجها إلى أن تعجز يداهُ وعَقلُه عن النشل، والمثقف يظل يلاجج ويحاجج بدون هدف حتى يُصاب بالصلع والخرف والعقم، وينادي عليه من أعالي السماء أنْ لَبِّ نداء رَبّكَ !! وبين الإرادتين معا: إرادة الخشية من افتضاح سر ما، وإرادة اترك ما كان على ما كان، تنتصب إرادة تضمد الأوجاع واللهيب والغصة والعطش بالماء السلسبيل الذي تجري به الأنهار، فتتولى البطون دور الإصلاح مَكَانَ العُقُول !! ولذلك، فعندما انتهى الفنان التشكيلي البارز من تقديم معرض لوحاته، تقدم منه جاره الطبيب الجراح المشهور قائلا: «أعجبت وزوجتي برسوماتك، لنا رغبة في إعادة طلاء الفيلا، وقد وقع اختيارنا عليك بحكم الجيرة والإتقان». لم ينتظر الفنان كثيرا كي يجيب وقال: «طلبَ مني سكان الحي أن أجِد لهم طبيبا يعالج كلب الحراسة الذي أصيب بجروح غائرةٍ، وقد فكرت في هذه اللّحظة فيك أنْتَ جَارِي العَزيز». يجني المجتمع الويلات عندما لا يؤمن بالكفاءات، ويولي ناصية أمره لأمثال هؤلاء. أمّا الدكتور جحا، فعنْدما كان يغالب سكرات الموت، همس في أذن الفقيه قائلا: اسمع يا هذا، وصِّيتِي أن أدفن في قبْر قديمٍ سبق استعماله، استغرب الفقيه فرّدَ عليه جحا: «أريد أن أسْتغفِل عَزْرائيل لَيْلة ربط المسؤولية بِالحسابِ، فيعتقد أنه سبق أن اسْتَنْطقنِي ابتدائياً وتفْصِيلياً وَطَوى صَفْحَتِي فأُعفَى من العقاب». ذُهِلَ الفقيه وقال: «سبحان الله: لاَ يريدُ مَسْؤوليةً ولاَ حِسابا في الدّنيَا، ولاَ يُرِيدُ مَسْؤولِيةً ولاَ عقاباً في الآخِرة !!». لَمْ يَسْمع جحا كلام الفقيه، مات وترك من يحمل رسالته: بِذْلَتَه طَبِيباً مداوياً، وَجَرّتَهُ المليئة بِالْ.... !!!؟