م يجد مسيلمة الكذّاب مَالاً يُقَدِّمُه صَدَاقًا لمن خَطَبَها فصعد إلى المِنْبَرِ وقال: يا قوم: إنني أَعْفَيْتُكُم من أَداءِ صلاة العصر.. هُوَ ذا صَدَاقُ ابنتكمِ! آَمن الناس به، واكْتَفُوا حِينًا من الدهر بأداء باقي الصلوات! لم تَمُرْ فتوى مسيلمة مرور الكرام، فقد صعد من بَعْدِه إلى المنبر مَنْ ملأ عقول الناس وأفئدتهم بالخرافات. وإذا كان مسيلمة قد وجد نفسه عائلاً، فأفتى بما أفتى ليملأ عيْنَيهِ وبَطْنَهُ من مائدة مخطوبته، فإن زميلا له قال لِبَنِي قومه: أنتم لا تفهمون في شرع الله ولا تُطَبقونَ سننه، تعالوا معِي. حَجَّ بهم إلى بيت الله، فلّما أدّوا المناسك كَاملة، قَطع بهم مسافة تتعدى مئات الكيلومترات، ثم انزوى بِمُفْرده بِأحد الفجاج وخرج عليهم قائلا: يا قوم: في هذا المكان بالذات نزل رسول الله محمد صلوات الله عليه وسلامه، فأخذا قسطا من الراحة، فَتَيَمُّنًا بِسُنَّة النبي الكريم، مَنْ أراد مِنْكُم قَضَاءَ حاجته فَليَدَلَفْ إلى هذا المكان! ذهِلَ الناس، وسقط بَعضهم مغشيا عليه من الصدّمة والتعب! ولم يَخْرج القاضي قراقوش عن مدرسة مسيلمة والوالي، فهو عندما جلس لِيَبُِتَّ في سَرِقة مِزْمَارِ، اندهش المُتَّهمُ بِهَا لمّا رأى رجلا مخموراً يَتَقدَّمُ كَشَاهِدِ إثبات، فصاح قائلا: هذا الرجل لا يصلح للشهادة، إنه سَكَرَان سُكْراً طافِحًا. زَعَقَ في وجهه قراقوش قائلا: الشهادة مِنْ جِنْس المشهود فيه، وَهِي هُنَا في مِزْمَارٍ، مَنْ تُريد إذن أن يشهد في سرقته؟ الإمام مالك أو الشافعي أو ابْن حنبل مثلا! العربيد السكير الماجن هو من يحضر حفلات الدف والطبل والمزمار إلى أنْ تنقشع خيوط الفجر. وهو المُؤَهَّلُ لِسَمَاعِ شَهَادته! اجتمع مسيلمة والوالي وقراقوش في فَصْلٍ واحد في مدرسة الفتوى العبثية، فإن كان هؤلاء يَسْترخِصون أمور الدين، فقد صعدت إلى المنابر فَرقٌ تشكك في كل شيء وتُعَرْقِله، ومِنْ أفرادها من أفتى بعدم جواز سماع شهادة مُرَبِّي الحمام، وَبرَّر حكمه قائلا: يا قوم... اسْمَعوا... يَضْطرُ مُرَبو الحمَام كي يُمْسِكوا بِحَمَامَةٍ فَرَّتْ من القَفَصِ، أن يقفزوا فوق أسْطح المنازل، فهم بذلك يَطَّلِعُون ويَكْشِفُون عَوراتِ النِساء، لذا فَنِيَّتُهُمْ غَيْرُ خَالِصة، وهذا سَبَبٌ كاف للتجريح! ومِن طِينَة هذا المفتي منْ يُدركُ نوايا السائلين، فيقطع عليهم الطَّريقَ، فعندما سئل أحدهم: يا فقيه، ماذا لو صَادَفَ ميعادُ تَعْذِيبُ الكافر بالآخرة يَوْمَ جُمعَةٍ وَهُو عيد المسلمين؟ أجابهم على الفَوْرِ: يُعَذَّبُ يوم السَّبْت. فَفَرُّوا من أَمَامِه بعد أن كانوا يعتقدون أن سبيل العفو هو الحل. رأى الفقيه أنه لا بد من ربط المسؤولية بالحساب في كُل أيام الأسبوع ولو في الآخرة! تعتمد الفَتَاوى الغَرِيبَة في زمننا وزمن سلفنا الدِّمَاغَ كَعُضْو خَامٍ في جِسْمِ الإنسان، فَتُعَرِّضُ المُجْتَمَعَ للويلات إِنْ عاجِلاً أو آجِلاً، وشبيهة بها عندنا: فتاوى المغادرة الطوعية، واللغة، وإعفاء الدولة من توظيف الخريجين، والقبلة العلنية، فِقْهُ الخضر والفواكه، وبدعة إحداث الجمعيات في ما يعده العُقَلاءُ عبثا! ومازال المُعْطِي يُعْطِي! الفقهاء في هذه الفتاوى لا يختلفون عن زملائهم السابقين: تافهون أو حمقى أو متطرفون أو عَبَثِيونَ، والزمن مِحَكٌّ. وهو ما نراه الآن ونعيشه. على أن فَتْوى العَصْر الحالي، فتوى النخبة الرائدة، فهي تلك التي أَتت على لِسان المُفْتِي جُحَا.. اعتلى المنبر وقال: يا قوم... سَألتُمُونِي: مَنِ الذِّي يُدِرك عظيم الثواب والأجر؟ هَل مَنْ يَسير خَلف نَعْشِ المَيّتِ أم أَمَامَهُ في جنازته؟ اسْمَعوا.. لا تكونوا دَاِخلَ النَّعْشِ وَسِيرُوا أنَّى شئتم! آمنتِ النُّخْبَةُ عِنْدَنَا بِهذه الفَتْوى، وآثَرتْ المصلحة والسَّلامة، فسارت تَارَةً على اليمين، وتَارَةً على اليَسَارِ، وَمَرَّةً سارت في الاتجاهين معا في آن وَاحِد، وأحيانا تَسْتَبْدِل اليمين بالشمال أو العكس، المُهِمُّ أنَّها ليْسَتْ دَاخِل النعش! أقنع جحا بِفَتْواهُ جيله وأجيالنا، وربما تلك التي سَتَأتِي، وكأننا بزمن أبِي العلاء المعري يتكرر أمامنا، اختلط الحَاِبل بالنَّابِل، فَصَعَد شاعر المَعَرَّة إلى المنبر وَقَال: في اللاَّذِقية فِتْنَةٌ مَا بَيْنَ أَحْمَدَ وَالمَسِيح هذَا بِنَاقُوسَ يَدُقُّ وَذَا بصَوْمَعَةٍ يَصِيح كُلُّ يُعَظِّمُ دِينَهُ يَا ليْتَ شِعْرِيَ مَا الصَّحِيح ألسْتَ تَجِدُ لكِلمة أبي العلاء مَحَلاَّ في زَمَانِنا؟ بَلى: تَجِدُهَا!